عقول مستدامة

عقول مستدامة

 

magalat__yousif-shareef

شاهدت أخيراً تقريراً صادراً عن منظمة الحياة الفطرية WWF جاء فيه أنه بحلول 2050 من المحتمل عدم صلاحية الأرض للعيش، وبأن البشرية تحتاج إلى 27 كوكب أرض لمواجهة زيادة السكان، والاستهلاك المفرط، وعدم كفاءة استخدام الموارد، أي أننا على بعد 34 سنة فقط، وبالطبع لن يكون موتها بسبب أزمة قلبية مفاجئة، إنما نتيجة مرض مزمن لم يستطع الأطباء معالجته، وبدأت أعراضه تنهش بكوكبنا حتى فارق الحياة، وهذا يعني أننا لن نفيق يوماً ونجد أن الأرض أصبحت صحراء، ولا يوجد بها مياه نشربها، ولا هواء نتنفسه، إنما سنشاهدها وهي تحتضر، وسنتألم على فراقها يوماً بعد يوم، وسندفع فاتورة إهمالنا من صحتنا وأرواحنا.

وهناك تخوف عالمي من استهلاك الأرض، لكن بالرجوع إلى مجتمعاتنا العربية فقد نجد أن من أبرز مشكلاتنا هي «ثقافة الاستنزاف»، بمعنى أننا نستنزف كل شيء، فإن أردنا أن نبني بيتاً جعلنا مساحته كبيرة ونقول: «بيت يسرح فيه الخيَّال»، وهذا التعبير المجازي ليس ببعيد عن الواقع، وأخيراً كنتُ في زيارة لإحدى الدول الأوروبية وقررت شراء «سجادة» لإحدى غرف البيت، فعندما توجهت إلى السوق كان رد جميع البائعين بأن هذه المقاسات كبيرة جداً، ولن أحصل على مرادي إلا إذا طلبت طلبية خاصة (تفصيل)، وهذا يبيِّن أحد أنواع استنزافنا للأرض.

إن أنانية الإنسان جعلت منه مجرماً بحق الطبيعة، فبعد أن استنزف الأرض هل سنجده يغزو كوكب المريخ ليشكل حياته هناك تاركاً الأرض خلفه؟ّ، أم أن الأرض ستأخذ بحقها وستقضي عليه قبل الخروج، فلربما تعلمت من بني البشر لنجدها وقد لبست حزاماً ناسفاً لتقتل من عليها رداً على الإساءة، لكن رحمة الله تمنعها، وهذا ما أكده قول رسولنا صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم إلا ويستأذن البحر ربه يقول يا رب إئذن لي أن أُغرق ابن ادم،

فإنه أكل رزقك، وعبد غيرك، وتقول السماوات: يا رب إئذن لي أن أطبق على ابن ادم، فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، وتقول الأرض يا رب إئذن لي أن ابتلع ابن ادم، فإنه أكل رزقك وعبد غيرك، فيقول الله تعالى: دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم)، وعلى الرغم من ضعف الحديث إلا أنه يصف لنا غضب الطبيعة على الإنسان، ورحمة الله به، ولا ألوم الأرض إن فعلت ذلك، فعلى الرغم من احتضانها له على سطحها ورقوده في جوفها إلا أنه أماتها.

ورغم مناداة العديد من منظمات البيئة لضرورة حماية الطبيعة والثروة الحيوانية، وأيضاً الترشيد لاستخدام الطاقة المتاحة، إلا أننا عندما لا نُحاسب على فاتورة الكهرباء والمياه سنخرج من بيوتنا والأنوار والأجهزة تعمل، وحتى إن ذهبنا للعشاء في بوفيه مفتوح سنأخذ أكبر بكثير من طاقاتنا، حتى على مستوى الكتيبات الإعلانية فعندما توزع بالمجان فإننا نحاول الحصول على أكبر عدد منها، تماماً كذلك الشخص الذي عرض في السوق مادة الكبريت بالمجان ليأتي شخص واحد ويأخذها جميعها ليُعلم الناس كيف نخرج عن الطبيعة بمثل هذه التصرفات، واستنزافنا لكل شيء على الرغم من عدم حاجتنا إلا إلى القليل منه فقط لأننا تعودنا على ثقافة الاستنزاف، ولأننا ما زلنا نعتقد أننا بخير ما دامت عُلب المياه معبأة في البيت، وبأن أسواقنا تعج بالمواد الاستهلاكية، وأن مكيف السيارة سيحمينا من الاحتباس الحراري!.

تخيلوا معي لو أن للأرض يدين تكتب فيهما عن أسباب انتحارها، أو وصيتها، فماذا ستكتب؟، إن كانت ستكتب رسالة انتحارها فأول ما ستقوله بأنها لم تعد قادرة على حمل هذا الكائن الطاغي الذي استنزف كل مقومات الحياة التي وضعها الله سبحانه من أجل بقائه، أو أنها لم تعد باستطاعتها تحمل كمية الدماء التي امتصها ترابها، فلم تعد قادرة على حمل حجم الظلم الذي يسود الأرض، ومؤكدةً لنبوءة الملائكة في أول جلسة ديمقراطية نشهدها ليقولوا لله عز وجل: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}، وأن خلاصها لا حل له سوى الانتحار.

أما إن كانت ستكتب وصيتها، فستكتب اذهبوا بعيداً، وغادروا جثتي، ولا تتراقصوا فوقها، وليس بالعجيب إن كانت وصيتها عبارة عن رسالة تحذيرية لكوكب المريخ تدعوه بعدم السماح لبني البشر بالنزول على أرضه.

علينا أن نفكر جدياً بكيفية حماية الأرض، فلا يكفي أن نفكر بمستقبل مستدام قبل أن نبني عقولاً مستدامة تساهم في توفير مساحة للحياة لمن يخلفها، وهذا يتطلب تربية شعوبنا على ثقافة الاقتصاد لا الاستنزاف، ولا يكفي التحذير فقط، إنما بيان فعلي لمخاطر هذا الاستنزاف، وكيفية تأثيره بشكل مباشر في حياة وصحة بني البشر.

دولتنا مشكورة.. تعمل جاهدة على إيجاد مستقبل مستدام وتبحث بحثاً حثيثاً عن مصادر جديدة للطاقة النظيفة، لكن هذا لا يكفي، بل علينا تطوير قانون دولي لحماية البيئة بمختلف أشكالها وعناصرها، وذلك لكي نحاسب كل مسبب لوفاة أرضنا، فهذا وطن البشرية بأكملها، ومن حقنا محاسبة من يستنزف مقومات حياتنا، لذا لزم وعلى وجه السرعة إصدار قانون عقابي للمبذرين بكافة أشكال ذلك التبذير، وعلينا الإسراع بإلزام شركاتنا ومؤسساتنا بتركيب أنظمة توفير الطاقة والمياه، والعمل على تشجيع الناس للتحول إلى مصادر طاقة نظيفة؛ وذلك لنحافظ على ما تبقى من كوكبنا قبل أن نفكر بكيفية غزو الفضاء، ولديمومة ما وهبنا الله من نعمة الأرض، وما تحتويه من مقومات للحياة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *