المال الأسود

المال الأسود

 

تتكرر الكثير من الأسئلة عن حالات عدم المساواة في الولايات المتحدة، والفئات المتحكمة التي تؤثر في الكثير من القرارات السياسية الأمريكية. يحاول هذا العمل تحليل ذلك عبر تناول الواقع السياسي الأمريكي الفاسد، وكيفية إنفاق المال السياسي وتأثيره في مستقبل الديمقراطية الأمريكية التي باتت على المحك فيما يبدو، ويقف عند ما يحدث من وراء الكواليس في العمليات الانتخابية بالولايات المتحدة، وكيفية تشكل تحالفات اقتصادية سياسية في الخفاء، تهدف إلى الحفاظ على مصالح قلة من المتنفذين، وكيفية دعم صعود اليمين المتطرف على حساب القيم الأمريكية.
لماذا تعيش الولايات المتحدة الأمريكية في عصر من عدم المساواة الاقتصادية العميقة؟ وعلى الرغم من الحاجة الماسة للتصدي لقضية تغير المناخ، لماذا نجد جهود الناشطين البيئيين المتواضعة قد تعرضت لنكسات مراراً وتكراراً؟ لماذا لم يعد هناك من حماية للموظفين؟ لماذا يدفع أصحاب المليارات ضرائب أقل بكثير من العاملين من الطبقة الوسطى؟ الجواب التقليدي هو أن انتفاضة شعبية ضد «الحكومة الكبيرة» أدت إلى صعود حركة محافظة ذات قاعدة عريضة، ولكن تظهر الكاتبة والصحفية الاستقصائية جين ماير في هذا السرد التاريخي، شبكة من الأشخاص بالغي الثراء لهم وجهات نظر تحررية متطرفة يموّلون خطة ممنهجة خطوة بخطوة لإحداث تغيير جذري في النظام السياسي الأمريكي.
تعتقد هذه الشبكة التي تتكون من أغنى الناس على هذا الكوكب، بشكل راسخ أن الضرائب هي شكل من أشكال الاستبداد، وأن الرقابة الحكومية على الأعمال التجارية هي عملية اعتداء على الحريات. وهذا الاعتقاد نشأ عن الدور الحكومي في وجه المصالح الشخصية لهم ومصالح شركاتهم، خاصة أن العديد من هذه الشركات تعمل بشكل يتناقض مع قوانين التلوث الاتحادي، وتخالف القوانين المتعلقة بسلامة العمال، والأوراق المالية، وقوانين الضرائب وغيرها.

فلسفة سياسية

الشخصيتان الرئيسيتان في الشبكة، هما الأخوان تشارلز وديفيد كوك، ابنا المهندس الكيميائي ورجل الأعمال الأمريكي فريد سي. كوك (1900-1967) مؤسس شركة «صناعات كوك» الذي جمع ثروته بشكل جزئي من بناء مصافي تكرير النفط في روسيا زمن ستالين وألمانيا أثناء حكم هتلر. وكان فريد كوك في وقت لاحق من الأعضاء المؤسسين لجمعية «بيرش جون» التي اتسمت بأنها يمينية راديكالية معادية للشيوعية، لدرجة اعتقادها أن الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور شيوعي في سياساته. وترى الكاتبة أن الأخوين كوك تربيا على فلسفة سياسية أكدت لهما أن الدور الوحيد للحكومة هو توفير الأمن وإنفاذ حقوق الملكية.
وتشير إلى أنه عندما أثبتت الأفكار التحررية التي كانا يناديان بها، أنها لا تحظى بشعبية لدى الناخبين بشكل قطعي، اختار الأخوان كوك وحلفاؤهما مساراً آخر، حيث جمّعوا مواردهم الهائلة، التي يمكنهم من خلالها تمويل مجموعة متشابكة من المنظمات التي يمكن أن تعمل بشكل متناسق للتأثير والسيطرة في نهاية المطاف على المؤسسات الأكاديمية، ومراكز الأبحاث، والمحاكم، المجالس الحكومية، والكونغرس، وكانوا يأملون، في التأثير في الرئاسة.
أجرت جين ماير في كتابها هذا الصادر حديثاً عن دار «دووبلدي» الأمريكية في 464 صفحة من القطع المتوسط، مئات المقابلات خلال خمس سنوات، من بينها عدة مصادر داخل الشبكة، والسجلات العامة، والأوراق الخاصة، وإجراءات المحاكم في الإبلاغ عن هذا الكتاب. وفي سرد مقنع، تتبع الكاتبة كيفية إنفاق مليارات الدولارات من قبل الشبكة، وتقدم صوراً حية من الشخصيات المتلونة وراء الأوليغارشية الأمريكية الجديدة.
ويأتي الكتاب في ثلاثة أقسام أساسية بعد المقدمة وهي: «تسليح العمل الخيري: حرب الأفكار 1970-2008»، وينقسم إلى خمسة فصول، أما القسم الثاني فهو بعنوان «رعاة سريون، عمليات خفية 2009-2010» وينقسم إلى أربعة فصول، ويحتوي القسم الأخير بعنوان «خصخصة السياسة: المعركة الإجمالية 2011-2014» على أربعة فصول.

الاستثمار في الحملات السياسية

تشير الكاتبة إلى أنه كانت سنة 1980 سنة من الأمل للمحافظين في أمريكا، ولكنه تضاءل بعد سنوات من الفشل المستمر على مستوى القاعدة الشعبية. فالجمهوريون لم يحكموا أياً من المجلسين (الشيوخ والنواب) في الكونغرس، أو الأغلبية في المجالس التشريعية للولايات، لمدة ربع قرن. لكن في نهاية ذلك العام حدث شيئان. أحدهما تم انتخاب الجمهوري رونالد ريغان رئيساً للبلاد. والآخر كان حدثاً خاصاً تماماً لم تظهر أهميته على مدى سنوات. إذ قرر الأخوان تشارلز وديفيد كوك، من مقرهما في كانساس، إنفاق مبالغ ضخمة من المال لانتخاب المحافظين في جميع مستويات الحكومة الأمريكية. ترشح ديفيد كوك لمنصب نائب الرئيس الأمريكي عن الحزب الليبرتاري في عام 1980، ولكن عندما انتهت الحملة، قال إنه مصمم على عدم السعي إلى وظيفة عامة مرة أخرى. وهذا لم يكن مهماً، لكن خلص هو وأخوه إلى أنهما يمكن أن يستثمرا في حملات الآخرين، ويشتريا طريقهما إلى السلطة السياسية.
وتشير إلى أنه بعد ثلاثين عاماً، بشّرت الانتخابات النصفية لعام 2010 باقتراب النظام السياسي الذي قضى كوك سنوات عديدة بالتخطيط لجلبه. وبعد التصويت في تلك السنة، سيطر الجمهوريون على المجالس التشريعية للولايات، وكانوا يسيطرون على أغلبية واضحة للحكام، وقد حصلوا على أحد مجلسي الكونغرس وكانوا في طريقهم للفوز بالآخر. ولعل الأهم من ذلك، كان عدداً لا بأس به من الجمهوريين الذين فازوا بهذه المناصب من البراغماتيين الذين لا زالوا في منتصف طريقهم. كانوا ليبرتاريين مناهضين للحكومة من نفس الخط السياسي للأخوين كوك اللذين أنفقا مئات الملايين من الدولارات لجعل الأغلبية على صورتهما التي يريدانها. وقد نجحا في ذلك. ليس فقط في الانتخابات، بل أنهما ساعدا على تمويل وتنظيم شبكة متشابكة من مؤسسات الفكر والرأي والبرامج الأكاديمية ووسائل الإعلام التي تجاوزت بكثير المعارضة الليبرالية.
حاولت الكاتبة خلال إعداد العمل التحدث إلى تشارلز أوديفيد كوك، لكنهما رفضا التحدث إليها، كما لم تستطع الوصول إلى أهم الشخصيات في هذه الشبكة السياسية. ولكنها في الوقت ذاته وصلت إلى مئات من المصادر التي أرادت التحدث، وهم من نشطاء حملات المحافظين لفترة طويلة، وشركاء الأعمال ومعارضين سياسيين وخبراء التمويل السياسي.

خطف الديمقراطية

تعتقد الكاتبة جين ماير أن الأخوين كوك وحلفاء لهما من الطبقة الثرية المتنفذة خطفوا أساساً الديمقراطية الأمريكية، وذلك باستخدام أموالهم ليس فقط للتنافس مع الخصوم السياسيين، بل لإغراقهم. وفي رأيها، خلق الأخوان كوك وحلفاؤهما بنكاً سياسياً خاصاً يستطيع منح وإنفاق كميات غير محدودة من المال على المرشحين المفضلين، ويتم عمل ذلك بشكل عملي من دون الكشف عن هوية المصدر.
وتلقي ماير أيضاً بعض الضوء على المتواطئين مع الأخوين كوك الذين ساعدوا على بناء الحركة التي تنتشر إلى أبعد من السياسة الانتخابية. ومن بينهم ريتشارد ميلون سكيف، وارث ثروة مصرفية هائلة، وكان حضوره المالي وراء مؤسسة التراث. وأيضاً جون. م. أولين، الذي كانت شركة عائلته الكيميائية المستفيد الأكبر من مشتريات الأسلحة الاتحادية، ركز على استحداث وظائف لأعضاء هيئة التدريس للمحافظين في الجامعات العريقة. والأخوان هاري وليند برادلي، اللذان استخدما الإيرادات من اندماج شركتهم العائلية للإلكترونيات مع روكويل الدولية لتمويل مجموعة كاملة من مشاريع النشر والبحوث. ولكن الهدف الرئيسي كما توضح الكاتبة هو الفوز في الانتخابات.
وتشير الكاتبة إلى أن كل هذه المنظمات والجهات المانحة كانت تروج أيضاً لعقيدة السوق الحرة، والسير وفق ما أعلنه تشارلز كوك في التسعينات «مبادئ السوق غيّرت حياتي». وتجد الكاتبة أن هذه الإيديولوجيا تساعد على تفسير واحدة من أهم حملات كوك في السنوات الأخيرة وهي: الكفاح من أجل منع اتخاذ إجراءات ضد تغير المناخ. وكانت مجموعة «أمريكيون لأجل الازدهار» في طليعة الجماعات المعارضة لفرض إجراءات تتعلق بتغير المناخ على مدى العقد الماضي. وعندما تولى الجمهوريون مجلس النواب في عام 2011، ضغطت مجموعة «أمريكيون لأجل الازدهار»، على المشرعين لدعم عدم فرض ضريبة متعلقة بالمناخ.

المال السياسي

توضح الكاتبة أن القصد من وراء دفاع الأخوين كوك الشرس عن أفكار السوق الحرة، هو من منطلق الحفاظ على المصلحة الذاتية، حيث إنهما استثمرا أموالهما في الكربون، وأي ضريبة على الأمر يمكن أن تتسبب في تأثير كبير في تجارتهما، خاصة أن «صناعات كوك» تعد واحدة من أكبر منتجي النفايات السامة في الولايات المتحدة، ودخلت في قضايا قانونية وقضائية متعلقة بنشاطاتها التلوثية، حتى إنها دفعت عشرات الملايين من الغرامات لتسوية هذه الحالات. هنا تبين الكاتبة أن الأخوين كوك وحلفاءهما من خلال تمويل الشبكة السياسية التي تحقق مصالحهما، يحافظون على ثرواتهم، ويضمنون عدم إصدار قوانين ضد مصالحهم الفعلية.
تشير أيضاً إلى أنه مع المال السياسي، لا توجد وسيلة سهلة لتحديد أين تنتهي الأيديولوجية؟ وأين تبدأ المصلحة الذاتية ومسألة الفساد؟ وتقف ماير عند العديد من القضايا في التاريخ الأمريكي لضمان الحفاظ على المصالح وإسكات الخصوم. إلا أنها على العموم بذلت جهداً كبيراً في هذا العمل، التي تتوقف فيه أيضاً عند حملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أنفق 66 مليون دولار من ثروته ليتم انتخابه، وسار في خط معاكس ل«وول ستريت»، وهو كسياسي دعم نفسه بأمواله من دون الحاجة إلى أصحاب الثروات.
يحتوي هذا العمل على تفاصيل كثيرة أيضاً تتعلق بالعلاقات الاستخباراتية مع التكتلات الاقتصادية السياسية، وكيفية استخدام المال السياسي بطريقة من شأنها أن تهدد القيم الديمقراطية الأمريكية، وتساهم في التأثير في العديد من القرارات المصيرية في عدد من القضايا التي تهم الأمريكيين أولاً والبشرية بشكل عام.

نبذة عن الكاتبة:

جين ماير كاتبة صحفية استقصائية أمريكية، تعمل لصالح مجلة «نيويوركر»، وهي مؤلفة لثلاثة كتب تعد من الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية وهي: «تدمير الرئيس 1984-1988»، مع دويل مكمانوس، و«العدل الغريب: بيع كلارنس توماس»، مع جيل أبرامسون.
وكتابها «الجانب المظلم: كيف تحوّلت الحرب على الإرهاب إلى حرب على المثُل الأمريكية» حيث منحت زمالة «غوغنهايم» لأجله، كما كان هذا الكتاب من بين عشرة كتب أكثر مبيعاً على قائمة صحيفة «نيويورك تايمز».
وحصلت جين ماير على عدد كبير من الجوائز الصحفية من بينها جائزة «ج.أنتوني لوكاس للكتاب»، وجائزة «غولدسميث للكتاب»، وجائزة «إدوارد وينتال»، جائزة «ريدنهاور»، وجائزة «هيلين بيرنشتاين لمكتبة نيويورك العامة للتميز في الصحافة»، وجائزة «روبرت كينيدي للكتاب». كما كانت من بين المرشحين النهائيين لجائزة الكتاب الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية. تعيش ماير في واشنطن العاصمة.

 

تأليف: جين ماير
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

السلطة والحنكة السياسيّة في العصر الرقمي

السلطة والحنكة السياسيّة في العصر الرقمي

من سيكون في السلطة في القرن الواحد والعشرين؟ الحكومات؟ أصحاب الأعمال الكبيرة؟ عمالقة الإنترنت؟ وكيف يمكننا التأثير في المستقبل؟ يتطرق هذا العمل الذي وضعه توم فليتشر إلى مسألة مهمة، وهي «الدبلوماسية»، متناولاً تاريخها من القرون الوسطى إلى التاريخ الحديث، وصولاً إلى العصر الرقمي الذي فرض أساليب جديدة في اللعبة السياسية على المستوى الدولي، وتأثيرها في الشعوب، ثم يحدد سمات الدبلوماسي الجيد، ومتى يكون العمل الدبلوماسي صعباً ومتى يصبح سهلاً.
يقدم فليتشر في عمله «الدبلوماسيّة العارية: السلطة والحنكة السياسيّة في العصر الرقميّ»، الصادر عن دار «هاربر كولينز» للنشر والذي يقع في 320 صفحة من القطع المتوسط، أمثلة واقعية لكيفية استمرار الدبلوماسية في إيجاد تأثير كبير في حياة الناس، والسبب في مواصلتها القيام بذلك، ويسأل القادة: من تمثل؟ وكيف يمكنك أن تقوم بعملك على نحو أفضل؟
ينقسم الكتاب بعد التمهيد بعنوان «الدبلوماسي الذي وصل في وقت متأخر للغاية»، والمقدمة بعنوان «هنا ترقد الدبلوماسية»، إلى ثلاثة أجزاء: الأول، تاريخ قصير عن الدبلوماسية ويأتي في ستة فصول هي: 1- الدبلوماسية الأولى: من رجال الكهوف إلى القناصل. 2- دبلوماسية عن طريق البحر: من كولومبوس إلى كوبيبويز. 3- أفضل قرن للدبلوماسية. 4- من البريد الإلكتروني إلى المبعوثين. 5- ما الذي يصنع دبلوماسياً جيداً؟
أما الجزء الثاني فهو بعنوان «الحنكة السياسية وحرفة الشارع: القوة والدبلوماسية في عالم متصل». والجزء الأخير: ماذا بعد؟
يستكشف توم فليتشر، السفير البريطاني السابق في لبنان، والذي يعدّ أصغر سفير عين لبريطانيا على مدى 200 عام – المبادئ الأساسية للسياسة الخارجية المتقدمة في القرن الواحد والعشرين: كيفية تحقيق التوازن بين التدخل والمصلحة الوطنية، واستخدام الحوكمة العالمية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية، ووضع برنامج للأنظمة الدولية التمثيلية. ويطرح سؤالاً: هل سيحتاج العالم في السنوات ال 100 المقبلة، إلى التعامل مجدداً مع نفس الكمية من التنمية الاجتماعية في القرون الماضية، من إعادة الولادة للدولة المدينة، والصراع للحصول على الطاقة الجديدة، واختفاء الحدود، إلى رغبة العالم في الانتقال إلى الدول المتقدمة؟
ويستند في ذلك إلى تناول تجربة عدد من القادة الأكثر نفوذاً في عالم السياسة والدبلوماسية، ومن بين من يتطرق إلى تجاربهم: الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس تاليران (1754 -1838)، والسياسي الأمريكي هنري كيسنجر، والراحل نيلسون مانديلا، والسياسيان الأمريكيان جون وروبرت كينيدي، حيث يحلل صعود القوة الذكية، والقوة الناعمة، والتدخل الجديد.

تجربة شخصية

يتحدث عن تجربته الشخصية في الدبلوماسية قائلاً: «خلال فترتي كسكرتير خاص، رأيت أن التكنولوجيا تغيّر الحنكة السياسية. تعاملت مع الورقة والقلم مع رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، وأرسلت البريد الإلكتروني الأول مع رئيس الوزراء غوردون براون، وبدأت باستخدام المراسلات على جهاز الآيباد مع رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون». كما يشير إلى أنه في البداية شعرنا بارتباك في التعامل مع الشريط الإخباري على شاشة «سكاي نيوز» التي تتسع ل 140 حرفاً، ثم انتقلنا إلى التغريدات على موقع «تويتر»، والتي أيضاً لا تتسع إلا ل 140 حرفاً، فكان لا بد من الإيجاز وانتقاء الكلمات بعناية، والتأكد من تأثير الكلمات.
ويقول عن ذلك أيضاً: «هذا التغيّر يمثّل تغيرات بنائية أوسع في الاتصالات، وبالتالي المجتمع على العموم. ولدى جيل الإنترنت فرصة أكبر من أي جيل سبقه في مسألة فهم عالمهم، من ناحية الانغماس فيه وتشكيله»، مضيفاً أنه «في السنوات التي تلت الأحداث الإرهابية في نيويورك 11 سبتمبر/أيلول 2001، شهد العالم تحولاً على نحو أكثر من قبل المهووسين الأمريكيين بالحواسيب في مساكن الطلبة أكثر من نشطاء القاعدة في الكهوف. والعالم سوف يتذكر مارك زوكربيرغ لفترة أطول من أسامة بن لادن».
ويشير إلى أن المواطنين من تونس إلى كييف استخدموا هذه الوسائل في تحركاتهم السياسية والاجتماعية وجعلوا من وسائل التواصل الاجتماعي أداة استثنائية. ويقول: «في السنوات القادمة، ربما يقول الناس إن أكثر الأسلحة قوة لم تكن غاز السارين أو القنبلة النووية، بل الهواتف الذكية».

تاريخ الدبلوماسية

كما يقدم موجزاً عن تاريخ الدبلوماسية، بدءاً من شين ويغين، مستشار أحد الأباطرة الصينيين في القرن الثالث، إذ بعد أن خيّب أمل سيده في مساعيه السياسية، انتهى مصيره إلى قطع لحم صغيرة. ويقول الكاتب: «لحسن الحظ، هذا المصير لا ينتظر الدبلوماسيين اليوم، مهما كانت أوجه القصور لديهم».
كما يتوقف عند السفراء الإسبان والفرنسيين في لندن، الذين سعوا إلى التقليل من شأن بعضهما البعض، ويشير إلى أن النقطة البارزة في الدبلوماسية الأوروبية عموماً تعتبر انطلاقاً من مؤتمر فيينا في عام 1815، والتي أرست الأساس لقرن من السلام في أوروبا، ما أتاح نمو الإمبراطورية. كما أدى مؤتمر فيينا إلى ولادة السلك الدبلوماسي على نحو مهني.
ويذكر أنه عندما وصلت الملكة فيكتوريا (1819 – 1902) إلى العرش، كان لبريطانيا ثلاثة سفراء دائمين فقط؛ وعندما توفيت، كان هناك 100 سفير في أرجاء العالم، وانتهى كل هذا الأمر في ألم وبكاء على الصعيد العالمي، مع اندلاع الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى معاهدة فرساي، والتي بدورها زرعت بذور الحرب العالمية الثانية.
وعن مسألة الثقة بين السياسيين والعامة، اشتكى دبلوماسي فرنسي في 1931 من نشاطات الصحافة التي لا توفّر جواً ملائماً لتنفيذ المخططات السياسية، حيث تخبر الناس بالحقيقة، وهذا ما يصعب مهمتهم، وهذا الأمر يسير بالطبع عكس قيم الحكومات الديمقراطية والمنفتحة على شعوبها، إلا أنه رغم ذلك فالعديد من شعوب العالم المتقدم تجد أن السياسيين يمارسون تضليلاً وخداعاً معهم.
وفليتشر حين يتحدث عن انحدار الثقة في الطبقة السياسية، لا يجدها أزمة، أو على الأقل لم تصبح أزمة حقيقية بعد، خاصة أنه حينما يحدد السمات الأساسية لكل دبلوماسي جيد والتي نلخصها في: البراعة، الشجاعة، الفضول، وامتلاكه القدرة على التواصل مع الجميع. من دون أن يحدد الصدق والنزاهة على القائمة كما علق أحد النقاد عليه لاحقاً.

الدور المتغير للدبلوماسي

ويتناول فليتشر في الجزء الثاني من عمله الدور المتغير للدبلوماسي في عالم شهد تحولاً سريعاً عن طريق صعود السوق العالمية وولادة الإنترنت. ويبين كيفية تعاطي وزارة الخارجية البريطانية مع الدبلوماسيين، ومسألة التطور الدبلوماسي، إذ إنه حتى وقت متأخر من عام 1970، كانت الوزارة تلجأ إلى «دليل الدبلوماسي»، الذي كان يقدم النصيحة للدبلوماسيين، وعن تصرف زوجاتهم، والمرأة الدبلوماسية كان ينبغي عليها أن تقدم استقالتها إذا تزوجت.
كما يوضح أن الدبلوماسيين البريطانيين كانوا يتسمون بالأناقة، ويحصّلون تعليمهم من مجموعة معروفة من الجامعات والمدارس، وأوساطهم كانت نخبوية بامتياز، كما أن مهارة السفير في كتابة برقية أنيقة كانت تزيد من رصيده في عمله. إلا أن ذلك كله تغير في العصر الرقمي الذي فرض تعاملاً جديداً مع الدبلوماسية والسياسية، إذا بات على الدبلوماسي الحديث أن يوسع من قاعدة جمهوره، وأدوات العصر الرقمي من مواقع التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني وغيرها تساعده في القيام بذلك. ومن المتوقع أن يكون الدبلوماسي في الخط الأمامي عندما يتعلق الأمر بتعزيز المصالح التجارية والثقافية والسياسية لبلاده، بالتالي عليه إدراك أسلوب التخاطب مع جمهوره من الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، وجميع الأديان والمذاهب والطوائف.
يؤكد الكاتب أنه على السياسيين والدبلوماسيين التحلي بالمرونة والشجاعة في خوض غمار عالم جديد من العولمة والثورة الرقمية، حيث وتيرة التغييرات متسارعة، ولا شيء يبقى سرياً لفترة طويلة في عصر الشفافية و«ويكيليكس».
ويبين أن الجماعات الإرهابية نفسها لجأت إلى التكنولوجيا الرقمية للترويج لأفكارها، واستقطاب مجندين جدد لها، حيث اتخذتها سلاحاً موجهاً ضدنا. وبالتالي، سواء أحببنا ذلك أو لا، فإن البقاء في هذا العالم الرقمي بات أشبه بمهمة، علينا التحرك فيه بحكمة، وجعل أدواته قوة للخير في وجه الجماعات الظلامية التي تريد أن تفرض سواداً قاتماً على عالمنا.

أدوات الدبلوماسية الحديثة

يوضح الكاتب أن الدبلوماسية تصبح صعبة عندما تكون أمتك أو دولتك أو دينك في انحدار ملموس أو فعلي، إذ يصبح الذهاب إلى البيت الأبيض أكثر صعوبة، والتخطيط للاتصالات الهاتفية أيضاً. وكذلك تصبح صعبة عندما تكون قوتك العسكرية في هبوط أو أن التقشف سائد، أو أن المواطنين أقل رغبة في التضحية لأجل مصالح الدولة. وتصبح الدبلوماسية صعبة أيضاً عندما يفقد المواطنون حس الابتكار والإبداع بسبب العوز والفقر، والتضوّر جوعاً، فالدبلوماسية القوية لا تظهر في أجواء الفساد السياسي والجوع وانعدام القوانين.
ويشير الكاتب إلى أن الدبلوماسية تصبح سهلة عندما تكون القواعد والقوانين واضحة للمواطنين، وعندما يلعب جميع مواطني الدولة على طاولة الشطرنج ذاتها. وتصبح سهلة عندما تكون البلاد في حالة من الصعود، حينها تجد مكالماتك مردود عليها بالسرعة الممكنة، وتجد سهولة في التوسع على صعيد السفارات والوفود الاقتصادية.
وهنا يؤكد الكاتب أنه يترتب على الدبلوماسيين أن يتبنوا الذهنية التي تلائم أدوات العصر الرقمي الجديد الذي يشكل استثناء وثورة. ويقول: «العديد منا ارتكب أخطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الخطأ الأكبر هو عدم التواجد عليها. وكذلك نحن بحاجة إلى السيطرة على هواتفنا الذكية».
وعموماًَ، يقدم الكتاب العديد من المناقشات والحجج والقصص السياسية، كما يظهر تعاطفه مع لبنان وشعبه، والجهد الهائل الذي بذله للتواصل مع هذا البلد الذي يشهد تعقيدات كبيرة على الساحة السياسية.
وفي الختام، يحدد ثلاثة تحديات كبيرة للدبلوماسي في القرن الواحد والعشرين وهي: متى وكيف ينبغي لنا أن نتدخل في حروب الآخرين؟ كيف نبني المؤسسات الدولية التي تصلح لتحقيق أهدافنا البشرية، أبرزها الأمم المتحدة، والتي غالباً ما تصبح عاجزة أمام التنافس بين مصالح الدول الكبرى؟ وكيف يمكننا الحد من عدم المساواة في العالم دون ترك دمار؟
يشكل هذا العمل نداء لنا كشعوب ودول لإعادة التفكير بمكاننا في المجتمع وفي عالمنا المترابط. كما يحثنا على التحلي بالشجاعة والإبداع والاتصال مع الآخرين في عالم يفتقد إلى الدبلوماسية في أجزاء كبيرة منه.

نبذة عن الكاتب:

توم فليتشر هو أستاذ زائر في العلاقات الدولية في جامعة نيويورك، ومستشار لتحالف الأعمال العالمي للتعليم ولأكاديمية الإمارات الدبلوماسية. شغل موقع السفير البريطاني في لبنان من 2011 إلى 2015، ومستشار السياسة الخارجية ل«داوننغ ستريت» لثلاثة رؤساء وزراء من 2007 إلى 2011.
كما يعد فليتشر زميلاً فخرياً في جامعة أكسفورد، يدوّن باسم «الدبلوماسي المجرّد»، ويترأس المجلس الاستشاري الدولي لاتحاد الصناعات الإبداعية، حيث يقوم بالترويج لهذا القطاع الأكثر ديناميكية وجاذبية لبريطانيا في الخارج. وقاد توم فليتشر مؤخراً استعراضاً للدبلوماسية البريطانية لأجل وزارة الخارجية في المملكة المتحدة، ويعمل حالياً على تقرير حول مستقبل الأمم المتحدة للأمين العام الجديد للأمم المتحدة. وهو متزوج من الدكتورة لويز فليتشر، طبيبة نفسانية، ولهما ابنان.

الرقميون الرحّل

الرقميون الرحّل

على شاكلة البدو الرحّل، أطلّ علينا مؤخراً في الساحة الرقمية مصطلح الرقميون الرحّل digital nomads كدلالة مباشرة للتحولات التي تحدث في قطاع الأعمال ونتيجة لتأثير تقنية المعلومات والاتصالات، الرقميون الرحل هم عمّال معرفة knowledge workers هائمون يأنفون من ممارسة أعمال تقليدية ترتبط بالمكان والحضور والإنصراف، ويفضلون العمل الحرّ المتنقل، دائم الحركة، والقائم على الابداع والابتكار، إنهم أشخاص عاديون ولكنهم يملكون صفات شخصية تجعلهم قادرين على العمل بحرية مطلقة أثناء ترحالهم وتنقلهم بواسطة حواسيبهم المتنقلة، أو ألواحهم وهواتفهم الذكية، بتنا اليوم نراهم يعملون وينجزون أعمالهم ووظائفهم في المقاهي، والمكتبات العامة، وردهات الفنادق، والمتنزهات والشواطئ الجميلة، أو أينما يحلوا لهم ذلك .. كما أنهم يتنقلون ويسافرون خارج حدود البلد الواحد وتراهم يعشقون الترحال والتنقل من مكان إلى آخر أو من دولة إلى أخرى.
تشير التوقعات أن الرقميّون الرحّل سيستحوذون على نسبة عالية من قطاعات الأعمال في المستقبل المنظور، وسيمثلون كتلة كبيرة من القوى العاملة، وخصوصاً في مشاريع الشركات المتوسطة والصغيرة التي توظف التقنية بصورة فاعلة في أعمالها، لقد ساعدت شبكات التواصل الاجتماعي وهيّأت للرقميين الرحّل تسويق أعمالهم وأنشطتهم، انهم يتكاثرون ويمثلون مستقبل العمل الجديد، كل ما تحتاجه هذه الفئة من عمال المعرفة هو أجهزتهم المحمولة وخدمات انترنت فائقة السرعة.
بعضهم ينتسبون لشركات قائمة، ولكن أغلبهم مستقلون freelancers يعملون وفق استراتيجيات وأهداف خاصة وضعوها بأنفسهم، وتتنوع أعمالهم لتشتمل على التسويق والتجارة الرقمية، والخدمات الاستشارية، بالإضافة إلى تقديم الدروس وورش العمل عن بعد، وإدارة صفحات الشبكات الاجتماعية لمؤسسات أو منظمات حكومية أو خاصة، والتصميم والابتكار، وتصميم الشعارات والقوائم والاستمارات، وكذلك تصميم وإدارة تطبيقات حاسوبية، وإدارة العلاقات العامة، وتطوير وتحسين صفحات الانترنت وخدماتها، وخدمات الزبائن والعملاء، والمتابعة والتنسيق، وتصدير واستيراد، وإدارة أنشطة خدمات لوجستية، وتسويق الأغذية ووجبات المطاعم، وتطوير النظم الحاسوبية، وتقديم خدمات محاماة واستشارات قانونية … وغيرها الكثير من الأعمال القائمة حالياً، والتي تلاقي اهتماماً ورواجاً كبيراً في بيئة الأعمال الرقمية.
إن هذا القطاع من الأعمال أصبح يلاقي اهتماماً كبيراً من قبل الأنظمة الاقتصادية في بلدان مختلفة من العالم، كما صار يجذب اهتمامات الباحثين، ورواد الأعمال، والمستثمرين، وما أحوجنا نحن اليوم في بلادنا لتعزيز الفرص القائمة على هذا النوع من الأعمال وخصوصاً في ظل تزايد أعداد مخرجات التعليم العالي التي تبحث عمن يرشدها إلى عمل أو وظيفة ويشد بيدها ويشجعها، ويسهل لها الوصول إلى الأعمال الحرة والمستقلة القائمة على تطويع التقنية واستثمار إمكاناتها العالية، لهذه المخرجات همم عالية، وحوافز متوقدة، ورغبة جادة للعمل والعطاء، ولكن قد ينقصها الوعي بحجم ونوع الفرص الوظيفية المتوفرة في غير القطاع الحكومي، ومن هنا ندعو الباحثين عن عمل البحث والاطلاع عما يناسب اهتماماتهم وميولهم وقدراتهم الذاتية في الابداع والابتكار، وتعزيز الثقة بالذات ومحاولة الالتحاق ببيئة الأعمال الرقمية.