لا تنتهي الحروب بتوقف القتال

لا تنتهي الحروب بتوقف القتال

بقلم: د. علي محمد فخرو

%d8%af-%d8%b9%d9%84%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d9%81%d8%ae%d8%b1%d9%88

 

هناك ظاهرة تاريخية مفادها أن بناء المدن والمجتمعات والحضارات يحتاج لقرون، بينما لا يحتاج تدميرها إلا لبضعة أيام أو حتى لبضع ساعات في أيامنا الحالية.

نحن العرب، إذ نشاهد أمامنا ذلك الدمار الهائل الذي حدث ويحدث لمدن ومجتمعات العديد من الأقطار العربية، نحتاج أن نذكر أنفسنا بتلك الظاهرة من جهة، ومن جهة أخرى بقاعدة سياسية – اجتماعية مفادها أن الحرب لا تنتهي بتوقف القتال وسفك الدماء. ذلك أن الحرب، بسبب الدمار الذي أحدثته والفتن التي أحيتها ومشاعر الكراهية التي أيقظتها، تمتد لسنين طويلة أخرى بعد توقف إطلاق النار.

لتأكيد ما سبق فإن المؤرخين يؤكّدون أن الحرب العالمية الأولى لم تنتهِ إلا بعد أن قادت فواجعها ومضاعفاتها إلى قيام الحرب العالمية الثانية، وأن هذه هي الأخرى لم تنتهِ إلا بعد انتقال العالم إلى الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي ودول الغرب، وإن مضاعفات الحرب الباردة، حتى بعد إعلان نهايتها الرسمية، تعكس نفسها الآن في شكل حروب وصراعات إقليمية لا تنتهي في مكان حتى تشتعل في مكان آخر.

ولم نذهب بعيداً ففي تاريخنا لم تنتهِ معركة الجمل إلا عند بدء معركة صفين، وأن هذه قادت بعد ذلك إلى عدد لا يحصى من الحروب والثورات والصراعات السياسية والمذهبية التي لاتزال معنا إلى يومنا الذي نعيش.

من هنا ستحتاج مجتمعات الأقطار العربية، المنكوبة حالياً بالحروب والصراعات، تحت مختلف الرايات وصيحات القتال، ستحتاج إلى سنين طويلة لتلتئم جراحات حروبها وصراعاتها الطائفية والإثنية العبثية التي تعيش جحيمها في اللحظة التاريخية الحالية، إضافة بالطبع لبناء ما دمرته الحروب والصراعات من عمران واقتصاد.

من هذين المنظورين لن يكون هناك غالب أو مغلوب، وسيرتكب أبشع البلادات، من بين المحاربين ومن بين أنصارهم وأزلامهم، من سيعتقد بأنه سيقطف ثمار النصر الوهمي، فلن تكون هناك ثمار لتقطف وإنما فقط مذاقات المرارة وحسرات الندم.

هذا تذكير يوجه لكل نظام حكم، لكل جماعة إثنية، لأتباع كل مذهب أو دين، لأفراد كل قبيلة، لكل ممارس لرذيلة الزبونية سواء لقوى الخارج أو لرؤوس الفساد في الداخل، لضباط كل جيش عربي.

لماذا نطرح هذا الموضوع؟ نطرحه لأن حراكات الربيع العربي، التي قامت في بداياتها لتحقيق أهداف شرعية ونبيلة، قد حرفها البعض، على المستويين الرسمي والمدني، نحو المسار الكارثي العبثي الذي نتحدث عنه، والذي لن ينتهي بإلقاء السلاح وإعلان هدنة السلام. البعض فعل ذلك بسبب جهل وقلة خبرة والبعض الآخر قصد من وراء ذلك تشويه سمعة تلك الحراكات وإيصالها إلى الفشل واليأس، ومن ثم حرفها عن أهدافها النبيلة التي بدأت بها نضالها.

نطرحه أيضاً لأن المظالم التي فجرت حراكات الربيع العربي ستظل معنا لسنين طويلة، وبالتالي فإن الصراعات السياسية ستستمر في المستقبل المنظور.

لكن هل سيتعلم المستقبل من فواجع الماضي؟ هل سيجعل الجميع خيار الحرب والصراعات الدموية خياراً لايطرق إلا إذا فشلت جميع خيارات الأخذ والعطاء والتقابل في منتصف الطريق وممارسة تراكم المنجزات السياسية والحقوقية عبر الزمن المعقول، وذلك قبل الانتقال إلى طريق ارتكاب حماقات الحروب وإسالة الدماء التي ستمتدّ، كما ذكرنا، آثارها عبر المستقبل البعيد؟

نحن هنا، بالطبع لا ننفي الحق المقدس للشعوب في أن تناضل، بل وتحارب، من أجل دحر الظلم والظالمين وترسيخ قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة في أوطانها. نحن هنا نعيد التذكير بدروس التاريخ البشري، عبر القرون، بشأن تجنب الطرق الخاطئة والمسالك الخطرة عند ممارسة ذلك الحق المقدس. إذ إن جعلها ممارسة تعلي من قيمة الموت والأموات على حساب الحياة والأحياء سيؤدي إلى جعل تلك الحرب المقدسة النبيلة عبثاً في عبث.

طرق وأساليب النضال في مجتمعات العرب تحتاج إلى مراجعة، لا لإضعاف مضامين وأهداف النضال الشرعية، وإنما للارتقاء بها إلى المستويات الإنسانية السامية.

في التاريخ وفي حقائق علوم السياسة والاجتماع دروس وعبر ستعيننا على ذلك.

كاتب ومفكر بحريني

 

«الصحة» لـ “الاقتصادية” : ألغينا تراخيص 599 صيدلية في عام 1437

«الصحة» لـ “الاقتصادية” : ألغينا تراخيص 599 صيدلية في عام 1437

إلغاء ووقف تراخيص 471 مستشفى ومجمعا طبيا خاصا خلال عام

20161027-2247

عبد الله الروقي من الرياض

 

كشفت وزارة الصحة أن عدد المستشفيات والمجمعات الصحية الخاصة التي تم إلغاء تراخيصها أو وقفها في عام 1437 بلغ 471 مستشفى ومجمعا طبيا في مختلف مناطق المملكة، فيما بلغ عدد الصيدليات التي تم إلغاء تراخيصها أو وقفها خلال العام نفسه نحو 599 صيدلية.

وأوضحت وزارة الصحة لـ”الاقتصادية”، أنه تم إلغاء ستة مستشفيات منها ثلاثة مستشفيات في منطقة الرياض، ومستشفيان في كل من جدة والأحساء، والمدينة المنورة، بينما بلغ عدد تراخيص المستشفيات الموقوفة خلال عام 1437هـ سبعة مستشفيات منها خمسة مستشفيات في جدة ومستشفى واحد في كل من عسير والقنفذة.

أما على صعيد تراخيص المجمعات الطبية العامة والمتخصصة التي تم إلغاؤها خلال عام 1437هـ فقد بلغت 387 مجمعا طبيا في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، بينما تم إيقاف عدد من تراخيص المجمعات الطبية العامة والمتخصصة خلال العام الماضي بلغت 71 مجمعا طبيا في مختلف مناطق ومحافظات المملكة.

وبينت وزارة الصحة أن عدد المستشفيات في القطاع الخاص التي حصلت على موافقة أولية خلال عام 1437هـ بلغ 11 مستشفى في كل من الرياض عدد ثلاثة، جدة عدد ثلاثة، الشرقية عدد اثنان، القصيم عدد واحد، جازان عدد واحد، حائل عدد واحد، فيما تمت الموافقة على ترخيص نهائي خلال عام 1437هـ لمستشفى واحد في منطقة الرياض.

وبلغ عدد المجمعات الطبية العامة والمتخصصة والحاصلة على موافقة أولية خلال عام 1437هـ وفق بيانات وزارة الصحة 768 مجمعا طبيا في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، فيما بلغ عدد المجمعات الطبية العامة والمتخصصة التي حصلت على تراخيص نهائية خلال العام الماضي 279 مجمعا طبيا في مختلف مناطق ومحافظات المملكة.

وفيما يتعلق بإصدار التراخيص للصيدليات الخاصة، فقد صدرت الموافقة الأولية على العام الماضي لـ 783 صيدلية في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، بينما صدرت التراخيص النهائية في العام نفسه لـ347 صيدلية في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، وفي المقابل تم إلغاء عدد من تراخيص الصيدليات الخاصة خلال عام 1437هـ، بلغت 561 صيدلية في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، في حين تم إيقاف التراخيص لـ38 صيدلية خاصة في مختلف مناطق ومحافظات المملكة.

وتشترط اللائحة التنفيذية لنظام المؤسسات الصحية الخاصة، التي صدرت في 2015، أن تكون ملكية المؤسسة الصحية الخاصة ملكية سعودية، وأن يكون مالك العيادة طبيباً متخصصاً في طبيعة عمل العيادة ومشرفاً عليها ومتفرغاً تفرغاً كاملاً لها.

كما أوجبت اللائحة على المؤسسة الصحية الخاصة أن تبلغ فوراً أقرب سلطة أمن مختصة ومديرية الشؤون الصحية بالمنطقة، عن أي حادث جنائي أو وفاة تحدث للمرضى المراجعين لها أو المنومين فيها، ويشمل هذا الالتزام أيضاً التبليغ عن أي حادث جنائي ألجأ المصاب إلى طلب الإسعاف أو المعالجة فيها، كما أن عليها أن تحتفظ بسجل كامل عن الحوادث المرورية والإصابات.

 

 

 

صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

دروس مستقاة من تجربتيْ سان فرنسيسكو ولوس أنجليس

صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

the-rise-and-fall-off-urban-economies

شهد العالم منذ انطلاق الثورة الصناعية وما ترتب عليها من إنجازات في مختلف مجالات الحياة تحوّلاً كبيراً في البنية المجتمعية نتيجة موجات الهجرات التي تتالت من الأرياف إلى المدن.

وهناك اليوم للمرّة الأولى في التاريخ الإنساني أكثر من نصف سكان المعمورة يعيشون في مناطق مدينية. هكذا بلغ عدد سكان بعض المدن عدّة ملايين، الأمر الذي ترتب عليه بالتوازي بزوغ فرع من الاقتصاد يتركّز على دراسة آليات نمو المراكز المدينية الكبرى وانحطاطها.

وفي كتاب جماعي ساهم فيه فريق من أربعة أساتذة جامعيين بإشراف «مايكل ستوربر»،أستاذ المسائل العمرانية في جامعة لوس انجليس ومساهمة «توماس كيمني»، أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة «سوتامبتون» و«ناجي مكرم» أستاذ التخطيط والتنمية في جامعة لندن و«تانير اوسمان»، الباحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس.

يحمل الكتاب عنوان «صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية، دروس من سان فرنسيسكو و لوس انجليس». ويحاول المساهمون في هذا العمل الإجابة على السؤال الجوهري التالي: لماذا تحظى بعض المناطق المدينية بدرجة عالية من النجاح وخلق الثروات الاقتصادية الكبيرة بينما تراوح مناطق أخرى في مكانها أو تتقهقر إلى الوراء؟.

إن المساهمين في هذا الكتاب يركزون على دراسة تأثير «الاقتصاد الحديث» على نمو المدن الكبرى وازدهارها أو تقهقرها وتراجع نمّوها الاقتصادي وما يتبع ذلك على الأصعدة الأخرى. والفترة الزمنية التي يدرسونها بالنسبة لمدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس تمتد من سنوات السبعينات في القرن الماضي، العشرين وحتى الوقت الراهن.

وفي حالة المدينتين المعنيتين تتم دراسة كيفية الانتقال التي عرفتها كل منهما من «الاقتصاد الصناعي» إلى «اقتصاد المعلوماتية». والفكرة التي يتفق عليها المساهمون في هذا العمل هي أن سان فرنسيسكو«تميزت» على لوس انجليس بوجود «مجموعة من أصحاب المشاريع الذين امتلكوا رؤية بعيدة ومتناسقة، حيث تمّ تبنّي سياسات عامّة ترمي إلى تحسين آليات العمل بالاعتماد على الاقتصاد الرقمي».

the-rise-and-fall-off-urban-economies22

 

إن الإجابات المقدّمة في معرض المقارنة بين مدينتي سان فرنيسكو ولوس انجليس تأخذ في اعتبارها النتائج المحققة في الواقع. وهناك نوع من الاتفاق على أن سان فرنسيسكو عرفت مسارا متقدّما اقتصاديا على مدى السنوات الخمسين المنصرمة بينما راوحت لوس انجليس بمكانها «بأفضل التقديرات». والإشارة في هذا السياق أن مدينة أميركية أخرى هي «ديترويت»آلت في الفترة نفسها إلى الخراب تقريبا.

والبحث في هذا المجال عن أسباب وعوامل عديدة للصعود أو الانحطاط فيما يخص مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس وما عرفتاه من «تباين في كبير وواضح من حيث الكفاءات على ضوء النتائج الاقتصادية المحققة». والتركيز على العوامل المتعلّقة بالتكنولوجيات الحديثة والتمركز الجغرافي لبعضها مثل «وادي السيليكون»، عرين الصناعات الرقمية.

ويتم الوصول في محصّلة التحليلات المقدّمة بهذا الصدد إلى نتيجة أساسية مفادها أن «سان فرنسيسكو نجحت اقتصاديا كون أنها تملك مرونة أكبر تجعلها قابلة للتأقلم مع العالم وللانفتاح على العالم مما هو الأمر بالنسبة لعالم الأعمال الأكثر انغلاقا في لوس انجليس».

وعلى خلفية مثل هذا الواقع المتباين لم تستطع الشركات في لوس انجليس أيضا أن تبدي المقاومة الكافية لـ«زيادة الضرائب والضغوط» الصادرة من الإدارة المحلّية للمدينة أو من حكومة ولاية «كاليفورنيا».

ويولي المساهمون في هذا الكتاب بمختلف تحليلاتهم أهميّة كبيرة لذهنيّة عمل المسؤولين عن النمو الاقتصادي في النجاح الذي حققته سان فرنسيسكو خلال العقود الأخيرة قياسا بالفشل «إلى هذه الدرجة أو تلك» بالنسبة للوس انجليس. بالمقابل يقللون من مصداقية الآراء التي تعيد ذلك «الفشل» إلى وزن المهاجرين المتعاظم أو إلى «انهيار الصناعات الفضائية» في سنوات التسعينات.

وهناك عامل الهجرة وتواجد أعداد كبيرة من الذين تعود اصولهم لمختلف بلدان أميركا اللاتينية، وخاصة المكسيك وما يثقلون به على النمو الاقتصادي للمراكز المدينية التي يتواجدون بها. والإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل خارجية عن إرادة البشر المعنيين مثل الظواهر الطبيعية كالعواصف والجفاف وغيرهما من التغيرات المناخية.. هذه العوامل كانت لها آثار «مختلفة» على مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس.

ما يؤكّده المساهمون في هذا الكتاب بمحصّلة المقارنة بين المدينتين من أجل استخلاص «الدروس» من تجربتهما خلال العقود الأخيرة أن منطقة سان فرنسيسكو هي اليوم «موطن اقتصاد المعرفة بامتياز وأنها الأكثر نجاحا في الولايات المتحدة الأميركية، بينما أن لوس انجليس تراجعت كثيرا خلف جارتها الشمالية وأيضا خلف عدد من المناطق المدينية الأميركية الأخرى».

والإشارة أن لوس انجليس كانت في ستينات القرن الماضي بمثابة «منارة الصناعة الانتاجية الأميركية». وكان الخبراء قد توقعوا أنها على وشك أن تتفوق على سان فرنسيسكو على «الصعيد السكاني، الديموغرافي، وعلى مستوى الدخل والقوّة الاقتصادية وبالمحصّلة في النفوذ».

تجدر الإشارة أن المساهمين في هذا الكتاب لا يكتفون بتحليل أسباب الصعود والانحطاط بالنسبة للاقتصادات المدينية، لكنهم يقترحون سلسلة من «الإستراتيجيات الاقتصادية» و«خطط العمل» التي قد يمكن للمسؤولين عن القطاعات المدينية استخدامها. ولعلّ الأهمية الأكبر بالنسبة للخطط والإستراتيجيات المقترحة أنها تتركز على المعطيات الخاصّة والموارد المختلفة بالمناطق المعنية ولا تعتمد على المساعدات الخارجية.

إن المساهمين في هذا الكتاب يشرحون أن «العوامل الخاصّة بالازدهار الاقتصادي المديني» قد غيّرت كثيرا من مرتكزاتها، بحيث غدا اقتصاد المعرفة وآليات عمل المشاريع والمرونة في الانفتاح على العالم في ظل الثورة الرقمية بمثابة عوامل حاسمة في المسيرات الاقتصادية «ازدهارا أو تقهقرا». وهذا يصحّ على حالتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس كما في مختلف المناطق المدينية في العالم أجمع.

المؤلفون في سطور

مايكل ستوربر، المشرف على هذا الكتاب الجماعي، هو أستاذ المسائل العمرانية وتطوير المدن في جامعة لوس انجليس بكاليفورنيا. وتوماس كيميني، يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة لوس انجليس. يعمل أستاذا فيها. وناجي مكرم استاذ التنمية الاقتصادية في جامعة لندن وتانير اوسمان باحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس. أما الاخرون، فهم يعملون في عدد من المؤسسات الاقتصادية المتنوعة.

الكتاب: صعود الاقتصادات المدينية وانحطاطها.. دروس من سان فرنسيسكو ولوس انجليس

تأليف: مايكل ستوربر وآخرون.
الناشر: جامعة ستانفورد ــ 2015
The rise and fall off Urban Economies
Michael Storper and…
Stanford University Press – 2015

مواجهة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا

مواجهة «الإسلاموفوبيا» في فرنسا

islamophobia

تأليف: إيدوي بلينال

في بداية القرن الحادي والعشرين، كان كبار المفكرين الفرنسيين يدعون أن «هناك مشكلة مع الإسلام في فرنسا»، وبالتالي كان هذا الأمر يضفي الشرعية على خطاب «الجبهة الوطنية» العنصرية، وقد تعززت مثل هذه الإدعاءات مع ردة الفعل إزاء الهجمات الإرهابية في باريس في العامين الأخيرين، التي جاءت لتمثل «إحساساً مشتركاً» جديداً في المشهد السياسي، وشهدنا منطقاً مشابهاً يظهر في الولايات المتحدة وأوروبا بشكل عام.
يقف الكاتب الفرنسي إيدوي بلينال في هذا العمل بعنوان «لأجل المسلمين: الإسلاموفوبيا في فرنسا» إلى جانب مواطنيه الفرنسيين المسلمين، في وجه أولئك الذين يجعلونهم كبش فداء، لخدمة أهدافهم السياسية، ويوضح كيف أن «الأصولية الجمهورية والعلمانية» أصبحت قناعاً لإخفاء شكل جديد من ضراوة الإسلاموفوبيا. وهو هنا لا يتضامن فقط مع المسلمين، بل يدافع بشكل مستميت عن تاريخهم في تراث النضال التحرري لفرنسا، تماماً كما كتب من قبل زولا مدافعاً عن اليهود، وسارتر في الدفاع عن السود.

يحاول الكاتب الفرنسي إيدوي بلينال في عمله هذا، أن يتطرق إلى ظاهرة تنامي الكراهية تجاه المسلمين في فرنسا، ومناقشة عدد من المفكرين الذين يروجون للأفكار التي تزيد من الهوة في المجتمع الفرنسي، من خلال تقديم نماذج مسلمة ساهمت في المجتمع الفرنسي بفعالية.
ويأتي الكتاب في 94 صفحة من القطع المتوسط، ترجمه من الفرنسية إلى الإنجليزية ديفيد فيرنباج لصالح دار «فيرسو» الأمريكية للنشر، وقد نشر الكاتب عمله هذا في 2014، إلا أنه رجع وحدّثه في 2016، بعد تصاعد اليمين المتطرف الذي يصعّد من حملاته ضد المسلمين في فرنسا. ويهدي عمله إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (95 عاماً)، الذي أنار الطريق على حد تعبيره، وينقسم الكتاب إلى مقدمة بعنوان «ضد الكراهية»، ملحقة بعشرة أقسام على شكل مقالات مطولة، يتحدث فيها عن القضايا المتعلقة بالإسلاموفوبيا في فرنسا، وألحق العمل برسالتين إحداهما إلى فرنسا والثانية بعنوان لافت هو «الخوف عدوّنا».

في وجه الكراهية

تحت هذا العنوان يبدأ الكاتب عمله، ويحاول أن يوجّه إنذاراً إلى الشعب الفرنسي بضرورة عدم الغرق في مسألة تعميم الكراهية تجاه المسلمين، لأن بضعة متطرفين قاموا بعمليات إرهابية لا يمثلون الدين الإسلامي، على مبدأ «الإرهاب لا دين له»، ويذكرهم بضرورة التمييز بين الإرهابيين وأي جماعة دينية قائلاً: «لم تنتشر فقط الأفعال الإسلاموفوبية في أعقاب هجمات باريس 2015، بل انتشر التحامل عليهم، حيث تم اختزال الأمر فيهم على الرغم من تنوعهم العميق، واستغل اليمين المتطرف في فرنسا هذا الأمر، وعمل على تنميته في الأوساط العامة، ليستقطب مزيداً من الأصوات لأجل تمرير أجندته، وفرض هيمنته على الساحة الانتخابية».
ويضيف أنه في العديد من المواقف المختلفة لدى العديد من الوجوه، من ماريان لوبان إلى دونالد ترامب، الإسلاموفوبيا اليوم تنجز الوظيفة الثقافية التي كانت موجهة ضد السامية في الأمس، وهي باتت الأزمة الأخيرة للحداثة الغربية التي تسعى إلى فرض الهيمنة الإيديولوجية لهوية قومية قائمة على الإقصاء والرفض، وعدم التسامح مع الأقليات.
وبالقيام بهذا التأسيس، وتغذية التحامل ضدهم، وترويج أن «العدو في الداخل»، ولا يمكن استيعابه، فهو أجنبي، فاسد، يقوم بالتهديد وغيرها من المسميات، يمكن أن تصبح البلاد بالإجبار في هوية واحدة، بالتالي أي تعريف لها ودفاع عنها يكون من النظام الأعلى، والذي بدوره يمنع نشوء أي تحد للنظام المتأسس.

انتهازية اليمين الفرنسي

ينتقد الكاتب سياسات اليمين المتطرف في فرنسا، ويجد أنه منذ العقود الأخيرة، وهو يحاول استقطاب الجماهير من خلال تضخيم تهديد الأجانب والمهاجرين، ويجده يتغذى على العنصرية، وبثها، ويرى أن هؤلاء السياسيين من اليمين ركزوا على الخلاص قصير المدى، من دون أن يعيروا أي اهتمام بما يحدث من تشويه لصورة مواطنيهم المسلمين أو الذين ينحدرون من دول إسلامية، ويعتبر أن ما يطرحه في كتابه هذا بمثابة صرخة تحذير إلى اليمين واليسار، من أجل أن يتوحدوا لإحباط الكارثة القادمة، وهو ما لم يجده في 2015، بعد أحداث «شارلي إيبدو»، حيث أحكمت سياسة الخوف قبضتها على المجتمع، وزادت شيطنة الآخر، ما تركت آثاراً في العمل والحياة الاجتماعية، وباتت البلاد في حالة من الطوارئ الدائمة، ولم يختلف الأمر عند اليسار تحت قيادة فرانسوا هولاند ومع اليمين تحت قيادة نيكولا ساركوزي، حيث اللجوء إلى تجريد القومية الفرنسية واستخدامها كسلاح للتطهير القومي، مؤكداً أن التوظيف السياسي كان في أعلى مستوياته.
ويذكر أنه من خلال الإصرار على أن «فرنسا في حالة حرب»، بات الأمر بمثابة مسلّمة لا تحتاج إلى توضيح، والرئيس الفرنسي وقائد القوات المسلحة الفرنسية اتخذا بشكل دقيق خيارهما في 16 نوفمبر 2015، قبل لقاء البرلمانيين في فيرساي. ويشير إلى أن خطاب الرئيس الفرنسي ركز بشكل شامل على القضايا الأمنية، لكنه كان متهوراً، إذ غض النظر عن الأسباب، وبالتالي تجاهل الماضي، وكان لا يرى الحلول، ولا رؤية عن المستقبل. وجهة النظر الوحيدة التي طرحها هي الحرب المباشرة، ليست تلك التي على مسافات طويلة من البلاد، بل على الذين في المتناول، معلقاً «أن نكون من دون ذاكرة، فهذه نهاية ميتة». ويرى أن خوض الحرب المفتوحة مع تجاهل السياقات والأصول التي شكلت التهديد، هي استجابة قصيرة النظر وسوف تفشل في القريب.
ويعزو الكاتب ما يحصل إلى أن «الحدث العنيف الذي لم يسبق له مثيل، والذي بث فينا الرعب، الموجّه ضد مجتمع منفتح ومتنوع، كان ثمرة عقود من الأخطاء الاستراتيجية، من حروب أفغانستان والعراق إلى التسويات مع الأنظمة الديكتاتورية، من دون أن ننسى سوء التعامل مع القضية الفلسطينية».

جسور السلام

يسعى الكاتب من وراء مناقشاته مع مفكرين وكتّاب في الوسط الفرنسي واستشهاداته المتعددة بأقوال آخرين إلى الدفع لبناء جسور من السلام بين أبناء المجتمع، وعدم تدمير كل الروابط بينهم، ويستشهد بالقائد الاشتراكي الفرنسي جان جوريس الذي كان يعارض دخول بلاده الحرب العالمية الأولى، وكان يشتهر بمواقفه السلمية، حيث كان همّه تأمين المستقبل، فكان يمضي في آرائه بشكل علني، وقد اغتيل في 1914 بسبب تعليقاته وخطبه ومقالاته، ومن كلمات له: «أنتم تفكرون بالنصر، أما أنا فأفكر بالسلام الذي يعقبه… لا تكسروا كل الجسور، لأنه لا يزال علينا أن نعبر النهر. لا تدمروا المستقبل. حتى لو كان جرحاً عميقاً، دعوه نظيفاً، سوف يشفى، لكن لا تسمموه. دعونا نتخذ موقفاً من الكراهية».
كما يشير إلى الكاتب الفرنسي رومين رولاند الفائز بجائزة نوبل للآداب، الذي نشر في الحرب العالمية الأولى كتاباً بعنوان «فوق المعركة»، حيث جلب لنفسه انتقادات واسعة في الأوساط السياسية والأدبية والثقافية، إذ رفض فيه كل أشكال الدعم للحرب التي قادت المثقفين، الفرنسيين والألمان، إلى إنكار إنسانيتهم المشتركة، وإشاعة البربرية والهمجية، يقول عنه: «رولاند كان حينها واحداً من الأرواح النادرة التي تتخذ موقفاً ضد الكراهية». ويوضح أنه بعد انتهاء الحرب أصبح كتابه من بين الكتب التي كان الناس بحاجتها لرسم الطريق إلى المستقبل، ويستشهد بكلمات له من الصفحات الأولى: «وجدت نفسي في السنة الفائتة، غنياً جداً بالأعداء. عليّ أن أقول لهم: ربما يكرهونني، لكنهم لن يعلمونني الكراهية»، ومضى يحث القراء «للوقوف في وجه الكراهية التي تشكل خطراً مميتاً أكثر من الحرب». ويعلق الكاتب: «بعد قرن، في فترة أخرى، وبالمواجهة مع حروب مختلفة، هو الطلب ذاته الذي نحتاجه، وهو ما أسعى وأتطلع إليه في كتابي: ضرورة عدم الاستسلام للكراهية».

المراهنة على الخوف

في ختام عمله يعود الكاتب إلى ما بدأ به كتابه، ويذكر أنه في يوم الجمعة، الثالث عشر من نوفمبر 2015، كان المجتمع كله هدفاً للإرهاب: مجتمعنا، بلادنا فرنسا بكل تنوعها وتعددها، فرنسا اللقاءات والدماء المختلطة. كان هذا المجتمع المفتوح هو الذي سعت أفعال الإرهاب إلى إغلاقه، إلى إسكاته بالخوف، وإلى طمسه تحت الرعب. إنه هذا المجتمع الذي يجب أن ندافع عنه، لأجل حمايتنا. ويضيف: «يريد الإرهابيون أن يغلقوا انفتاح هذا المجتمع، ودفعه إلى الانكماش والتقوقع والانقسام، وأن يفقد طريقته في الحياة. إنها حياتنا الجمعية التي يريدون تحويلها إلى حرب أهلية ضد أنفسنا».
ويوضح أيضاً أنه مهما تكن السياقات والفترات الزمنية التي نكون فيها، فإن الإرهاب دائماً يراهن على الخوف. ليس فقط الخوف الذي ينشره في المجتمع، بل سياسة الخوف التي يثيرها في قمة الدولة، حيث يتم تحويل الديمقراطية إلى حالة من الطوارئ، وحرب لا نهاية لها، من دون جبهات أو حدود، من دون هدف استراتيجي، حرب من الردود والهجمات التي تغذي بعضها بعضاً، الأسباب والتأثيرات التي تمتزج ببعضها بعضاً من دون أن يكون لها آمال بنهاية سلمية.
ويشدد على أنه مهما يكن الأمر مؤلماً وقاسياً علينا، فلا بد من بذل الجهود في سبيل تعزيز العقلانية في مواجهة الإرهاب، إذ من الأفضل مواجهته وتجنب الوقوع في شباكه، والسير نحو عالم من الجهل يبثه الإرهاب لنشر الفوضى التي يأمل أن يحصدها ثمارها من خلال الغضب الذي يعتمل الصدور، موضحاً أنه يمكن النظر إلى تجربة الولايات المتحدة في الاستجابة لهجمات 11 سبتمبر وغزو العراق، حيث ولدت «داعش» من رحم الفوضى التي حصلت، وعلى أنقاض دولة مدنية، وجراح مجتمع انتهكت كرامته، فكلما زادت الفوضى، انتعش الإرهاب ووجد من يحتضن إيديولوجيته المسمومة.
ويتساءل: «هل يمكن أن نتعلم من هذه الأخطاء الكارثية أم أننا ماضون لتكرارها؟» مشيراً إلى أنه من الصعب دائماً طرح هذه الأسئلة القاسية في أحداث مؤلمة، إلا أنه يؤكد أن الشعب الفرنسي لن يكون قادراً على مقاومة أي شكل من التحدي الذي يفرضه الإرهاب، إذا لم يتحكم بردود أفعاله، وإذا ابتعد عن طرح أسئلة متعلقة بالسياسة الخارجية والتحالفات مع دول قمعية، وإذا لم يراقب الخطابات السياسية التي تتسم بطابع عنصري خصوصاً تجاه الإسلام، وجعله كبش فداء، فإن التفرقة وليس الوحدة هي مصيره، ومن شأنها أن تغذي الكراهية أكثر من طمأنة الشعب.
ويقول إنه «لمواجهة الإرهاب علينا أن نتحرك كمجتمع، أن نبني تماماً ما يريدون هدمه. لندافع عن بلادنا، وتنوعها القوس قزحي، علينا أن نبتعد عن جعل فئة ما كبش فداء في خدمة السياسات»، ويستشهد بالعديد من الشخصيات المسلمة التي خدمت فرنسا، حيث ساهمت في دفع الإرهاب عن المجتمع، وفي دعم الحياة العامة من خلال مشاركتها في كافة قطاعات المجتمع، حيث يرى أن قوة فرنسا وثروتها في هذا النسيج المتنوع.
ويختم بكلمات نترجمها: «في بريطانيا العظمى، عندما وقعت الهجمات عام 2005، التف المجتمع حول شعار ابتكره شاب على الإنترنت هو «لسنا خائفين». وفي إسبانيا، عند حدوث هجمات في 2004، اجتمع المجتمع الإسباني حول شعار الكفوف المفتوحة الممدودة، وغير المسلحة، ولكن مع تلك التي تمتلك عزيمة».
ويضيف: «لا. لسنا خائفين من شيء سوى من أنفسنا التي يجب أن ننير لها الدرب، ومن قياداتنا الفرنسية التي تكاد تضيعنا وتضللنا. يجب علينا أن ندافع، بشكل أقوى من أي وقت مضى، عن انفتاح المجتمع الذي يسعى القتلة إلى إغلاقه. وشعار هذا الرفض يمكن أن يكون يدين ممدودتين إلى الأعلى لاحتضان بعضنا بعضاً، يدين تتصافحان، وتترابطان».

نبذة عن المؤلف

** إيدوي بلينال، صحفي سياسي فرنسي حاصل على إشادات عالمية عديدة، ونال جائزة صحفية على عمل استقصائي له تحدى فيه أفعال الدولة الفرنسية. من مواليد 31 أغسطس 1952، قضى طفولته في المارتنيك، وشبابه في الجزائر، ودرس في معهد الدراسات السياسية في باريس. وكان مدير التحرير السابق لصحيفة «لوموند»، ومؤسس موقع صحفي استقصائي باسم «ميديا بارت»، يعالج فيه القضايا المتعلقة بالإسلاموفوبيا والصور النمطية عن المسلمين، وكذلك المسائل الإشكالية على الساحتين الأوروبية والغربية. له عدد من المؤلفات الصادرة باللغة الفرنسية في أبرز القضايا في الأوساط السياسية الفرنسية والعالمية ومنها: «الصراع لأجل صحافة حرة».

 

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

 

هل نحن على شفا الإفلاس؟

هل نحن على شفا الإفلاس؟

ehsan-buhulagah

الدكتور إحسان علي بوحليقة

«ثروة الأمم» عنوان كتاب أصدره أبو عِلّم الاقتصاد الحديث، الإسكوتلندي آدم سميث في العام 1776 أي قبل 340 عاما، يتساءل فيه عن ماهية ثروة البلدان. والفكرة المحورية للكتاب أن النظام الاقتصادي يصلح نفسه بنفسه عندما يمتلك القدر الكافي من الحرية، وهذا ما يعبر عنه في أدبيات الاقتصاد التقليدية ب «اليد الخفية». وعلى الرغم من أن ظاهرة «اليد الخفية» تدرس في أول مقرر من مقررات الاقتصاد في الجامعات، إلا أنها الأصعب فهما والأصعب تطبيقا، بل أن كثيرا ممن لم يدرسوا علم الاقتصاد دراسة منهجية، لا يدركون أن الإدارة الاقتصادية هي الأساس في توليد ثروة البلدان، والحفاظ عليها، وتنميتها، وفي نشر الرفاه الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي. وليس أدل على ذلك من أن بلدانا فقيرة بكل شيء ما تلبث أن تنتقل من حالة الفقر لحالة الثراء، مسلحة بحسن التدبير واستثمار ما لديها من مزايا. لنأخذ سنغافورة على سبيل المثال، التي كانت مُعدمة عندما انفصلت عن ماليزيا في العام 1965، ينتشر فيها الفقر والبطالة ومساكن الصفيح والعشش، الآن ترتيبها الثالثة على بلدان العالم بمعيار نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فقد تمكنت سنغافورة أن تجعل اقتصادها ينمو، نموا متواصلا متئدا بمعدل متوسطه 8 بالمائة سنويا على مدى أربعين عاما. لم يكتشف أحدٌ موارد طبيعية جديدة ولم يستقدم أحدٌ بشرا من بلدان أخرى، ما تغير هو استراتيجية اقتصادية مُحكمة نُفذت بإصرار وبشفافية، فتحولت سنغافورة إلى جنة للمستثمرين من شتى بقاع الأرض، ونما اقتصادها من أقل من مليار دولار في العام 1965 إلى نحو 300 مليار حاليا، بمعدل بطالة 2.1 بالمائة.

إذا الثروة الحقيقية لا تكمن في الموارد البشرية أو الرأسمالية أو التقنية أو الطبيعية فقط، فكلها كانت في سنغافورة قبل 1965 وبعد 1965! «السر» يكمن في جودة وكفاءة إدارة السياسة الاقتصادية. وهذا لا يعني أن سنغافورة لم تكن تعاني تحديات ومعوقات، كالأزمة الآسيوية في نهاية التسعينيات، لكن حتى تلك التحديات العاتية كانت بحاجة لاستجابة إدارية سريعة وحاسمة. وقد يُقال إن سنغافورة دولة صغيرة المساحة وقليلة السكان يمكن ضبطها والسيطرة عليها لتنفيذ سياسات اقتصادية بكفاءة، لكن ذلك القول لا يصمد للكثير من الأمثلة. لن أحدثكم عن اليابان الخالية من الموارد الطبيعية تقريبا، بل لنأخذ الصين مثلا، أكبر بلدان العالم سكانا، تمتد على رقعة جغرافية تتجاوز 9.4 مليون كيلو متر مربع. ما الذي حدث في الصين لتتحول من الفقر إلى الغنى؟ الصين لم تغير شيئا، ولا حتى نظامها الشيوعي أو مركزية المكتب السياسي! كل ما فعلته حقيقة لإطلاق ماردها الهائل أنها أصلحت سياساتها الاقتصادية قولا وفعلا، فأصبحت أكثر الاقتصادات الكبيرة انفتاحا، فانتقلت – بنكهة صينية – لاقتصاد السوق، مما جعل اقتصاد الصين يصعد صعودا خارقا، فحققت «معجزة» اقتصادية في سنوات قصيرة في عمر الأمم؛ إذ نما اقتصادها بمعدل سنوي «خرافي» متوسطه 9.5 بالمائة منذ بداية الإصلاحات في العام 1978 حتى العام 2013، وتضاعف بذلك حجم اقتصادها «الناتج المحلي الإجمالي» عشرة أضعاف، وارتفع متوسط الأجور ستة أضعاف.

وعلى النقيض فثمة بلدان تصاحبت مع الثراء دهورا ثم نكصت إلى الفقر، خذ مثلا اليونان. ففي الستينيات كانت اليونان الأعلى نموا بين دول أوروبا قاطبة! ونما اقتصاد اليونان إيجابيا حتى حلول الأزمة المالية العالمية عندما بدأت تعاني تراكم الديون وارتفاع تكلفتها وتنامي العجز في الميزانية العامة للدولة. تاريخيا كانت اليونان من أثرى دول أوروبا وأكثرها نموا، فما الذي حدث؟ في أكتوبر 2009 اعترفت حكومة اليونان أنها كانت «تُحَجم» قيمة العجز المالي في ميزانيتها، فامتنعت البنوك عن اقراضها! هل أفلست اليونان «المحتالة»؟ لا، فقد مَدَّ لها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد «حبل انقاذ» قوامه 240 مليار يورو، مقابل أن تنضبط ماليا، إذ أن سبب أزمة اليونان أن السياسة المالية لحكومتها تقوم على «السفاهة»، نعم السفاهة؛ كانت تقترض لتنفق ببذخ لم تكن تقوم بالجهد الكافي لجمع المورد الأساس لخزينتها «الضرائب» بفاعلية، فكان التهرب الضريبي منتشرا بين الأفراد وطريقة حياة للعديد من منشآت الأعمال! فمثلا أنفقت تسعة أضعاف ما أنفقته أستراليا على الألعاب الأولمبية، والفارق بينهما أربع سنوات فقط وثراء أستراليا وفقر اليونان، كما أن حكومة اليونان كانت تقترض لتدفع لموظفيها ولبرامج تقاعدهم.

عمليا، الدول لا تفلس بل تفقد القدرة على إدارة اقتصادها؛ فكما تبين الأمثلة السابقة، فدول فقيرة انتقلت للغنى كما هو حال سنغافورة، ودول كانت لقرون أغنى دول الأرض ثم انتقلت للفقر بفعل سياسات لتعاود وتسترجع مكانتها بفعل سياسات كذلك كما هو الحال مع الصين، ودول كانت مركز الثراء والتحضر لقرون في الماضي، وأثبتت حديثا قدرتها على النمو بفعل سياسات اتبعتها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تخلت عن كل ذلك وآثرت العيش على «قفا» شركائها في الاتحاد الأوروبي، فقصدت الدائنين وأهملت المدينين، فتورطت وتورط العالم معها، كما هو حال اليونان.

بلدنا، ثرواته متعددة، من أبعد بلدان الدنيا عن أن يُفلس. ليس فقط لاحتياطاته النقدية ولمخزونه من النفط ولثروات مواطنيه وفوق كل هذا ما أكرم الله سبحانه بلادنا به من احتضان مكة المكرمة والمدينة المنورة، أقدس البقاع قاطبة، ففيهما منافع اقتصادية منذ الأزل. وفي ظني أن حديثنا لا ينبغي أن يتمحور حول الإفلاس، بل عن النمو والازدهار وبحبوحة العيش، هذا ما يعنيه أن يكون لنا رؤية مستقبلية، وإلا فما مسوغ وجود رؤية إن لم تجلب الرضا والرفاه ورغد العيش للمواطن؟!

لستُ قلقا أن نُفلس، بل ألا نستطيع جعل اقتصادنا ينمو بالقدر الكافي، فتفشل الرؤية ونتقهقر اقتصاديا أمام الدول المنافسة وتلك المتربصة. إذ تشير حساباتي إلى أن علينا تحقيق نمو معدله 7.1 بالمائة سنويا بين الآن والعام 2030 حتى نبلغ هدف الرؤية بأن نصبح ضمن أكبر 15 اقتصادا في العالم، إذا فاقتصادنا، ووطننا قبل اقتصادنا، بحاجة لمن يشمر عن ساعده، ومن يعلي هممنا، فكما اقتسم آباؤنا التمرة، سنكون سويا لنعبر الصعاب، وننعم سويا بالمكاسب.

 

الموصل عبر التاريخ

الموصل عبر التاريخ

20161023-al-mawsil

خوان كول

تتركز أنظار العالم الآن على مدينة الموصل بشمال العراق، حيث تشن القوات العراقية هجوماً لاستعادتها من «داعش» بدعم من قوات متعددة تنتمي لأطياف مختلفة ومتباينة – دولية وإقليمية ومحلية. وفيما يلي عرض موجز لتاريخ الموصل عبر العصور حتى اليوم.
1 – الموصل مدينة كبيرة بمعايير الشرق الأوسط قبل سيطرة «داعش» على المدينة، كانت الموصل وضواحيها تضم على الأرجح حوالي مليوني نسمة، مقارنة مع 6 ملايين في بغداد وحوالي مليونين في البصرة. ولكن كثيرين من سكان الموصل فروا بعد وصول «داعش»، ويعتقد أنها تضم حالياً ما بين 1 و 1،5 مليون نسمة.
2 – تعتبر الموصل وريثة مدينة نينوى القديمة، وأول مرة استوطن فيها البشر كانت قبل حوالي 8000 سنة، ثم أصبحت مركزاً حضرياً مهماً قبل حوالي 5000 سنة.

ومدينة نينوى كانت في قلب الحضارات التي توالت في بلاد ما بين النهرين. وفي القرن السادس قبل الميلاد أصبحت عاصمة الإمبراطورية الأشورية الصاعدة بقيادة سنحريب ( 705 – 681 ق.م. ) الذي غزا بابل وفلسطين. وخلال ذلك القرن، أصبحت نينوى عاصمة مهيبة.
وفي عام 612 ق.م. غزا البابليون الجدد والفرس نينوى، ما أدى إلى تراجع أهمية المدينة في العالم القديم.
3 – في القرن السابع الميلادي، أصبحت الموصل جزءاً من أراضي الخلافة الإسلامية، وسرعان ما تحولت إلى مركز للموسيقى العربية، خصوصاً بفضل موسيقيها الأشهر زرياب. ويعيد بعض المؤرخين ظهور الموشحات إلى التفاعل بين الحضارة الإسلامية والثقافة السريانية المسيحية. وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، أصبحت الموصل مركزاً مهماً في أيام دولة الأتابكة، وشاركت في الحروب ضد الصليبيين.
4 – في العصر الوسيط، أصبحت الموصل مركزاً مهماً للتجارة العالمية، وشرياناً يربط ما بين المحيط الهندي، والخليج العربي، ووادي دجلة وصولاً إلى مدينة حلب في سوريا وحتى البحر المتوسط ومدينتي طرابلس (لبنان ) والإسكندرية.
5 – بعيد الحرب العالمية الأولى، لم يكن واضحاً إلى أية من الدول العربية الناشئة حديثاً إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية ستنضم الموصل. وفي ذلك الوقت، اكتشف بترول في محيط المدينة، ما أثار تنافساً بين القوتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا. وكان سكان المدينة متنوعين، حيث كان تركمان وأكراد وسريان يعيشون إلى جانب الأغلبية العربية السنية. وطمع الفرنسيون، الذين استولوا على سوريا، بالموصل، في حين أراد البريطانيون إلحاق المدينة بالعراق الخاضع لسيطرتهم. وفي ذلك الوقت، أجرت عصبة الأمم (سلف الأمم المتحدة ) مسحاً سكانياً في الموصل، ووجدت أن المدينة كانت في الواقع حاضرة تضم جماعات متنوعة في ثقافاتها وأديانها. وفي النهاية، أقنع البريطانيون فرنسا بضم الموصل إلى العراق.
6 – في عام 1936، توفي ملك العراق غازي في حادث سيارة. ومسألة ما إذا كان موته نتيجة حادث أم اغتيال لا تزال تثير جدلاً بين المؤرخين حتى اليوم. ولكن في حينه، كانت الجماهير الشعبية العراقية تعتقد أن عملاء سريين بريطانيين هم الذين دبروا الحادث. وعندما ترجل القنصل البريطاني في الموصل جورج مونك – ميسون من سيارته وخاطب حشداً جماهيرياً في محاولة لإقناع الناس بأن بلده لم يكن مسؤولاً عن موت الملك، ثارت ثائرة الجماهير وقام رجل بقتل القنصل.
وفي الواقع، كانت الموصل آنذاك معقلاً بارزاً للحركة القومية العربية، وموت الملك غازي لم يكن يبدو حادثاً معزولاً. إذ إن بريطانيا كانت تحكم العراق، بما فيه الموصل، بأساليب استعمارية وحشية، وكانت طائراتها تشن غارات متتالية. وبالنسبة لجماهير الموصل، كانت بريطانيا أيضاً هي التي أعطت فلسطين، بصفتها دولة الانتداب، إلى المستوطنين اليهود. وكثير من معلمي المدارس الفلسطينيين ذهبوا إلى الموصل بحثاً عن وظائف في مدارسها. وهناك، أخذ هؤلاء الفلسطينيون يشرحون لتلامذتهم ما كان يجري في فلسطين.
ومقتل القنصل البريطاني إنما كان في الحقيقة تعبيراً عن الغضب الشعبي إزاء الهيمنة البريطانية في العراق والمنطقة. وبعد ذلك ب19 سنة، في عام 1958، نجحت ثورة شعبية قادها ضباط عراقيون شبان في إنهاء السيطرة البريطانية على العراق. وأثناء تلك الثورة، قتل رئيس الوزراء الذي نصبه البريطانيون نوري السعيد سحلاً تحت أقدام الجماهير التي أخذت تجر جثته عبر شوارع بغداد.
7 – في العقود الأخيرة، كانت الموصل جزءاً من سلطة حزب البعث ( 1968 – 2003)، ثم جاء الأمريكيون وحكومة نوري المالكي (2003 – 2011). ثم في 2014، سيطر تنظيم «داعش» على الموصل.

أكاديمي ومؤرخ أمريكي –
موقع مدونته «إنفورمد كومنت»

الدكتور الصالح يحذر من تحول الدين إلى وهم

الدكتور الصالح يحذر من تحول الدين إلى وهم

 

dr-aslaleh

حذر الدكتور هاشم الصالح من خطورة تحول الدين إلى وهم، مؤكدا على أهمية التفريق بين الدين والتدين والتعرف على الطريق المستقيم الذي يمشي فيه كل حسب جهده.

وأوضح الصالح في محاضرته ”كيف نفهم الدين“ التي ألقاها في ”ملتقى سفينة النجاة“ للسيدات مساء الثلاثاء بمنزل الدكتورة نجاة النزر بالدمام، أن الدين مقدس ومنزل من الله سبحانه وتعالى بينما التدين بشري – السلوكيات التي يمارسها المتدين -.

وذكر أن الاشكالية في المطالبة بتجديد الدين تأتي من منطلق السلوكيات التي يمارسها المتدين، وليست من الدين المنزل من الله تعالى.

وبين أن التدين له أنواع متعددة منها ما هو تدين فكري وعاطفي وطقوسي وفقهي، بالإضافة للتدين الفقهي والعبادي والعرفاني المعنوي.

وحذر الصالح من خطورة تحول الأفكار إلى عقائد يختل عندها التدين، مبيناً أن الدين هو عبارة عن معتقدات معيارها الحق والباطل والأحكام والأخلاق فإذا ضاعت الأخلاق ضاعت العقيدة وضاع معها الحق والباطل.

وأبان أن الثقافة هي الطريق لإصلاح الدين وأن السبيل لحفظ التدين بالبدء بمعرفة الله من خلال تجلي أسمائه وصفاته فينا.

 

 

 

 

الشيخ الصفار يدين أي استخدام للعنف في وجه الدولة أو المجتمع

الشيخ الصفار يدين أي استخدام للعنف في وجه الدولة أو المجتمع

shk__hasan-safar

  • ويؤكد بأن لا أحد من المرجعيات الدينية أو علماء المنطقة يعطى شرعية للعنف.
  • ولم يستبعد تورط عصابات إجرامية في حوادث استهداف رجال الامن والمواطنين.
  • وينوه بأن من المزعج بشدة الحديث عن وجود ارهاب وإرهابيين في مجتمعنا.
  • ويقول ان من يريد الدفاع عن حقوق الطائفة لا يستخدم الوسيلة التي ينبذها أئمة أهل البيت .

حذر الشيخ حسن الصفار شباب المنطقة من الانجراف خلف توجهات العنف والتطرف قائلا ان ذلك ”لا يحل مشكلة ولا يحقق مطلبا، بل يزيد المشاكل تعقيدا ويحقق مآرب الاعداء الطامعين“.

جاء ذلك خلال حديث الجمعة في مسجد الرسالة بمدينة القطيف شرق السعودية.

وقال الشيخ الصفار ان أي استخدام للسلاح والعنف في وجه الدولة او المجتمع ”هو مدان ومرفوض من قبل علماء المذهب وعموم المجتمع ولا يحظى بأي غطاء ديني او سياسي“.

هذا ولم يستبعد الشيخ الصفار تورط عصابات إجرامية في بعض الحوادث التي استهدفت رجال الامن والمواطنين المناوئين لهم.

وأضاف القول ”من المحتمل ان تسعى بعض هذه العصابات لحماية نفسها وتضليل ابناء المجتمع مستفيدة من الاجواء السياسية التي سادت المنطقة فترفع شعارات سياسية مذهبية“.

واستدرك قائلا ان من يريد الدفاع عن حقوق الطائفة والانتصار للمذهب لا يجوز ان يستخدم الوسيلة التي ينبذها أئمة أهل البيت  ويضر بالطائفة ويتهدد وجودها ومستقبلها.

وأوضح أن من المشروع أن يكون للإنسان رأي فكري أو سياسي يبشر به وأن يطالب بحقوقه، رافضاً أن تكون الوسيلة مخالفة للعقل والشرع كاستخدام العنف.

وتابع بأن المجتمعات الشيعية الخليجية ظلت تشكو من حالة تهميش وتمييز بسبب هيمنة التوجهات التعصبية إلا انها استمرت في تواصلها مع حكوماتها ومحيطها الوطني لمعالجة المشكلات واكتفى الناشطون بالعمل السلمي.

وأكد القول ”لا اعرف احدا من علماء المنطقة ولا المرجعيات الدينية اعطى شرعية للعنف حتى من كان متصديا منهم لمعارضة السلطة“.

وأعرب عن الخشية من تسلل التوجهات العنفية تأثرا بما يجري في ساحات عربية اخرى.

وأشار إلى أن ابناء مجتمعنا ”كسائر الشباب في هذا العصر لديهم فائض وقت وطاقة وبعضهم لديه نزوع للمغامرة والمخاطرة“.

وتابع هناك تجاذب سياسي اقليمي يأخذ العنوان الطائفي ويفرز تعبئة سياسية ومذهبية قد يتفاعل معها بعض ابنائنا فتخلق لديهم ارضية واستعدادا لقبول توجهات العنف.

ودعا الشيخ الصفار العلماء والموجهين وذوي الرأي إلى تحصين المجتمع من خطر توسع مثل هذه التوجهات ”وان كانت قليلة ومحدودة لكن المرض إذا لم يحاصر ينتشر بالعدوى“.

وشدد القول ”يجب ان نعلن بصراحة الموقف تجاه هذا الخطر حتى لا يتسلل إلى مجتمعنا“.

وأشار إلى عديد من البيانات الصادرة عن علماء المنطقة في السنوات القليلة الماضية التي نبذت علانية استخدام العنف ورفع السلاح.

وقال ان منطلق الدعوة لنبذ العنف هو حماية مجتمعنا المحلي أكثر من الاستجابة لانتقادات أو مطالبة من خارج مجتمعنا.

وأرجع أهمية تحصين شباب المنطقة من التأثر بتوجهات العنف إلى ”حفظ مجتمعنا وحماية وجوده وضمان مستقبله ومن أجل سمعة مذهبنا وطائفتنا وحماية الأمن في بلادنا“.

وتابع ان من المزعج بشدة الحديث عن وجود ارهاب وإرهابيين في مجتمعنا، قائلا هذا لا يتناسب مع سمعة مجتمعنا ولا نود أن تكون هذه صفة أحد من مجتمعاتنا.

 

 

ظل كيسنجر.. التأثير الطويل لرجل الدولة الأكثر إثارة للجدل في أمريكا

ظل كيسنجر.. التأثير الطويل لرجل الدولة الأكثر إثارة للجدل في أمريكا

تأليف: غريغ غراندين

 

book-about-kesinger

لفهم الأزمة المعاصرة في الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بحروبها التي لا تنتهي في الخارج، وكذلك الاستقطاب السياسي في الداخل، فإنه يبدو علينا أن نفهم هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي السابق للولايات المتحدة في أواخر الستينات ووزير خارجيتها من 1973 إلى 1977، بحسب المؤرخ غريغ غراندين، الذي يسلط الضوء في كتابه هذا على كتابات كيسنجر وأفكاره، ويتطرق إلى فترة دراساته العليا في جامعة هارفارد، ونظرته إلى الفلسفة والتاريخ والسياسة. ويحلل تأثير كيسنجر في جيل من السياسيين، الذي أعلنوا سياسة الحروب المفتوحة للولايات المتحدة، من دون اكتراث بالعواقب والضحايا، ويقدم تفسيراً جديداً للتأثير المستمر لهذا الدبلوماسي، ويركز على كيف نظر وينظر إلى دور الولايات المتحدة في العالم خلال 288 صفحة من القطع المتوسط.
بعد دراسة الكتابات الخاصة لكيسنجر، ومجموعة كبيرة من الوثائق التي رفعت عنها السرية حديثاً، يكشف غراندين في عمله هذا كيف أن كبير مستشاري الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1969 – 1974) في السياسة الخارجية، ساعد على إحياء نسخة يضفي عليها طابع العسكرة من الاستثنائية الأمريكية محورها الرئاسة الإمبريالية، حتى أنه كان يشرف على الهزيمة الأمريكية في فييتنام، والحرب الكارثية السرية وغير المشروعة في كمبوديا، ورغم ذلك كان كيسنجر يصرّ على أن الحدس لديه هو أكثر أهمية في تحديد السياسة من الحقائق الثابتة، وتعهد بأن أخطاء الماضي يجب ألا تعيق الإقدام على أي عمل جريء في المستقبل حتى أنه توقع، بل ساعد في تمكين صعود المثاليين من المحافظين الجدد الذين أخذوا أمريكا إلى حروب مدمرة في أفغانستان والعراق.
يتناول المؤلف بالتحليل كتابات كيسنجر وأفكاره، ومراحله الحياتية خاصة دراسته الجامعية وفترة الدراسات العليا لديه في جامعة هارفارد، ونظرته في فلسفة التاريخ، وفن الحكم وإحساسه بدور الأخلاق في السياسة. ثم يحلل قرارات كيسنجر في وقت لاحق في المجالات السياسية وصنع القرار من خلال هذه العدسة. ويعتقد أن المنشورات الأكاديمية الأولى لكيسنجر توفر معلومات مهمة حول تطور الفكري الكيسنجري.

ويحتوي الكتاب على عشرة فصول بعد تمهيد بعنوان «عن عدم رؤية الوحش»، ومقدمة بعنوان «التكهن بسجل وفيات»، وهي «ضربة كونية»، «الغايات والوسائل»، «ابتسم كيسنجر»، «نمط نيسكون»، «في مواجهة كيسنجر»، «عكس الوحدة»، «السرية ومشهد مسرحي»، «ما لا يمكن تصوّره»، «السبب والأثر»، «نحو الخليج»، «ظلام في الضوء»، والخاتمة جاءت بعنوان «كيسنجرية من دون كيسنجر»، بالإضافة إلى ملاحظات وهوامش في النهاية.

حروب مفتوحة

لا يركز هذا الكتاب في مجمل الفصول التي ذكرناها على شخصية كيسنجر ذاتها، بل بالأحرى على الدور الكبير الذي كان لديه في خلق العالم الذي نعيش فيه اليوم بالشكل الراهن، والذي بات يقبل حرباً لا نهاية لها بطبيعة الحال.
ويشير الكاتب إلى أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة، كان هناك العديد من نسخ الدولة الأمنية الوطنية، أي مؤسسة حربية شبه سرية وصفها مؤخراً المنظر السياسي مايكل غلينون بأنها «حكومة مضاعفة». إلا أن اللحظة التحويلية في تطور تلك الدولة حدثت في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، عندما عجّلت سياسات هنري كيسنجر، خاصة حرب السنوات الأربع في كمبوديا، تفككها، وأضعفت الأسس التقليدية – تخطيط النخبة، إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والدعم العام – التي استندت إليها. ومع ذلك حتى حينما كان تفكك دولة الأمن القومي القديم يسير على قدم وساق، كان هنري كيسنجر يساعد على إعادة هيكلتها في شكل جديد، رئاسة إمبريالية مستعادة قادرة على التحرك نحو عالم ما بعد فييتنام. (قائمة على مشاهد عنف مذهلة أكثر، وسرية مكثفة أكثر، واستخدام متزايد للحرب والعسكرة لدعم المعارضة المحلية والاستقطاب لتحقيق الفائدة السياسية).
ويقول: «إن الحرب الأمريكية الفاشلة في جنوبي شرقي آسيا دمّرت قدرة العامة على تجاهل عواقب أفعال واشنطن في العالم». أزيحت الستارة إلى الخلف، وبدا أن علاقة السبب والأثر كانت تظهر إلى المشهد، في تغطية من قبل سيمور هيرش وصحفيين استقصائيين آخرين عن جرائم الحرب الأمريكية، وكذلك في منح دراسية لجيل من المؤرخين الشكاكين الجدد، وفي عمل مخرجي الأفلام الوثائقية إيميل دي أنطونيو «في سنة الخنزير» وفيلم «القلوب والعقول» للمخرج بيتر دافيس، وبين مؤمنين حقيقيين سابقين مرتدين، مثل دانيال إيلزبيرغ، وفي المنطق الشرعي للمثقفين المعارضين مثل نعوم تشومسكي. الأسوأ، هو أن الإحساس بأن الولايات المتحدة كانت مصدر الكثير من السوء كما الخير في العالم، بدأ يتسرّب إلى الثقافة الشعبية، والروايات، والأفلام، والكتب الكوميدية».

واقعية كيسنجر

لا تبدو صــورة هنري كيسنجــر في الكتاب جذابة، إذ نقرأ عنه صفات الغطرسة والأنا والغرور، خاصة أن الكاتب يتطرق إلى أغلب الذين كتبوا عن كيسنجر وحياته ومواقفه ودور السياسي مثل سيمور هيرش، كريستوفر هيتشنز، والتر إيزاكسون، ومؤخراً، غاري باس.. «وعلى الرغم من المحاولات العديدة من بعض الكتّاب لتغيير هذه الصورة، إلا أن الأدلة ضد كيسنجر قوية، ولم يحاول أن يقف ضدها، إذ إن الأمر عبء لا يمكن تحمّله» كما علق أحد النقاد في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية.
يتحدى غراندين في عمله هذا الحكمة التقليدية التي تصنف كيسنجر بأنه ينبغي أن يكون «واقعياً»، أي كرجل دولة يسير وفق حساب واقعي للمصلحة الوطنية العليا ومعايرة موازين القوى. بدلاً من ذلك، يرى غراندين أنه يمكن فهم كيسنجر على نحو أفضل على أنه «وجودي» اعتقد أنه في عالم خال من حقيقة موضوعية أو أنماط تاريخية لا مفر منها، يميز رجال الدولة العظماء أنفسهم من خلال العفوية والإجراءات الحازمة المتجذرة في الحدس بدلاً من التفكير العقلاني. «فلسفة العمل» لدى كيسنجر كما يراها غراندين، عاملت «الواقعيّة» ليس كعائق بل كشيء يتم إنشاؤه من قبل أفراد شجعان بما فيه الكفاية للتغلب على الجمود، وكسر أغلال البيروقراطية الطائشة، والمعارضة السياسية والمفاهيم القانونية مثل حرمة السيادة الوطنية.
ويهاجم المؤلف من خلال هذا الوصف كيسنجر وينتقد قراراته في كمبوديا وتشيلي وغيرها كتعبير عن وجهة نظر عالمية مشوهة تجاهلت عمداً العواقب الإنسانية. ويوجّه غراندين الاتهام إلى كيسنجر أبعد من ذلك، إذ يعتبر أن فلسفته وضعت أنماطاً معينة اعتنقها واضعو السياسات اللاحقة، خاصة على صعيد تنظيم تدخلات مريبة في دول عديدة في العقود التالية. وبهذه الطريقة، يجد الكاتب أن كيسنجر، الذي لم يشغل أي منصب حكومي كبير خلال ما يقرب من أربعة عقود، له دور مركزي في السياسة الأمريكية، بدءاً من فضيحة إيران كونترا في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، إلى الحرب الأخيرة في العراق وحملة الرئيس أوباما في إطلاق الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى القبول الضمني بين القادة الأمريكيين لـ «حرب لا نهاية لها كأمر مفروغ منه».
كما يتطرق غراندين أيضاً بعض الشيء للحديث عن الساحات التي استعرض فيها كيسنجر ميوله الواقعية الأكثر وضوحاً وهي: خلال العلاقات الأمريكية -السوفييتية والعلاقات الصينية -الأمريكية. ويشير إلى أن كيسنجر بذل جهوداً لتخفيف حدة التوتر مع الاتحاد السوفييتي وفتح العلاقات مع الصين، إلا أن الأمر كان يعكس الرغبة في تحقيق مبادرات أكبر جاءت على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

كيسنجرية من دون كيسنجر

ويشير الكاتب في الفصل الأخير بعنوان «كيسنجرية من دون كيسنجر» إلى كتابه الصادر أخيراً بعنوان «النظام العالمي»، حيث يناقش بعض النقاط الواردة فيه، وخاصة فيما يتعلق بمعنى التاريخ، حيث يجد كيسنجر أن التاريخ يجب أن يتم اكتشافه، وليس إعلانه، مشيراً إلى أنها مسألة ينبغي علينا أن نحاول الإجابة عنها، بكل جهودنا في اعتراف بأنها ستبقى مفتوحة للنقاش.
ويشير غراندين إلى أن كيسنجر يجد أنه «من الضروري التعلم من الماضي كطريقة لتصور المستقبل: ربما بعض المزج لمعاهدة وستفاليا للسلام في 1648 ومؤتمر فيينا 1815، سيكون نموذجاً انصهارياً جيداً لاحتواء الإسلام وتوازن القوى بين الحلفاء المتنافسين».
ويقول «منذ أن ترك كيسنجر منصبه كوزير خارجية في 1977، وسمعته تشهد تقلبات. فقد كانت أوائل التسعينات سنوات جيدة له، حيث احتضنه الديمقراطي بيل كلينتون. صحيح أنه كانت هناك اختلافات لدى الرجلين بشأن السياسة العسكرية، لكنهما اتفقا على الاقتصاد، خاصة الحاجة إلى التقدم عبر اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتي ساعدت كيسنجر، بشكل غير رسمي، على التفاوض فيها».
ويشير المؤلف إلى ما كتبه الاقتصادي جيف فوكس عنه قائلاً: «رجل الدولة السابق كان المعلّم المثالي لرئيس ديمقراطي جديد يحاول أن يقنع الجمهوريين وحلفاءهم التجاريين بحيث يعتمدون عليه لتأييد رؤية ريغان».
ويعلق هنا الكاتب: «لكن بعد ذلك بعقد، مع موت بول بوت واعتقال بينوشيه في لندن آثار الأشباح القديمة، ليتم التذكير بأفعال كيسنجر في كمبوديا وتشيلي. وبعد ذلك بوقت قصير، نشر كريستوفر هيتشنز كتاباً حقق أعلى المبيعات يتهم فيه كيسنجر بارتكاب أعمال إجرامية، إلى درجة المطالبة بمحاكمته كمجرم حرب».
وبعد التفجيرات الإرهابية التي ضربت برجي التجارة في نيويورك، أصبح كيسنجر مقرباً من بوش الابن، حتى أن بوش وضعه كرئيس التحقيق الرسمي في الهجمات، إلا أنه لقي اعتراضات بسبب تعاملاته التجارية السابقة. ويقول الكاتب في خاتمة الكتاب أنه ما من مستشار أمن قومي سابق أو وزير خارجية فرض سيطرته بهذا الشكل، بعد مغادرة المنصب، كما فعل كيسنجر.
كما يعود الكاتب ليذكّر أن بوش الأب عين العديد من حلفاء كيسنجر المقربين في مناصب السياسة الخارجية، وكيسنجر نفسه، عبر زملائه، أصبح صاحب نفوذ عالمي. ففي سنوات الثمانينات والتسعينات، تصرف كمبعوث في الظل للصين، وبدأ التنسيق مع الرئيس المكسيكي ليصلا إلى ما أصبح منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا».
كما قدم استشارات لحكومات أمريكا اللاتينية حول أفضل طريقة لخصخصة صناعاتهم.
ويذكر الكاتب أيضاً جملة من الانتقادات التي توجهت لكيسنجر، حيث كان يستخدم العقود بشكل خاص، في الوقت الذي كانت حكومية رسمية، وآخرون أشاروا إلى أن عمله الاستشاري هو صراع المصلحة، وأوضحوا أن زملاءه قد استفادوا من نتائج ساسة كيسنجر الخارجية حينما كان في منصبه وغيرها.
ويقول الكاتب عن كيسنجر الذي تجاوز العقد التاسع من عمره «إن كيسنجر يحرض على حرب مفتوحة لا نهاية لها اليوم، ليبرر ما فعله في كمبوديا وتشيلي و(أماكن أخرى) قبل ما يقارب نصف قرن من الزمن. إلا أن ما فعله قبل ما يقارب نصف قرن خلق الظروف الراهنة لحروب اليوم التي لا نجد نهاية لها».

نبذة عن المؤلف

الدكتور غريغ غراندين مؤلف لعدد من الكتب الحائزة جوائز مرموقة، من بينها «إمبراطورية الضرورة: العبودية، الحرية، والخداع في العالم الجديد»، والذي فاز بجائزة بانكروفت في التاريخ الأمريكي، وكان على قائمة الكتب المرشحة لنيل جائزة صمويل جونسون في المملكة المتحدة. وله أيضاً كتاب فوردلانديا: صعود وسقوط مدينة الغابة المنسية لهنري فورد (2009)، وصل إلى القائمة النهائية لجائزة بوليتزر في التاريخ، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الوطني وجائزة دائرة نقّاد الكتاب الوطني، واختارته العديد من الصحف الأمريكية كأفضل كتاب في التاريخ سنة إصداره.
غراندين أيضاً مؤلف «ورشة عمل الإمبراطورية: أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، وصعود الإمبراطورية الجديدة» (2005)، ومن كتبه أيضاً: «مجزرة المستعمرة الأخيرة: أمريكا اللاتينية خلال الحرب الباردة» (2004)، و«دم غواتيمالا: تاريخ العرق والأمة» (2000)، الذي فاز بجائزة مرموقة على مستوى أمريكا اللاتينية. يعمل حالياً أستاذ التاريخ في جامعة نيويورك، وعضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، ويكتب عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وأمريكا اللاتينية، والإبادة الجماعية، وحقوق الإنسان. وينشر في أبرز الصحف الأمريكية والبريطانية. كما عمل غراندين أيضاً كمستشار لجنة لتقصي الحقائق للأمم المتحدة في غواتيمالا.

تأليف: غريغ غراندين
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

 

تحولات السياسة والثورة في الصين خلال القرن العشرين

تحولات السياسة والثورة في الصين خلال القرن العشرين

china-20th

ما الذي يجب على الصين القيام به لتصبح دولة ديمقراطية بشكل فعلي؟ هذا السؤال ينعش المناقشات الأكثر تقدماً حول هذه القوة العظمى المحتملة. في هذا العمل، يحاول الناقد الصيني البارز وانغ هوي، الالتفات إلى الماضي الصيني للإجابة عن هذا السؤال، إذ يقف على ولادة السياسة الحديثة في ثورة عام 1911، ثم يعاين الازدهار الأولي للحياة السياسية وينتقل إلى سنوات الستينات المتطرفة، وبعدها الانحدار في ليبرالية الصين الأكثر حداثة، حتى يصل إلى مفترق طرق في وقتنا الحاضر، ومن خلال رؤيته ومناقشاته لآراء كتّاب ومفكرين يقدم الكثير من المقترحات التي من شأنها أن تحقق المساواة والعدالة الاجتماعية في بلاده ضمن سياق تحليلي.

يدرس الكاتب وانغ هوي في عمله الصادر عن دار «فيرسو» الأمريكية في 368 صفحة من القطع المتوسط، 2016، ظهور الانقسامات الطبقية الجديدة بين المجموعات العرقية الصينية في سياق النزاع بين التبت وشينغيانغ، إلى جانب الظهور الجديد لليبرالية فيها، ويتوقف عند الحركات السياسية فيها، وعلاقة الحزب الشيوعي مع الشعب، والشعارات التي رفعت حينها، وتأثير الرأسمالية في الداخل الصيني. ويستكشف المؤلف في كل فصل «العناصر الغريبة» الداخلية للممارسة السياسية في القرن العشرين في الصين والاحتمالات التي تحتويها.
ينقسم الكتاب إلى تسعة أقسام هي: الثورة والتفاوض 1911-1913: صحوة آسيا في الصين بداية القرن العشرين، تحول الثقافة والسياسة: الحرب والثورة و«حرب الأفكار» في 1910، من الحرب الشعبية إلى حرب التحالف الدولي 1949 -1953: الحرب لمقاومة العدوان الأمريكي ومساعدة كوريا من وجهة نظر التاريخ الصيني في القرن العشرين، أزمة التمثيل وسياسة ما بعد الأحزاب، نوعان من الفقراء الجدد ومستقبلهم: تراجع وإعادة تشكيل السياسات الطبقية وسياسة الفقراء الجدد، ثلاثة مفاهيم عن المساواة، المساواة بين جميع الأشياء ومجتمع ما بعد النظام.

غرابة «القرن العشرين»

يشير الكاتب إلى أنه بالنسبة للشعب الصيني المعاصر، كان مفهوم «القرن العشرين» «شيئاً غريباً»، حيث بدا لهم خارج المكان، وهذا يرجع إلى أن الصين لم تتعرف إلى «القرن التاسع عشر» أو حتى «الثامن عشر»، حتى تأتي وتتعرف إلى القرن الذي بعده، لم يكن هناك شيء سوى أحداث تاريخية معينة، وخاصة حكم إمبراطور ما أو فترة حروب مع دولة أخرى.
ويعلق على بعض الظواهر السياسية والاجتماعية في الصين، قائلاً: «تميزت الصين في القرن العشرين بالعديد من الظواهر التي أنتجتها العملية السياسية بشكل واعٍ بقيادة شخصيات جديدة قيد التشكيل»، ويضيف: «إن إنشاء جمهورية سيادية واحدة على قاعدة إمبراطورية متعددة الإثنيات، وفي الوقت نفسه السماح لهذه الدولة السيادية القيام بنوع من التعددية المؤسساتية، وتحديد سياسة جديدة من خلال حركة ثقافية ترفض الأحزاب السياسية الموجودة والدولة، فإنه بالتالي سيقام شكل جديد من السياسة مختلف عن سياسات تلك الأحزاب السياسية في القرن التاسع عشر، وسيتم استخدام نموذج وتقنيات حرب الشعب لتنفيذ استصلاح الأرض، وبناء الحزب والحركات الدورية بين الحزب والجماهير لتشكيل حزب سياسي خارق مع عناصر أعلى الحزب، والدفع بحركة طبقية ناضلت من أجل الاشتراكية نحو الأمام، في مجتمع لم تكن البروليتاريا ولا البرجوازية ناضجة فيه»، ويجد أن تحويل السياسة والمبادرة إلى المحتوى الأساسي لمبدأ الطبقة في مجمله، ليس بهدف خلق سياسة الطبقة فقط، بل خلق ثورة اشتراكية ضمن إمبراطورية زراعية متعددة الإثنيات. ويرى الكاتب أنه «يمكن أن يتم فهم كل هذه الأمور كمنتجات تسييس العمليات».
ويضيف أن القرن العشرين دفع الصين إلى عهد لم يكن ممكناً توقع شيء من ماضيها أو الانبثاق عنه، وبالتالي أي رواية عن الصين يجب أن تحتوي على توضيح وشرح لهذا القرن من حيث الارتباطات التاريخية.

ثلاث عمليات صينية

ينظر الكاتب إلى تسييس الصين في القرن العشرين بشكل أساسي من خلال معاينة ثلاث عمليات مختلفة وهي: التلاحم السياسي، والثقافة والسياسة، وحرب الشعب. وهذه المواضيع الثلاثة – حسبما يقول – كانت قد ولدت من عصر الثورة والحرب، لكنها ظهرت في أشكال مختلفة في فترات تاريخية أخرى. والمحاولة لإيجاد شكل الدولة الذي من شأنه أن يدمج الصين بشكل سياسي تحول إلى منافسة، ليس فقط بين القوى السياسية المختلفة، بل أيضاً بين المبادئ والمفاهيم السياسية المختلفة. والدولة التي ولدت من هذه العملية كانت مسيسة بشكل عالٍ جداً. ومحاولة شرح «الدولة» أو «الدولة – الأمة» في الخلاصة تفشل في استيعاب أهمية العلاقة بين الدولة والعملية السياسية.
ويضيف أن الحركة الثقافية المستمرة جددت فهم المشاركين للسياسة وأعادت تعريف العالم السياسي، وخلقت بذلك جيلاً جديداً من الشعب. وفي الحقيقة، حرب الشعب لم تغير في الأساس العلاقات بين الريف والمدن، بل حفزت التعبئة السياسية للهوية الوطنية، كما أنها حولت أيضاً وأعادت تركيب التصنيفات السياسية المتشابهة مثل الطبقة والحزب السياسي، والدولة والشعب. ومن دون التفكير بهذه العمليات المعقدة من التسييس – يقول – لدينا فرصة ضعيفة في استيعاب المعنى التاريخي لمثل هذه التصنيفات ضمن سياق القرن العشرين.
كما يجد أن هذه العمليات الثلاث من التسييس روت كل مرحلة من مراحل الصين في القرن العشرين. وقد تم التعبير عنها في الثورة الراديكالية وفي التسوية السياسية، بالإضافة إلى تصنيفها عبر العديد من القضايا مثل الأسئلة «الثقافية»: في الأسئلة عن كيفية رؤية الشباب، وتحرر النساء، والعمال والعمل، واللغة والأدب، والمدن والأرياف، وهكذا دواليك، تم جعل السياسة عالماً من الإبداع.
ويشير إلى أنه تم التعبير عنها أيضاً في حرب الشعب، والتي جلبت معاً النضال العسكري، واستصلاح الأراضي، وبناء السلطة الحكومية، والجبهة الموحدة في عملية واحدة. وكانت أيضاً واضحة في الطريقة التي حولت فيها حرب الشعب كل تصنيف سياسي بعد القرن التاسع عشر. على سبيل المثال، الخط بين الحزب السياسي والجموع أصبح غير واضح، والسلطة السياسية جاءت لتلازم شيئاً مختلفاً عن الفكرة التقليدية لجهاز حكومي، وحلت محل فكرة الطبقة الثابتة عمليات تشكيل الطبقة (في الطريقة التي أصبح فيها الفلاحون قوة سياسية بروليتارية) وهكذا دواليك. «وعلى الرغم من أن عالم السياسة الدولية في العادة يتم التفكير فيه من ناحية المفاهيم المعيارية للسيادة والمصلحة الوطنية، فإن الحرب من سنوات الخمسينات إلى الستينات في مقاومة العدوان الأمريكي ومساعدة كوريا والجدل بين الأحزاب الشيوعية السوفييتية والصينية تقدم نماذج التسييس في عالم العلاقات السياسية والعسكرية الدولية»، كما يقول.

ابتكارات سياسية

كانت ابتكارات القرن العشرين السياسية مرتبطة عن قرب بالحرب المطوّلة، الثورة والغضب العام. ومع التغيرات العالمية التي حدثت من 1989 إلى 1992، انتهى الأمر بالحركة الاشتراكية التي مثلتها الثورات الصينية والروسية إلى فشل. وزودت النهاية المأساوية ل«القرن القصير» بعض الناس بعدسة استطاعوا من خلالها الحكم على القرن العشرين بشكل سلبي، إلى جانب ظهور عملية التسييس نفسها التي تظهر كجذر التراجيديا. ويقول «مثل هذه النظرة تهدف إلى رفض الاعتراف بكل المفاهيم السياسية المرتبطة بشكل مباشر بهذا القرن، من بينها الطبقة، والحزب السياسي، والتحرر الوطني، والجماهير والخط الجماهيري، والشعب وحرب الشعب».
ويعلق أيضاً: «لكن، بدلاً من نبذ هذه المفاهيم، جدير أن نسأل متى وبأي شكل تم تسييس هذه المفاهيم؟ وتحت أي ظروف تم إعادة تسييسها؟ خذ الطبقة على سبيل المثال، في الوقت الذي لعبت فيه الطبقة دوراً كبيراً في التعبئات السياسية في القرن العشرين، احتوت التعبئة الطبقية في داخلها احتمالين. أولاً، وفقاً لمنظور الهوية ربما لم يكن لينتمي المرء إلى طبقة معينة، لكن كان لايزال هناك إمكانية لتصبح عميلاً أو جندياً في خدمة تلك الطبقة. على سبيل المثال، المثقفون من خلفيات فلاحية أو نخبوية حاكمة أصبحوا من البروليتاريا وحتى قادة. ثانياً، أصبحت الخلفية الطبقية فيما بعد علامة الهوية المتمأسسة، وأصبحت الدلالة الأساسية التي يتم بموجبها التمييز بين الأعداء والحلفاء. كل من هذين الاحتمالين قد يعبئ الشعب، لكن الأول ينبغي تصنيفه كمسيس، والثاني غير مسيس».
ولأخذ الحزب السياسي كمثال آخرتحت ظروف حرب الشعب – حسبما يقول الكاتب – فإن «الحزب» كان مرتبطاً عن قرب بالخط الجماهيري، مع ممارسة استحضار لأفكار من الجماهير، إلى الجماهير، مولدة بذلك قوة حيوية وهائلة. لكن «الحزب» الموجود في السلطة غالباً ما أصبح مبعداً من الجماهير وتحول إلى آلة سياسية نموذجية. ويعلق: «أشير إلى هذه الظاهرة بإرضاء الحزب.. هذه هي كما يمكن تسميتها حالة عدم تسييس الحزب».

عن المساواة

يذكر الكاتب أنه على مدى السنوات الثلاثين الماضية، كانت هناك نقاشات لا نهاية لها حول الديمقراطية وتفسيراتها المتعددة. ويجد أن فرضية «نهاية التاريخ» في 1989 عاملت الديمقراطية الليبرالية على أنها الشكل الأخير من السياسة وعلامة وصول التاريخ العالمي. وهذا السياق كان قائماً على الفشل الملموس لكل من الديمقراطية الجماهيرية والحركات الاشتراكية، وافترضوا أن الديمقراطية الشعبية قادت بشكل متغاير إلى الاستبداد السياسي، معلقاً: «ثورة أكتوبر في 1917 في الصين واجهت النظام الرأسمالي بشكل معاكس. وتحت شروط الحرب الباردة، قاد الصراع بين هذين النظامين إلى انقسام أيديولوجي بين «الرأسمالية» و«الاشتراكية». وكانت إحدى نتائج هذا الانقسام أن نهاية الحرب الباردة أعطت الجانب الرأسمالي احتكاراً استطرادياً على الديمقراطية».
ويشير إلى أنه بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، كشفت الحرب على الإرهاب والصراعات الدينية والدمار البيئي، والأزمات المالية والمجتمع القائم على مخاطر عالية، التناقضات العميقة ضمن النظام الرأسمالي العالمي.
ويشير إلى أنه مع توسع الرأسمالية عبر الكرة الأرضية، تغيّرت أشكال اللامساواة التي ركز عليها كتّاب القرن التاسع عشر، مثل العلاقات الطبقية. ويمكن أن تنوجد التناقضات الأساسية للعصر الحالي بين العاصمة الإمبريالية والمستعمرات، وبين مراكز الصناعة المتقدمة والمحيط الزراعي. وهذا يشار إليه في العادة بأنه سؤال الشمال – الجنوب. ويوضح الكاتب في الفصول الأخيرة تأثير البعد الدولي في اللامساواة المحلية داخل الصين، ويجده أنه ظرف سياسي على الصينيين مواجهته إذا ما كانت هناك نية في تحقيق المساواة في الداخل والخارج.
ويجد أن التراكيب الاجتماعية في الصين تتغير بشكل دراماتيكي. وبالنظر إلى سياقها في التنمية وإعادة البناء ينبغي أن يكون الأمر مثار قلق للشعب الصيني، وبالتالي ينبغي تأسيس وكالة سياسية جديدة على أساس مصالح أغلبية الصينيين، ويرى وانغ هوي أن إحياء الديمقراطية الاجتماعية هو الطريق الوحيد لمستقبل الصين.

نبذة عن المؤلف

وانغ هوي أستاذ في قسم اللغة الصينية وآدابها في جامعة تسينغهوا في بكين، حيث يعيش حالياً. درس في جامعة يانغتشو، وجامعة نانجينغ، والأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. كما كان أستاذاً زائراً في جامعة نيويورك وغيرها من الجامعات في الولايات المتحدة. في عام 1989، شارك في احتجاجات ميدان تيانانمين، وأرسل بعد ذلك إلى محافظة داخلية فقيرة بشكل إلزامي ل«إعادة التأهيل» عقاباً له على مشاركته. طور البروفيسور هوي النقد اليساري لسياسة الحكومة، إلى درجة أنه أصبح واحداً من المؤيدين الرئيسيين لليسار الصيني الجديد في سنوات التسعينات من القرن الماضي، على الرغم من أنه لم يختر هذا المصطلح. صنفته مجلة «فورين بوليسي» واحداً من بين أفضل 100 مفكر في العالم في عام 2008. له العديد من المؤلفات منها: «نهاية الثورة»، و«النظام الجديد للصين»، و«سياسة آسيا المتخيلة».

 

تأليف: وانغ هوي
تحرير: شاول توماس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم