تحولات السياسة والثورة في الصين خلال القرن العشرين

تحولات السياسة والثورة في الصين خلال القرن العشرين

china-20th

ما الذي يجب على الصين القيام به لتصبح دولة ديمقراطية بشكل فعلي؟ هذا السؤال ينعش المناقشات الأكثر تقدماً حول هذه القوة العظمى المحتملة. في هذا العمل، يحاول الناقد الصيني البارز وانغ هوي، الالتفات إلى الماضي الصيني للإجابة عن هذا السؤال، إذ يقف على ولادة السياسة الحديثة في ثورة عام 1911، ثم يعاين الازدهار الأولي للحياة السياسية وينتقل إلى سنوات الستينات المتطرفة، وبعدها الانحدار في ليبرالية الصين الأكثر حداثة، حتى يصل إلى مفترق طرق في وقتنا الحاضر، ومن خلال رؤيته ومناقشاته لآراء كتّاب ومفكرين يقدم الكثير من المقترحات التي من شأنها أن تحقق المساواة والعدالة الاجتماعية في بلاده ضمن سياق تحليلي.

يدرس الكاتب وانغ هوي في عمله الصادر عن دار «فيرسو» الأمريكية في 368 صفحة من القطع المتوسط، 2016، ظهور الانقسامات الطبقية الجديدة بين المجموعات العرقية الصينية في سياق النزاع بين التبت وشينغيانغ، إلى جانب الظهور الجديد لليبرالية فيها، ويتوقف عند الحركات السياسية فيها، وعلاقة الحزب الشيوعي مع الشعب، والشعارات التي رفعت حينها، وتأثير الرأسمالية في الداخل الصيني. ويستكشف المؤلف في كل فصل «العناصر الغريبة» الداخلية للممارسة السياسية في القرن العشرين في الصين والاحتمالات التي تحتويها.
ينقسم الكتاب إلى تسعة أقسام هي: الثورة والتفاوض 1911-1913: صحوة آسيا في الصين بداية القرن العشرين، تحول الثقافة والسياسة: الحرب والثورة و«حرب الأفكار» في 1910، من الحرب الشعبية إلى حرب التحالف الدولي 1949 -1953: الحرب لمقاومة العدوان الأمريكي ومساعدة كوريا من وجهة نظر التاريخ الصيني في القرن العشرين، أزمة التمثيل وسياسة ما بعد الأحزاب، نوعان من الفقراء الجدد ومستقبلهم: تراجع وإعادة تشكيل السياسات الطبقية وسياسة الفقراء الجدد، ثلاثة مفاهيم عن المساواة، المساواة بين جميع الأشياء ومجتمع ما بعد النظام.

غرابة «القرن العشرين»

يشير الكاتب إلى أنه بالنسبة للشعب الصيني المعاصر، كان مفهوم «القرن العشرين» «شيئاً غريباً»، حيث بدا لهم خارج المكان، وهذا يرجع إلى أن الصين لم تتعرف إلى «القرن التاسع عشر» أو حتى «الثامن عشر»، حتى تأتي وتتعرف إلى القرن الذي بعده، لم يكن هناك شيء سوى أحداث تاريخية معينة، وخاصة حكم إمبراطور ما أو فترة حروب مع دولة أخرى.
ويعلق على بعض الظواهر السياسية والاجتماعية في الصين، قائلاً: «تميزت الصين في القرن العشرين بالعديد من الظواهر التي أنتجتها العملية السياسية بشكل واعٍ بقيادة شخصيات جديدة قيد التشكيل»، ويضيف: «إن إنشاء جمهورية سيادية واحدة على قاعدة إمبراطورية متعددة الإثنيات، وفي الوقت نفسه السماح لهذه الدولة السيادية القيام بنوع من التعددية المؤسساتية، وتحديد سياسة جديدة من خلال حركة ثقافية ترفض الأحزاب السياسية الموجودة والدولة، فإنه بالتالي سيقام شكل جديد من السياسة مختلف عن سياسات تلك الأحزاب السياسية في القرن التاسع عشر، وسيتم استخدام نموذج وتقنيات حرب الشعب لتنفيذ استصلاح الأرض، وبناء الحزب والحركات الدورية بين الحزب والجماهير لتشكيل حزب سياسي خارق مع عناصر أعلى الحزب، والدفع بحركة طبقية ناضلت من أجل الاشتراكية نحو الأمام، في مجتمع لم تكن البروليتاريا ولا البرجوازية ناضجة فيه»، ويجد أن تحويل السياسة والمبادرة إلى المحتوى الأساسي لمبدأ الطبقة في مجمله، ليس بهدف خلق سياسة الطبقة فقط، بل خلق ثورة اشتراكية ضمن إمبراطورية زراعية متعددة الإثنيات. ويرى الكاتب أنه «يمكن أن يتم فهم كل هذه الأمور كمنتجات تسييس العمليات».
ويضيف أن القرن العشرين دفع الصين إلى عهد لم يكن ممكناً توقع شيء من ماضيها أو الانبثاق عنه، وبالتالي أي رواية عن الصين يجب أن تحتوي على توضيح وشرح لهذا القرن من حيث الارتباطات التاريخية.

ثلاث عمليات صينية

ينظر الكاتب إلى تسييس الصين في القرن العشرين بشكل أساسي من خلال معاينة ثلاث عمليات مختلفة وهي: التلاحم السياسي، والثقافة والسياسة، وحرب الشعب. وهذه المواضيع الثلاثة – حسبما يقول – كانت قد ولدت من عصر الثورة والحرب، لكنها ظهرت في أشكال مختلفة في فترات تاريخية أخرى. والمحاولة لإيجاد شكل الدولة الذي من شأنه أن يدمج الصين بشكل سياسي تحول إلى منافسة، ليس فقط بين القوى السياسية المختلفة، بل أيضاً بين المبادئ والمفاهيم السياسية المختلفة. والدولة التي ولدت من هذه العملية كانت مسيسة بشكل عالٍ جداً. ومحاولة شرح «الدولة» أو «الدولة – الأمة» في الخلاصة تفشل في استيعاب أهمية العلاقة بين الدولة والعملية السياسية.
ويضيف أن الحركة الثقافية المستمرة جددت فهم المشاركين للسياسة وأعادت تعريف العالم السياسي، وخلقت بذلك جيلاً جديداً من الشعب. وفي الحقيقة، حرب الشعب لم تغير في الأساس العلاقات بين الريف والمدن، بل حفزت التعبئة السياسية للهوية الوطنية، كما أنها حولت أيضاً وأعادت تركيب التصنيفات السياسية المتشابهة مثل الطبقة والحزب السياسي، والدولة والشعب. ومن دون التفكير بهذه العمليات المعقدة من التسييس – يقول – لدينا فرصة ضعيفة في استيعاب المعنى التاريخي لمثل هذه التصنيفات ضمن سياق القرن العشرين.
كما يجد أن هذه العمليات الثلاث من التسييس روت كل مرحلة من مراحل الصين في القرن العشرين. وقد تم التعبير عنها في الثورة الراديكالية وفي التسوية السياسية، بالإضافة إلى تصنيفها عبر العديد من القضايا مثل الأسئلة «الثقافية»: في الأسئلة عن كيفية رؤية الشباب، وتحرر النساء، والعمال والعمل، واللغة والأدب، والمدن والأرياف، وهكذا دواليك، تم جعل السياسة عالماً من الإبداع.
ويشير إلى أنه تم التعبير عنها أيضاً في حرب الشعب، والتي جلبت معاً النضال العسكري، واستصلاح الأراضي، وبناء السلطة الحكومية، والجبهة الموحدة في عملية واحدة. وكانت أيضاً واضحة في الطريقة التي حولت فيها حرب الشعب كل تصنيف سياسي بعد القرن التاسع عشر. على سبيل المثال، الخط بين الحزب السياسي والجموع أصبح غير واضح، والسلطة السياسية جاءت لتلازم شيئاً مختلفاً عن الفكرة التقليدية لجهاز حكومي، وحلت محل فكرة الطبقة الثابتة عمليات تشكيل الطبقة (في الطريقة التي أصبح فيها الفلاحون قوة سياسية بروليتارية) وهكذا دواليك. «وعلى الرغم من أن عالم السياسة الدولية في العادة يتم التفكير فيه من ناحية المفاهيم المعيارية للسيادة والمصلحة الوطنية، فإن الحرب من سنوات الخمسينات إلى الستينات في مقاومة العدوان الأمريكي ومساعدة كوريا والجدل بين الأحزاب الشيوعية السوفييتية والصينية تقدم نماذج التسييس في عالم العلاقات السياسية والعسكرية الدولية»، كما يقول.

ابتكارات سياسية

كانت ابتكارات القرن العشرين السياسية مرتبطة عن قرب بالحرب المطوّلة، الثورة والغضب العام. ومع التغيرات العالمية التي حدثت من 1989 إلى 1992، انتهى الأمر بالحركة الاشتراكية التي مثلتها الثورات الصينية والروسية إلى فشل. وزودت النهاية المأساوية ل«القرن القصير» بعض الناس بعدسة استطاعوا من خلالها الحكم على القرن العشرين بشكل سلبي، إلى جانب ظهور عملية التسييس نفسها التي تظهر كجذر التراجيديا. ويقول «مثل هذه النظرة تهدف إلى رفض الاعتراف بكل المفاهيم السياسية المرتبطة بشكل مباشر بهذا القرن، من بينها الطبقة، والحزب السياسي، والتحرر الوطني، والجماهير والخط الجماهيري، والشعب وحرب الشعب».
ويعلق أيضاً: «لكن، بدلاً من نبذ هذه المفاهيم، جدير أن نسأل متى وبأي شكل تم تسييس هذه المفاهيم؟ وتحت أي ظروف تم إعادة تسييسها؟ خذ الطبقة على سبيل المثال، في الوقت الذي لعبت فيه الطبقة دوراً كبيراً في التعبئات السياسية في القرن العشرين، احتوت التعبئة الطبقية في داخلها احتمالين. أولاً، وفقاً لمنظور الهوية ربما لم يكن لينتمي المرء إلى طبقة معينة، لكن كان لايزال هناك إمكانية لتصبح عميلاً أو جندياً في خدمة تلك الطبقة. على سبيل المثال، المثقفون من خلفيات فلاحية أو نخبوية حاكمة أصبحوا من البروليتاريا وحتى قادة. ثانياً، أصبحت الخلفية الطبقية فيما بعد علامة الهوية المتمأسسة، وأصبحت الدلالة الأساسية التي يتم بموجبها التمييز بين الأعداء والحلفاء. كل من هذين الاحتمالين قد يعبئ الشعب، لكن الأول ينبغي تصنيفه كمسيس، والثاني غير مسيس».
ولأخذ الحزب السياسي كمثال آخرتحت ظروف حرب الشعب – حسبما يقول الكاتب – فإن «الحزب» كان مرتبطاً عن قرب بالخط الجماهيري، مع ممارسة استحضار لأفكار من الجماهير، إلى الجماهير، مولدة بذلك قوة حيوية وهائلة. لكن «الحزب» الموجود في السلطة غالباً ما أصبح مبعداً من الجماهير وتحول إلى آلة سياسية نموذجية. ويعلق: «أشير إلى هذه الظاهرة بإرضاء الحزب.. هذه هي كما يمكن تسميتها حالة عدم تسييس الحزب».

عن المساواة

يذكر الكاتب أنه على مدى السنوات الثلاثين الماضية، كانت هناك نقاشات لا نهاية لها حول الديمقراطية وتفسيراتها المتعددة. ويجد أن فرضية «نهاية التاريخ» في 1989 عاملت الديمقراطية الليبرالية على أنها الشكل الأخير من السياسة وعلامة وصول التاريخ العالمي. وهذا السياق كان قائماً على الفشل الملموس لكل من الديمقراطية الجماهيرية والحركات الاشتراكية، وافترضوا أن الديمقراطية الشعبية قادت بشكل متغاير إلى الاستبداد السياسي، معلقاً: «ثورة أكتوبر في 1917 في الصين واجهت النظام الرأسمالي بشكل معاكس. وتحت شروط الحرب الباردة، قاد الصراع بين هذين النظامين إلى انقسام أيديولوجي بين «الرأسمالية» و«الاشتراكية». وكانت إحدى نتائج هذا الانقسام أن نهاية الحرب الباردة أعطت الجانب الرأسمالي احتكاراً استطرادياً على الديمقراطية».
ويشير إلى أنه بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، كشفت الحرب على الإرهاب والصراعات الدينية والدمار البيئي، والأزمات المالية والمجتمع القائم على مخاطر عالية، التناقضات العميقة ضمن النظام الرأسمالي العالمي.
ويشير إلى أنه مع توسع الرأسمالية عبر الكرة الأرضية، تغيّرت أشكال اللامساواة التي ركز عليها كتّاب القرن التاسع عشر، مثل العلاقات الطبقية. ويمكن أن تنوجد التناقضات الأساسية للعصر الحالي بين العاصمة الإمبريالية والمستعمرات، وبين مراكز الصناعة المتقدمة والمحيط الزراعي. وهذا يشار إليه في العادة بأنه سؤال الشمال – الجنوب. ويوضح الكاتب في الفصول الأخيرة تأثير البعد الدولي في اللامساواة المحلية داخل الصين، ويجده أنه ظرف سياسي على الصينيين مواجهته إذا ما كانت هناك نية في تحقيق المساواة في الداخل والخارج.
ويجد أن التراكيب الاجتماعية في الصين تتغير بشكل دراماتيكي. وبالنظر إلى سياقها في التنمية وإعادة البناء ينبغي أن يكون الأمر مثار قلق للشعب الصيني، وبالتالي ينبغي تأسيس وكالة سياسية جديدة على أساس مصالح أغلبية الصينيين، ويرى وانغ هوي أن إحياء الديمقراطية الاجتماعية هو الطريق الوحيد لمستقبل الصين.

نبذة عن المؤلف

وانغ هوي أستاذ في قسم اللغة الصينية وآدابها في جامعة تسينغهوا في بكين، حيث يعيش حالياً. درس في جامعة يانغتشو، وجامعة نانجينغ، والأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية. كما كان أستاذاً زائراً في جامعة نيويورك وغيرها من الجامعات في الولايات المتحدة. في عام 1989، شارك في احتجاجات ميدان تيانانمين، وأرسل بعد ذلك إلى محافظة داخلية فقيرة بشكل إلزامي ل«إعادة التأهيل» عقاباً له على مشاركته. طور البروفيسور هوي النقد اليساري لسياسة الحكومة، إلى درجة أنه أصبح واحداً من المؤيدين الرئيسيين لليسار الصيني الجديد في سنوات التسعينات من القرن الماضي، على الرغم من أنه لم يختر هذا المصطلح. صنفته مجلة «فورين بوليسي» واحداً من بين أفضل 100 مفكر في العالم في عام 2008. له العديد من المؤلفات منها: «نهاية الثورة»، و«النظام الجديد للصين»، و«سياسة آسيا المتخيلة».

 

تأليف: وانغ هوي
تحرير: شاول توماس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

عقول مستدامة

عقول مستدامة

 

magalat__yousif-shareef

شاهدت أخيراً تقريراً صادراً عن منظمة الحياة الفطرية WWF جاء فيه أنه بحلول 2050 من المحتمل عدم صلاحية الأرض للعيش، وبأن البشرية تحتاج إلى 27 كوكب أرض لمواجهة زيادة السكان، والاستهلاك المفرط، وعدم كفاءة استخدام الموارد، أي أننا على بعد 34 سنة فقط، وبالطبع لن يكون موتها بسبب أزمة قلبية مفاجئة، إنما نتيجة مرض مزمن لم يستطع الأطباء معالجته، وبدأت أعراضه تنهش بكوكبنا حتى فارق الحياة، وهذا يعني أننا لن نفيق يوماً ونجد أن الأرض أصبحت صحراء، ولا يوجد بها مياه نشربها، ولا هواء نتنفسه، إنما سنشاهدها وهي تحتضر، وسنتألم على فراقها يوماً بعد يوم، وسندفع فاتورة إهمالنا من صحتنا وأرواحنا.

وهناك تخوف عالمي من استهلاك الأرض، لكن بالرجوع إلى مجتمعاتنا العربية فقد نجد أن من أبرز مشكلاتنا هي «ثقافة الاستنزاف»، بمعنى أننا نستنزف كل شيء، فإن أردنا أن نبني بيتاً جعلنا مساحته كبيرة ونقول: «بيت يسرح فيه الخيَّال»، وهذا التعبير المجازي ليس ببعيد عن الواقع، وأخيراً كنتُ في زيارة لإحدى الدول الأوروبية وقررت شراء «سجادة» لإحدى غرف البيت، فعندما توجهت إلى السوق كان رد جميع البائعين بأن هذه المقاسات كبيرة جداً، ولن أحصل على مرادي إلا إذا طلبت طلبية خاصة (تفصيل)، وهذا يبيِّن أحد أنواع استنزافنا للأرض.

إن أنانية الإنسان جعلت منه مجرماً بحق الطبيعة، فبعد أن استنزف الأرض هل سنجده يغزو كوكب المريخ ليشكل حياته هناك تاركاً الأرض خلفه؟ّ، أم أن الأرض ستأخذ بحقها وستقضي عليه قبل الخروج، فلربما تعلمت من بني البشر لنجدها وقد لبست حزاماً ناسفاً لتقتل من عليها رداً على الإساءة، لكن رحمة الله تمنعها، وهذا ما أكده قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم إلا ويستأذن البحر ربه يقول يا رب إئذن لي أن أُغرق ابن ادم،

فإنه أكل رزقك، وعبد غيرك، وتقول السماوات: يا رب إئذن لي أن أطبق على ابن ادم، فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول الأرض يا رب إئذن لي أن ابتلع ابن ادم، فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، فيقول الله تعالى: دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم)، وعلى الرغم من ضعف الحديث إلا أنه يصف لنا غضب الطبيعة على الإنسان، ورحمة الله به، ولا ألوم الأرض إن فعلت ذلك، فعلى الرغم من احتضانها له على سطحها ورقوده في جوفها إلا أنه أماتها.

ورغم مناداة العديد من منظمات البيئة لضرورة حماية الطبيعة والثروة الحيوانية، وأيضاً الترشيد لاستخدام الطاقة المتاحة، إلا أننا عندما لا نُحاسب على فاتورة الكهرباء والمياه سنخرج من بيوتنا والأنوار والأجهزة تعمل، وحتى إن ذهبنا للعشاء في بوفيه مفتوح سنأخذ أكبر بكثير من طاقاتنا، حتى على مستوى الكتيبات الإعلانية فعندما توزع بالمجان فإننا نحاول الحصول على أكبر عدد منها، تماماً كذلك الشخص الذي عرض في السوق مادة الكبريت بالمجان ليأتي شخص واحد ويأخذها جميعها ليُعلم الناس كيف نخرج عن الطبيعة بمثل هذه التصرفات، واستنزافنا لكل شيء على الرغم من عدم حاجتنا إلا إلى القليل منه فقط لأننا تعودنا على ثقافة الاستنزاف، ولأننا ما زلنا نعتقد أننا بخير ما دامت عُلب المياه معبأة في البيت، وبأن أسواقنا تعج بالمواد الاستهلاكية، وأن مكيف السيارة سيحمينا من الاحتباس الحراري!.

تخيلوا معي لو أن للأرض يدين تكتب فيهما عن أسباب انتحارها، أو وصيتها، فماذا ستكتب؟، إن كانت ستكتب رسالة انتحارها فأول ما ستقوله بأنها لم تعد قادرة على حمل هذا الكائن الطاغي الذي استنزف كل مقومات الحياة التي وضعها الله سبحانه من أجل بقائه، أو أنها لم تعد باستطاعتها تحمل كمية الدماء التي امتصها ترابها، فلم تعد قادرة على حمل حجم الظلم الذي يسود الأرض، ومؤكدةً لنبوءة الملائكة في أول جلسة ديمقراطية نشهدها ليقولوا لله عز وجل: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، وأن خلاصها لا حل له سوى الانتحار.

أما إن كانت ستكتب وصيتها، فستكتب اذهبوا بعيداً، وغادروا جثتي، ولا تتراقصوا فوقها، وليس بالعجيب إن كانت وصيتها عبارة عن رسالة تحذيرية لكوكب المريخ تدعوه بعدم السماح لبني البشر بالنزول على أرضه.

علينا أن نفكر جدياً بكيفية حماية الأرض، فلا يكفي أن نفكر بمستقبل مستدام قبل أن نبني عقولاً مستدامة تساهم في توفير مساحة للحياة لمن يخلفها، وهذا يتطلب تربية شعوبنا على ثقافة الاقتصاد لا الاستنزاف، ولا يكفي التحذير فقط، إنما بيان فعلي لمخاطر هذا الاستنزاف، وكيفية تأثيره بشكل مباشر في حياة وصحة بني البشر.

دولتنا مشكورة.. تعمل جاهدة على إيجاد مستقبل مستدام وتبحث بحثاً حثيثاً عن مصادر جديدة للطاقة النظيفة، لكن هذا لا يكفي، بل علينا تطوير قانون دولي لحماية البيئة بمختلف أشكالها وعناصرها، وذلك لكي نحاسب كل مسبب لوفاة أرضنا، فهذا وطن البشرية بأكملها، ومن حقنا محاسبة من يستنزف مقومات حياتنا، لذا لزم وعلى وجه السرعة إصدار قانون عقابي للمبذرين بكافة أشكال ذلك التبذير، وعلينا الإسراع بإلزام شركاتنا ومؤسساتنا بتركيب أنظمة توفير الطاقة والمياه، والعمل على تشجيع الناس للتحول إلى مصادر طاقة نظيفة؛ وذلك لنحافظ على ما تبقى من كوكبنا قبل أن نفكر بكيفية غزو الفضاء، ولديمومة ما وهبنا الله من نعمة الأرض، وما تحتويه من مقومات للحياة.

 

 

العالم يراجع، فمتى سيراجع العرب؟

العالم يراجع، فمتى سيراجع العرب؟

د.علي فخرو

magalat__ali-fakroo

يعيش عالمنا الآن لحظة مراجعة للكثير من مسلًّماته. المراجعات الكبيرة والعميقة لا تبدأ عادة إلا إذا خرج العالم من محنة كبرى أو وجد نفسه يخطو نحو كارثة كبرى.
لقد طرحت الكثير من المسلمات للنقاش والنقد بعد كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعد انتهاء فترة الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفييتي. واليوم، على ضوء ما افرزته العولمة غير المنضبطة من أزمات مالية واقتصادية وتطورات تكنولوجية، يعود ليناقش ما أعتبرها من قبل من المسلمات. لا يوجد موضوع لا يخضع الآن لإعادة النظر بشكل واسع النطاق وبمحاولات جادة لتغيير مساره.
في الاقتصاد تثار شكوك بشأن الانطباع السابق بأنه علم قائم بذاته ومشابه للعلوم الطبيعية، وذلك بعد أن أخفق في التنبؤ بمجيء الأزمات المالية التي اجتاحت العالم وفشل في تقديم حلول للخروج من تلك الأزمات.
في السياسة هناك مراجعة ونقد شديد للنظام الدولي برمًته، وذلك بعد أن فشل، منذ قيام هيئة الأمم المتحدة إلى يومنا هذا، في بناء السلم الدولي ومنع الحروب المجنونة، وفي صون استقلاليته عن إملاءات مصالح الدول الكبرى الأنانية الاستعمارية الجائرة.
في الاجتماع البشري هناك مراجعة ونقدا لاذعا للمنطلقات الرأسمالية النيولبرالية المتوحشة التي قامت على أسسها ظاهرة العولمة، والتي قادت في النهاية إلى إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء وأصبحت تعرف بظاهرة الواحد في المئة، إشارة إلى امتلاك واحد في المئة من البشر لأكثر من نصف ثروات العالم المادية والمعنوية.
في حقل التواصل الاجتماعي يخضع موضوع «الانترنت» لمراجعات متعددة تتعلق بالمضار الصحية والنفسية والذهنية والثقافية على الفرد، وباستغلاله المبرمج لتكدس الثروات الهائلة في أيادي عدد قليل من الشركات، وبتهديده لمحو الكثير من المؤسسات الإعلامية والفنية والثقافية والصحية والتجارية وبالتالي إدخال العالم في أزمات البطالة وزوال الكثير من المهن والحرف والنشاطات المعيشية.
حتى الديموقراطية، التي ظن الكثيرون أن تجارب العالم عبر ثلاثة قرون قد حسمت موضوعها، هي الآن موضوع مساءلة ونقد شديد، بعد الصعود المذهل لقوى اليمين الفاشستي عبر مجتمعات معاقل الديموقراطية والانفجار المجنون لظاهرة الجهاد التكفيري العنفي عبر كل بلاد العرب وكثير من بلاد العالم.
إذا كان العالم كله يحاول الخروج من المآزق التي أدخل نفسه فيها، بدءاً حتى بمراجعاته الشهيرة لموضوع الحداثة نفسها التي ظن أنها التاج الذي يجب أن يضعه العالم على رأسه، فكيف بالوطن العربي كله، من أقصى غربه إلى أقصى مشرقه، الذي يعيش محنة ومأساة وسقوط وجوده في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخه؟
أيريد هذا الوطن أن يبقي على عماه التاريخي بشأن الكثير من المسلمات التي ظن أنها من الثوابت التي يجب ألا تمس ولا تنتقد ولا تُتجاوز؟ مثلاً، هناك حاجة ملحُة لمراجعة موضوعية شجاعة لنظامنا الإقليمي العربي الحالي، المتمثل أساساً في الجامعة العربية التي تقف اليوم عاجزة مشلولة مثيرة للشفقة أمام كل ملفات مشاكل الوطن العربي ، والتي أصبحت في يد أميركا وروسيا ومسرحيات مجلس الأمن المضحكة، والانتقال إلى نظام إقليمي عربي جديد قادر على ان يكون ندًّا للكيان الصهيوني الاستعماري وللتدخلات الإيرانية والتركية في كل صغيرة وكبيرة نظام يكون هو وحده المرجعية لحل مشاكل ليبيا وسورية واليمن والسودان وغيرهم ولمواجهة الإرهاب التكفيري وللوقوف أمام عشرات الاستباحات الخارجية لهذا القطر العربي أو ذاك.
بدون ذلك الانتقال سنظلُ نسمع عن اشكال من الأحلاف المناطقية أو الأحلاف الدولية التي تزيد الأوضاع سوءاً وتعقيداً، وسنظل نسمع عن اجتماع من مثل اجتماع دول مجلس التعاون مع تركيا للبحث في موضوع مأساة سورية وشعبها بدلاً من الاجتماع مع مصر، الدولة الأساسية في النظام الإقليمي القومي العربي.
مثل آخر، هناك حاجة للمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة لتكوين مجموعة من المؤرخين للعرب لمراجعة التاريخ العربي وتنقيحه من الأصنام التي أقيمت في كل ارجائه لتصبح معبودة الحاضر والمتحكمة فيه.
مثلاً آخر، هناك حاجة لقيام مؤسسة أهلية او تجمعُ أهلي، بعيداً عن الجهات الرسمية، لإجراء مراجعة موضوعية شجاعة لكل الفقه الإسلامي دون استثناء لأي مذهب أو مدرسة، لإخراجه من عوالم المقدس وإرجاعه إلى عالمه الذي بدأ منه، عالم الاجتهاد البشري القابل للمراجعة والتنقيح من الغثَ الكثير الذي أقحم فيه، والذي يستعمله البعض في تأجيج الصراعات الطائفية المريضة وفي تخلُفهم الفكري والثقافي خارج العصر الذي نعيش.
نأتي على ذكر تلك الأمثلة لارتباطها المباشر وتأثيرها الكبير على ما يجري حالياً في أرض العرب المنكوبة، إذ هناك الكثير الكثير الذي يحتاج إلى نقد ومراجعة وتجاوز، نحن بحاجة إلى أجرائها أكثر من حاجة الآخرين الذين لا يعيشون الجحيم الذي تعيشه أمة العرب. وهي جميعها تتحدى إرادة وفاعلية مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام والسياسة والاقتصاد العربية، سواء على المستوى الرسمي أو على المستوى المجتمعي المدني.