سلوكيات الفساد تطغى على المشهد الصيني

سلوكيات الفساد تطغى على المشهد الصيني

 

يكاد هذا الكتاب يشكل صيحة تحذير، لا بالنسبة للصين وحدها، ولكن بالنسبة لسائر الدول والكيانات السياسية التي تجتاز مراحل مفصلية من التحول من نظم وأساليب الحكم الشمولية إلى حيث تعتمد وتتبع نظماً تقوم على أساس الديمقراطية الليبرالية بكل ما تنطوي عليه من متطلبات الشفافية والمساءلة وإقرار حقوق القواعد الشعبية.

ويحفل الكتاب بحقائق مزودة بإحصاءات موثوقة لما يشوب المشهد الصيني في الوقت الراهن من آفة سلوكيات رأسمالية المحاسيب كما يصفها المؤلف، وهي ظاهرة سلبية بدأت بالذات مع إصلاحات الزعيم دينغ شياو بينغ التي خففت سطوة الدولة على كبرى المؤسسات الاقتصادية.

لم يكن الاغريق يعرفون أن لفظة كرونوس في لغتهم العريقة سوف تؤول في زماننا الراهن إلى أن تصدق على ظاهرة بالغة السلبية في عالم السياسة ودنيا الحكم وساحات الاقتصاد.

لقد اشتق منها عالمنا مصطلح كروني بمعنى طول الزمن، ومن ثم بمعنى الصديق القديم والصاحب الذي طال الأمد على مصاحبته وصداقته. ومن هذا المعنى جاء تعبير محاباة قدامى الأصدقاء والتحيز لمصالحهم، ولو كان ذلك للأسف على حساب مصالح الاخرين.

ثم تطوّر هذا المصطلح إلى حيث صاغوه في الانجليزية المحدَثة على أنه كروني كابيتاليزم. وحين جهدنا في نقله إلى عربيتنا الشريفة المعاصرة توصلنا إلى المصطلح الذي بات ذائعاً في الآفاق وهو: »رأسمالية المحاسيب«. وهذا هو العنوان الذي اختاره مؤلف الكتاب الذي نعايشه في ما يلي من سطور.

رأسمالية المحاسيب في الصين

الكتاب الصادر مؤخراً عن جامعة هارفارد بقلم البروفيسور الصيني الأصل مكسين بيي، أستاذ أصول الحكم في الجامعات الأميركية.

وعلى الرغم مما قد يعكسه الكتاب من موقف حاد تجاه المشهد الصيني الراهن، إلا أن نهج التحليل الانتقادي الذي يتبعه المؤلف، وهو في أصوله كما ألمحنا من أهل الصين ويجيد لغتها، مازال مفيداً في قراءة سلبيات هذا المشهد، الذي يكاد يقارب نظيره في روسيا الراهنة،.

فيما يمكن أن يفيد هذا العرض التحليلي في تنبيه كل الدول التي ما برحت تجتاز مراحل الانتقال وأطوار التحول من نظم ونظريات ومنظومات تجاوزها الزمن، وباتت تقتضي تطوراً في المسارات والتوجهات والأفكار على السواء.

ولأن رأسمالية المحاسيب تنصرف بداهة إلى سلوكيات مرفوضة تقوم على أساس محاباة المقرّبين وتمييز لحساب الصديق والقريب والمنافق على حساب جموع المواطنين من أصحاب الحقوق المشروعة، فإن المؤلف لا يتورع عن إضافة عنوان فرعي لهذا الكتاب في عبارة تقول: ديناميات اضمحلال النظام الحاكم.

تتمثل انطلاقة هذا الكتاب في اللحظة التي تولّى فيها دينغ شياو بينغ ثاني الزعماء التاريخيين للصين الشعبية مقاليد الحكم في البلد الأسيوي الكبير. كان ذلك بعد وفاة زعيمها رقم واحد وهو ماو تسي تونغ (1893- 1976). أعلن بينغ عن قراره باتباع نهج جديد يكاد يكون مغايراً لسلفه موضحاً أن تطبيق الاشتراكية في حكم الصين لن يلتزم حرفياً بالفكر الماركسي بل سيكون له خصائصه الصينية الأصيلة.

سلوكيات الفساد تطغى على المشهد الصيني2

 

سلبيات

لكن أحوال الصين بعد رحيل دينغ شياو بينغ، آلت إلى سلبيات تمثلت، برأي مؤلف كتابنا، إلى تزايد التوترات الاجتماعية وتفشي آفة الرشوة وتفاقم حالة اللامساواة بين فئات المجتمع وشيوع سلوكيات الفساد مما هيأ أكثر من فرصة سانحة للتكسب لحساب الفئات المحظوظة من الأصدقاء والأقرباء وطبعاً على حساب جموع المواطنين العاديين ولدرجة هيأت المناخ لنشوء طبقة جديدة من المليارديرات التايكونات الذين باتوا يتطلعون إلى أن يخدمهم في مساكنهم الفاخرة فئة السقاة على طريقة أرستقراطية الانجليز على نحو ما نشرته »نيويورك تايمز«.

ويذهب المؤلف أيضاً إلى أن هذه الظاهرة بدأت مع استهلال عقد التسعينات من القرن العشرين حيث بدأ تطبيق تعاليم دينغ في كسر احتكار الدولة وسيطرة الأخيرة الحاكمة على كل مقدرات البلاد.

وكان ذلك في جوهره النظري أمراً إيجابياً. لكن ما لبث أن تحوّل إلى النهج السلبي متمثلا كما يوضح مؤلفنا في تحويل المقدرات المؤسسات، المصالح الاقتصادية من سيطرة البيروقراطية الحكومية إلى حيث تخاطفتها أيادي ومصالح المسؤولين الحكوميين ودوائر البيزنس وبارونات الرأسمالية المستجدة.

وتم ذلك كما يضيف الكتاب أيضاً، بهدف مراكمة الثروات من خلال الاستيلاء بطرق ملتوية على الممتلكات التي كانت في السابق في حوزة الدولة الصينية وضمن ممتلكاتها العمومية، وخاصة في مجالات الأراضي المشاع والموارد الطبيعية والأصول التي كانت تضمها المشاريع التي كانت خاضعة لإدارة الدولة.

تورطوقبل أن يشهر القارئ أو المحلل سيف الانتقاد أو التشكك في نوايا المؤلف، فإن البروفيسور منكسين يبادر على طول الصفحات إلى تجميع ما يزيد على 200 حالة فساد تورّط فيها العديد من مسؤولي الحكومة، بل ومسؤولي إنفاذ القوانين، فضلا عن العديد من رجال الأعمال وأعضاء تشكيلات الجريمة المنظمة.

وفي خضّم هذا الخليط من فساد الذمم وانتهازية السلوك وخلل المعاملات، تجلت ظاهرة رأسمالية المحاسيب بكل تداعياتها السلبية على الدولة والحزب الحاكم والمجتمع الصيني بشكل عام.

ظاهرة سلبية

ثم يعلق المؤلف على هذه الظاهرة السلبية موضحاً أن المسألة ليست مقتصرة على مجرد السلوك غير القويم، ولا حتى على الخلل في توزيع المغانم أو المزايا:

لكن الخطأ الأفدح بنظره، مازال متمثلا في أن استمرار هذه الظاهرة من شأنه أن يجعل من أي محاولة جادة ومخلصة للتحول نحو الديمقراطية أو الحكم الرشيد سوف تصادف صعوبات كأداء، وهي صعوبات يراها المؤلف كامنة تحت سطح الصورة الايجابية التي تتسم بها أحوال الصين الدولة والحزب والنظام في الوقت الراهن.

ثم إن المشكلة لا تقتصر في رأي مؤلفنا على المستويات القيادية العليا في الحزب الشيوعي الحاكم أو في بيروقراطية الدولة الصينية: لقد زادت المشكلة حدّة من واقع امتداد فساد رأسمالية المحاسيب إلى حيث باتت تشمل مستويات شتى، بعيداً عن مستوى القمة أو القيادات العليا، وإلى حيث وصلت إلى المستويات القاعدية التي تضم مسؤولين من المستوى المتوسط وأحياناً المستويات الدنيا.

وكله يتم بالطبع على حساب مصالح أوسع قواعد الجماهير من أصحاب المصلحة الأصليين في إدارة الشأن العام.

المؤلف

البروفيسور منكسين بيي أستاذ وخبير متخصص في دراسة النظام وإدارة شؤون الحكم في جمهورية الصين الشعبية وفي علاقات الولايات المتحدة مع الصين، إضافة إلى قضايا التحول الديمقراطي في الأقطار النامية على وجه الخصوص.

وقد نال درجة الليسانس باللغة الانجليزية من جامعة الدراسات الدولية في شنغهاي، وبعدها نال درجتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة.

ويُعد المؤلف مرجعاً في قضايا التحولات السياسية والاقتصادية التي ما برحت تطرأ على المشهد العام في جمهورية الصين الشعبية.

الأحزاب المحافظة وولادة الديمقراطية

الأحزاب المحافظة وولادة الديمقراطية

 

كيف تتشكل الديمقراطيات وما الذي يجعلها تموت؟ في كتابه الجديد هذا يعيد دانيال زيبلات النظر في هذا السؤال الكلاسيكي، من خلال سرد تاريخي يتتبع فيه تطور الديمقراطية السياسية الحديثة في أوروبا منذ بداياتها المتواضعة في بريطانيا في سنوات 1830 إلى استيلاء هتلر في عام 1933 على السلطة في جمهورية فايمر ألمانيا، ودور الأحزاب المحافظة، خاصة في بريطانيا وألمانيا، في ترسيخها لخدمة مصالحها، كما يقدم الكتاب تحليلات وآراء تساعدنا في فهم التطور الديمقراطي الراهن، وكيفية إزاحة الأنظمة الاستبدادية في كل مكان بالعالم.
بالاستناد إلى الأدلة التاريخية النوعية، يقدم زيبلات إعادة تفسير مهمة للتاريخ الأوروبي، ومسألة كيفية تحقيق الديمقراطية السياسية المستقرة في عدد من البلدان، إذ يجد أن الحواجز التي تعترض سبيل الحكم السياسي الشامل، لم يتم التغلب عليها بشكل حتمي عبر حالات المد والجزر التي لا يمكن وقفها جراء التغيير الاجتماعي والاقتصادي، وهو انتصار بسيط يُحسب للطبقة الوسطى المتنامية، أو حتى من خلال العمل الجماعي للطبقة العاملة. ويشير إلى أن مصير الديمقراطية السياسية كان يتوقف بشكل مفاجئ على كيفية قيام الأحزاب السياسية المحافظة، المدافعين التاريخيين عن السلطة والثروة والامتيازات، بإعادة تشكيل نفسها والتعامل مع صعود اليمين الراديكالي.
ولادة الديمقراطية
يرى الكاتب أن السنوات من 1848 إلى 1950 تمثل فترة حاسمة في تاريخ الديمقراطية، قائلاً «العالم السياسي صامويل هنتنجتون وصف القرن التاسع عشر الطويل بأنه يجسد موجة الديمقراطية الأولى، خاصة عندما بدأت كل من أوروبا، وأمريكا اللاتينية، وأمريكا الشمالية بالالتقاء على مجموعة مشتركة من المؤسسات الديمقراطية الحديثة، من بينها حق التصويت، والحريات المدنية»، ويضيف: «في حين أن مبدأ الديمقراطية السياسية نفسه يتطور باستمرار، فإنه خلال هذه الفترة ظهرت هذه المؤسسات التي شغلت اهتمامنا أولاً في العالم الحديث، في بعض الأحيان بالتزامن مع بعضها البعض، وفي أحيانٍ أخرى بشكل منفصل، لكنها دائماً ما تحول بنية الحكم السياسي. وعلى الرغم من حدوث صراع بسهولة على تواريخها الدقيقة وملامحها الأساسية، فإن التجارب والاتصالات المشتركة لهذا العصر، تؤهله بشكل حتمي ليكون عصراً محدداً ليس فقط بإرساء الديمقراطية، بل أيضاً بالحركات المضادة للمحافظين والمنظمة بشكل كبير».
ويرى زيبلات أنه اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر، قدمت البواخر، وأسلاك التلغراف عبر مياه المحيطات، والسكك الحديدية «خطوط القوة» الجديدة التي ربطت أوروبا، مع أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية في فضاء اقتصادي اجتماعي ملتحم إلى حد كبير. وضمن العالم الأطلسي، تقاطعت بشكل كبير طرق التجارة وخطوط الاتصالات الجديدة، ما دفع بمجموعة من المبادئ والأفكار السياسية التقدمية، من بينها صعود السياسة الاجتماعية الحديثة، والتشريعات الاقتصادية، وتخطيط المدن، وفرض النظام الضريبي المتقدم على الدخل، والديمقراطية، إلى جعل «المعابر الأطلسية» تعيد تشكيل السياسة المحلية على نحو عميق.
ويقول أيضاً «على العموم، هذه الفترة لم تكن محددة فقط بصعود الديمقراطية أحادية الجانب على نحو وحيد. لم يكن هناك من خط مستقيم، ولا موجة وحيدة من الديمقراطية بل بالأحرى كانت هناك موجتان؛ واحدة منها الديمقراطية، والثانية هي الاستبداد. هاتان الموجتان تتحركان في اتجاهين متعاكسين، وكثيراً ما تصطدمان. كما أن تعايش هذين الاتجاهين المتناقضين يجعل هذا العصر حقلاً غنياً للعلماء المعاصرين. وفي يومنا هذا، نجد أن العالم تعرّض لسلسلة من انفجارات الانفتاح الديمقراطي التي كانت سياسية ونشطة وعابرة للدول، لكنه أيضاً تعرّض إلى انحدار رجعي عادت فيه الأنظمة الاستبدادية إلى تأدية وظيفتها السابقة، وظهرت أشكال جديدة من القمع والاضطهاد، وتعرضت الجهود الرامية إلى إرساء الديمقراطية للهزيمة. العديد من الأنظمة السياسية اختبر حالات من الانفتاح والانكماش، وغالباً في فترة قصيرة».
ويضيف: «على سبيل المثال، بداية العقدين قبل 1848، انتشرت سلسلة متواضعة من الديمقراطية عبر العالم الكائن في شمالي الأطلسي. فالولايات الأمريكية حينها بدأت تخطو بهدوء في عملية إلغاء متطلبات الملكية لأجل التصويت للرجال البيض في أماكن مثل ماساتشوستس في 1821، في مواجهة معارضة شخصيات بارزة مثل جون آدامز ودانييل ويبستر، ومع ذلك فقد امتدت إلى كل الولايات تقريباً في سنوات 1850. في فرنسا، في صيف 1830، بعد قرارات شارل العاشر القاسية عمت الاحتجاجات والحواجز شوارع باريس، وأطيح به، وطالب الديمقراطيون الفرنسيون بإجراء انتخابات عامة. وفي بريطانيا، قانون الإصلاح في 1832 كان بشكل جزئي استجابة للفوضى الاجتماعية، في حين بدأت حركة تشارتيست الراديكالية في أواخر 1830 بالدفع إلى إجراء حق التصويت العام لجميع الرجال».
انعطافة في تاريخ الديمقراطية
يشير الكاتب إلى أنه في اضطراب عنيف آخر، لكن على نحو أكبر، سرعان ما ترددت أصداؤه عبر العالم الأطلسي، أثارته الفوضى الاقتصادية العالمية، إذ إن ثورات 1848 أنهت حكم الملك لويس فيليب، في فرنسا، ما دفع الأمر إلى إنهاء الأنظمة الاستبدادية لفترة قصيرة في قلب وجنوب أوروبا، وكان لذلك تأثير كبير في تعزيز الإصلاحات الأساسية في بلجيكا، والدول الإسكندنافية، وعبر الأطلسي، ما دفع إلى حالات تمرد في شمال شرقي البرازيل وتشيلي. لكن على العموم بعد آمال بإرساء الديمقراطية، سرعان ما بدأت في 1849 و1850 العديد من الأنظمة القمعية تعيد تشكيل نفسها، ونشأ عن ذلك ولادة استبداد عنيف استمر لعدة عقود.
في أواخر 1860 وأوائل 1870 وجدت انعطافة جديدة في تاريخ الديمقراطية عبر الأطلسي. وخاصة مع نشوب الحروب الأهلية التي قادت إلى بناء الدول – الأمم الحديثة، حيث أعاد السياسيون تشكيل مجتمعاتهم. أما في القرن العشرين، فيشير الكاتب إلى ظهور حركة جديدة قادت إلى تقييد الديمقراطية، إلّا أنه كان هناك إصلاحيون يمضون قدماً مع إصلاحاتهم الديمقراطية المحدودة في الأيام التي تسبق الحرب العالمية الأولى. على سبيل المثال، وصل الاقتراع العام إلى السويد في 1907 و1909، لكن برلمانها مع ذلك لم يكن بالقوة المطلوبة، وكذلك سلطة الفيتو لمجلس اللوردات البريطاني كانت ضعيفة في 1911، لكن كان الاقتراع العام لا يزال مقيداً، وفي الأرجنتين في 1912 سُمح حينها قانون بحق الاقتراع، لكن للرجال فقط.
ويشير إلى أنه مع انتهاء الحرب العالمية الأولى والانهيار المتزامن للإمبراطوريات العثمانية والروسية والألمانية، والنمساوية – المجرية، شهدت بلدانها بالكامل تقدماً هائلاً في الديمقراطية الجماعية. قبل 1918 كانت هناك ثلاث جمهوريات في أوروبا، لكن بعد الحرب أصبحت 13 جمهورية. وفي 1922 قال المراقب البريطاني المؤثر، جيمس برايس، إنه كان يشاهد «قبول الديمقراطية على المستوى العالمي كشكل الحكومة الطبيعي والنموذجي». لكن عندما ضربت الأزمة الاقتصادية العالم، وانحلت الديمقراطيات بشكل سريع، وأصبحت البرلمانات موضع سخرة وانتقاد لاذع من قبل اليمن واليسار بشكل كبير، سقطت الديمقراطيات، أولاً في بولندا، البرتغال، إيطاليا وإسبانيا، وبعد 1928، حتى في واحدة من أغنى دول العالم وهي، ألمانيا، وعبر الكرة الأرضية.
عالم مترابط
على الرغم من أن الديمقراطية كانت موضوع العصر، إلّا أن عصرنا هذا يجذب انتباهنا أكثر كما يذكر الكاتب، لأنه جاء بعد سلسلة من التوسعات والتقلصات السريعة التي حددت كل العصور الديمقراطية، من بينها الأمريكية. ويرى أنه مع تحول العالم إلى شكل أكثر ترابطاً في المجال الاقتصادي، لم تكن السياسة بمعزل عنها، بل أيضاً أصبحت متصلة. فتقلبات أسعار القمح في أسواق شيكاغو استطاعت أن تؤثر بشكل كبير على إقطاعيي شرق بوروسيا الأكثر ثراء، الذين كان لهم نفوذ في جمهورية فايمر، ألمانيا، واستهلاك الطبقة الوسطى في مناطق مثل تشيلي ورومانيا تضاهي الطبقة الوسطى في فرنسا وبريطانيا، ويقول عن ذلك «السياسة أيضاً أصبحت الآن أكثر ترابطاً وتشابكاً والقوى المزدوجة لإرساء الديمقراطية والمناهضة لها تسيران جنباً إلى جنب، ما يجعل هذه الفترة حاسمة، ليس فقط لفهم ولادة الديمقراطية الحديثة في أوروبا، بل أيضاً لتحليل محاولة استيعاب أسباب التطور الديمقراطي طويل المدى على نحو عام أكثر».
يركز الكاتب في عمله على التجربتين البريطانية والألمانية لإرساء الديمقراطية، حيث كانتا محور قصة عامة على نحو أكثر عن كيفية استقرار وثبات المسارات التي تقود إلى الديمقراطية المتحققة في أوروبا، ويقف عند كل بلد على حدة، وكيفية تطور الأحزاب المحافظة فيه، ويقارن بين التجربتين في القسم العاشر من العمل، مشيراً إلى أن «ألمانيا وبريطانيا نموذجان من الأنظمة التي أرست الديمقراطية في أوروبا، حيث النخب القديمة فيهما اندمجت مع نظام جديد بطرق مختلفة مع عواقب مهمة بشكل عميق. وعكس الحق الانتخابي الضعيف والممزق في البرتغال وإيطاليا التجربتين الألمانية والإسبانية قبل 1914 والديمقراطيات الناشئة كلها كانت هشة للغاية في سنوات ما بين الحربين العالميتين. وبالنسبة للدنمارك وبلجيكا وهولندا، فهي حالات كان فيها إما يتسلم وسط اليمين زمام السلطة، أو كان منافساً حيوياً خلال السنوات من 1920 إلى 1930، وهي تعكس التجربة البريطانية والسويدية. في الحالات اللاحقة، فإن أحفاد معارضي الديمقراطية من «النظام القديم» أصبحوا مشاركين متحمسين في العملية السياسية الديمقراطية. وبينما كانت فرنسا تلائم بشكل غير مريح بين هذين النمطين، فإن الطبيعة الضعيفة للسياسة المحافظة، أسهمت في تشكيل حالة متزعزعة من الديمقراطية في فرنسا أواخر 1930.
ونضيف على كلامه السابق، مما يقوله في خاتمته، إن التجارب التاريخية لألمانيا وبريطانيا توضح أن المعارضين السابقين للديمقراطية، وأصحاب الثروات والنفوذ، يمكن جعلهم يتعايشون مع الديمقراطية المستقرة، مؤكداً أن «قدرة نخب النظام القديم على تشكيل حزب سياسي محافظ قوي ونشيط يمثل مصالحهم في النظام الجديد، هو عامل أساسي في التطور الديمقراطي».
الكتاب صادر حديثاً ضمن سلسلة دراسات كامبريدج في السياسة المقارنة في 448 صفحة عن مطبعة جامعة كامبريدج باللغة الإنجليزية، ويأتي في 11 قسماً:
1 نمطان من إرساء الديمقراطية. 2 النظام القديم ومحنة المحافظين. 3 من 1688 إلى السياسة الجماهيرية: إرساء الديمقراطية البريطانية. 4 دورة فاضلة؟ قوة المحافظين وطريق بريطانيا المستقر 1884- 1906. 5 تجنب كارثة ديمقراطية في بريطانيا 1906- 1922. 6 السياسة المحافظة للأحزاب الضعيفة وحالة ألمانيا. 7 الديمقراطية المتوقفة في ألمانيا قبل 1914. 8 المسار غير المستقر: ضعف المحافظين في ألمانيا فايمر 1918- 1928. 9 الطوفان: ضعف المحافظين والانهيار الديمقراطي في ألمانيا. 10 كيف يتم إرساء الديمقراطية في الدول: أوروبا وما بعدها.11 الخاتمة. وتأتي ثلاثة ملاحق في الكتاب.
نبذة عن الكاتب
دانيال زيبلات، هو أستاذ الحكومة في جامعة هارفارد. وتشمل اهتماماته البحثية والتدريسية الديمقراطية، وبناء الدولة، والسياسة المقارنة، والاقتصاد السياسي التاريخي، مع اهتمام خاص بالتنمية السياسية الأوروبية. لزيبلات مؤلفات عديدة منها كتابه الأول «هيكلة الدولة: تشكيل إيطاليا وألمانيا ولغز الفيدرالية» (2006، مطبعة جامعة برينستون) الذي نال العديد من الجوائز من رابطة العلوم السياسية الأمريكية.