صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

دروس مستقاة من تجربتيْ سان فرنسيسكو ولوس أنجليس

صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

the-rise-and-fall-off-urban-economies

شهد العالم منذ انطلاق الثورة الصناعية وما ترتب عليها من إنجازات في مختلف مجالات الحياة تحوّلاً كبيراً في البنية المجتمعية نتيجة موجات الهجرات التي تتالت من الأرياف إلى المدن.

وهناك اليوم للمرّة الأولى في التاريخ الإنساني أكثر من نصف سكان المعمورة يعيشون في مناطق مدينية. هكذا بلغ عدد سكان بعض المدن عدّة ملايين، الأمر الذي ترتب عليه بالتوازي بزوغ فرع من الاقتصاد يتركّز على دراسة آليات نمو المراكز المدينية الكبرى وانحطاطها.

وفي كتاب جماعي ساهم فيه فريق من أربعة أساتذة جامعيين بإشراف «مايكل ستوربر»،أستاذ المسائل العمرانية في جامعة لوس انجليس ومساهمة «توماس كيمني»، أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة «سوتامبتون» و«ناجي مكرم» أستاذ التخطيط والتنمية في جامعة لندن و«تانير اوسمان»، الباحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس.

يحمل الكتاب عنوان «صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية، دروس من سان فرنسيسكو و لوس انجليس». ويحاول المساهمون في هذا العمل الإجابة على السؤال الجوهري التالي: لماذا تحظى بعض المناطق المدينية بدرجة عالية من النجاح وخلق الثروات الاقتصادية الكبيرة بينما تراوح مناطق أخرى في مكانها أو تتقهقر إلى الوراء؟.

إن المساهمين في هذا الكتاب يركزون على دراسة تأثير «الاقتصاد الحديث» على نمو المدن الكبرى وازدهارها أو تقهقرها وتراجع نمّوها الاقتصادي وما يتبع ذلك على الأصعدة الأخرى. والفترة الزمنية التي يدرسونها بالنسبة لمدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس تمتد من سنوات السبعينات في القرن الماضي، العشرين وحتى الوقت الراهن.

وفي حالة المدينتين المعنيتين تتم دراسة كيفية الانتقال التي عرفتها كل منهما من «الاقتصاد الصناعي» إلى «اقتصاد المعلوماتية». والفكرة التي يتفق عليها المساهمون في هذا العمل هي أن سان فرنسيسكو«تميزت» على لوس انجليس بوجود «مجموعة من أصحاب المشاريع الذين امتلكوا رؤية بعيدة ومتناسقة، حيث تمّ تبنّي سياسات عامّة ترمي إلى تحسين آليات العمل بالاعتماد على الاقتصاد الرقمي».

the-rise-and-fall-off-urban-economies22

 

إن الإجابات المقدّمة في معرض المقارنة بين مدينتي سان فرنيسكو ولوس انجليس تأخذ في اعتبارها النتائج المحققة في الواقع. وهناك نوع من الاتفاق على أن سان فرنسيسكو عرفت مسارا متقدّما اقتصاديا على مدى السنوات الخمسين المنصرمة بينما راوحت لوس انجليس بمكانها «بأفضل التقديرات». والإشارة في هذا السياق أن مدينة أميركية أخرى هي «ديترويت»آلت في الفترة نفسها إلى الخراب تقريبا.

والبحث في هذا المجال عن أسباب وعوامل عديدة للصعود أو الانحطاط فيما يخص مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس وما عرفتاه من «تباين في كبير وواضح من حيث الكفاءات على ضوء النتائج الاقتصادية المحققة». والتركيز على العوامل المتعلّقة بالتكنولوجيات الحديثة والتمركز الجغرافي لبعضها مثل «وادي السيليكون»، عرين الصناعات الرقمية.

ويتم الوصول في محصّلة التحليلات المقدّمة بهذا الصدد إلى نتيجة أساسية مفادها أن «سان فرنسيسكو نجحت اقتصاديا كون أنها تملك مرونة أكبر تجعلها قابلة للتأقلم مع العالم وللانفتاح على العالم مما هو الأمر بالنسبة لعالم الأعمال الأكثر انغلاقا في لوس انجليس».

وعلى خلفية مثل هذا الواقع المتباين لم تستطع الشركات في لوس انجليس أيضا أن تبدي المقاومة الكافية لـ«زيادة الضرائب والضغوط» الصادرة من الإدارة المحلّية للمدينة أو من حكومة ولاية «كاليفورنيا».

ويولي المساهمون في هذا الكتاب بمختلف تحليلاتهم أهميّة كبيرة لذهنيّة عمل المسؤولين عن النمو الاقتصادي في النجاح الذي حققته سان فرنسيسكو خلال العقود الأخيرة قياسا بالفشل «إلى هذه الدرجة أو تلك» بالنسبة للوس انجليس. بالمقابل يقللون من مصداقية الآراء التي تعيد ذلك «الفشل» إلى وزن المهاجرين المتعاظم أو إلى «انهيار الصناعات الفضائية» في سنوات التسعينات.

وهناك عامل الهجرة وتواجد أعداد كبيرة من الذين تعود اصولهم لمختلف بلدان أميركا اللاتينية، وخاصة المكسيك وما يثقلون به على النمو الاقتصادي للمراكز المدينية التي يتواجدون بها. والإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل خارجية عن إرادة البشر المعنيين مثل الظواهر الطبيعية كالعواصف والجفاف وغيرهما من التغيرات المناخية.. هذه العوامل كانت لها آثار «مختلفة» على مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس.

ما يؤكّده المساهمون في هذا الكتاب بمحصّلة المقارنة بين المدينتين من أجل استخلاص «الدروس» من تجربتهما خلال العقود الأخيرة أن منطقة سان فرنسيسكو هي اليوم «موطن اقتصاد المعرفة بامتياز وأنها الأكثر نجاحا في الولايات المتحدة الأميركية، بينما أن لوس انجليس تراجعت كثيرا خلف جارتها الشمالية وأيضا خلف عدد من المناطق المدينية الأميركية الأخرى».

والإشارة أن لوس انجليس كانت في ستينات القرن الماضي بمثابة «منارة الصناعة الانتاجية الأميركية». وكان الخبراء قد توقعوا أنها على وشك أن تتفوق على سان فرنسيسكو على «الصعيد السكاني، الديموغرافي، وعلى مستوى الدخل والقوّة الاقتصادية وبالمحصّلة في النفوذ».

تجدر الإشارة أن المساهمين في هذا الكتاب لا يكتفون بتحليل أسباب الصعود والانحطاط بالنسبة للاقتصادات المدينية، لكنهم يقترحون سلسلة من «الإستراتيجيات الاقتصادية» و«خطط العمل» التي قد يمكن للمسؤولين عن القطاعات المدينية استخدامها. ولعلّ الأهمية الأكبر بالنسبة للخطط والإستراتيجيات المقترحة أنها تتركز على المعطيات الخاصّة والموارد المختلفة بالمناطق المعنية ولا تعتمد على المساعدات الخارجية.

إن المساهمين في هذا الكتاب يشرحون أن «العوامل الخاصّة بالازدهار الاقتصادي المديني» قد غيّرت كثيرا من مرتكزاتها، بحيث غدا اقتصاد المعرفة وآليات عمل المشاريع والمرونة في الانفتاح على العالم في ظل الثورة الرقمية بمثابة عوامل حاسمة في المسيرات الاقتصادية «ازدهارا أو تقهقرا». وهذا يصحّ على حالتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس كما في مختلف المناطق المدينية في العالم أجمع.

المؤلفون في سطور

مايكل ستوربر، المشرف على هذا الكتاب الجماعي، هو أستاذ المسائل العمرانية وتطوير المدن في جامعة لوس انجليس بكاليفورنيا. وتوماس كيميني، يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة لوس انجليس. يعمل أستاذا فيها. وناجي مكرم استاذ التنمية الاقتصادية في جامعة لندن وتانير اوسمان باحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس. أما الاخرون، فهم يعملون في عدد من المؤسسات الاقتصادية المتنوعة.

الكتاب: صعود الاقتصادات المدينية وانحطاطها.. دروس من سان فرنسيسكو ولوس انجليس

تأليف: مايكل ستوربر وآخرون.
الناشر: جامعة ستانفورد ــ 2015
The rise and fall off Urban Economies
Michael Storper and…
Stanford University Press – 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *