أسعار الفائدة واستقرار النظام المالي

اعتمد الصفر تدريجيا في العالم القديم ـــ شرقا وغربا ـــ باعتباره النقطة المرجعية النهائية التي تتغير الأمور عند تجاوزها ارتفاعا وانخفاضا. فقد كان الصفر يمثل قاعدة الأهرامات عند المصريين القدماء، كما أصبح نقطة تجمد المياه في العلوم، ومنسوب البحر في الجغرافيا، ونقطة بدء التقويم في التاريخ.
وفي عالم السياسة النقدية، جرت العادة على رؤية الصفر باعتباره الحد الأدنى لأسعار الفائدة. هذه الرؤية تغيرت في السنوات الأخيرة في سياق التعافي البطيء من أزمة 2008، حيث وصلت عدة مصارف مركزية إلى الصفر، ثم بدأت تخوض تجربة سياسات أسعار الفائدة السالبة. وكان الدافع بالنسبة لمعظمها هو مواجهة التضخم شديد الانخفاض، وإن كان الدافع لدى بعضها هو القلق تجاه العملات بالغة القوة.

الاستقرار المالي
وظهرت التساؤلات: هل ينبغي أن نقلق بشأن مدى فعالية أسعار الفائدة السالبة وآثارها الجانبية المحتملة؟ هل يمكن لهذه السياسات أن تدعم الطلب؟ هل يمكن أن تؤثر في الاستقرار المالي؟ هل يكون لتخفيض أسعار الفائدة إلى أقل من الصفر آثار مختلفة عما تحدثه أسعار الفائدة التي تتجاوز الصفر؟ وأمام هذه التساؤلات، قدمنا بعض الإجابات في دراسة صدرت أخيرا تستند إلى التجربة المبدئية في منطقة اليورو والدنمارك واليابان والسويد وسويسرا.
وفي دراستنا هذه، نؤكد ونبني على المناقشات المبدئية في تدوينات هوزيه فينيالز، المدير الأسبق لإدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في الصندوق، وعدد من زملائه. ومن بين النتائج التي استخلصناها أن أثر آليات السياسة النقدية في الاقتصاد يتشابه فوق مستوى الصفر وتحته، وأن أثرها الكلي في أرباح المصارف والإقراض بسيط حتى الآن، ولكن لهذه السياسة حدود.
لماذا نهتم الآن بآثار أسعار الفائدة السالبة في الوقت الذي نرى تحولا في النقاش نحو عودة أسعار الفائدة العادية؟ هناك سببان. الأول هو أننا اكتسبنا خبرة تراكمية ـــ عامين في معظم الحالات وأكثر في بعض آخر ـــ تكفي لقياس الآثار بدقة أكبر. ثانيا، مع ما تشير إليه التوقعات من أن أسعار الفائدة المنخفضة عموما ستكون هي المعتاد الجديد، يرجح أن ترتفع احتمالات الوصول إلى الصفر إذا دعت الحاجة إلى تيسير السياسة النقدية من جديد.
ما الداعي للقلق؟
ما نخشاه هو أن تتسبب أسعار الفائدة السالبة في تقليص أرباح المصارف. فالمصارف تحقق أرباحها بتقاضي فائدة من المقترضين تتجاوز ما تدفعه للمودعين. هذا الهامش يمكن أن يتقلص إذا لم تنخفض أسعار الإيداع بسرعة انخفاض أسعار الإقراض، أو إذا استقرت في النهاية عند الصفر. وقد يؤدي هذا السيناريو إلى تهديد الاستقرار المالي؛ لأن انخفاض الأرباح يجعل المصارف أقل صلابة في مواجهة الصدمات، كما يمكن أن يضعف أثر السياسة النقدية في الإقراض والنمو واستقرار الأسعار.
وستتردد المصارف في فرض أسعار سالبة على المودعين الذين يمكنهم سحب أموالهم والاحتفاظ بها في خزائنهم. صحيح أنه من المكلف تخزين الأموال ونقلها وتأمينها، ولكن تكلفة ذلك قد تكون أقل مما تتقاضاه المصارف لحفظ الأموال إذا خفضت أسعار الفائدة إلى أقل بكثير من الصفر. أين النقطة الفاصلة إذن؟ لا أحد يعلم على وجه اليقين، لكن المودعين أصحاب الأرصدة النقدية الأكبر واحتياجات السيولة الأعلى ـــ مثل الشركات ــــ يمكنهم تحمل مزيد من الأسعار السالبة قبل أن يقرروا التحول إلى النقد، ومن ثم تستطيع المصارف تطبيق الأسعار السالبة على بعض مودعيها، وهو ما قد كان.
كذلك تستطيع المصارف حماية هوامش ربحها بتخفيض أسعار الإقراض بنسبة أقل من التخفيض في أسعار الفائدة الأساسية. وسيحدث هذا تلقائيا إذا كانت حوافظها تتألف في الأساس من قروض وأصول أخرى طويلة الأجل وبأسعار فائدة ثابتة. “وفي الوقت نفسه، سيؤدي تطبيق التخفيض بهذه الدرجة المحدودة إلى تخفيف الأثر المترتب على تخفيض أسعار الفائدة الأساسية”. وفي هذا السياق، ستكون المصارف الأكثر اعتمادا على الودائع الكبيرة والتمويل بالجملة أكثر ربحية من المصارف التي تعتمد في الأساس على ودائع التجزئة.
وإضافة إلى ذلك، فإن بعض التراجع في هذه الهوامش لا يعني بالضرورة هبوط الأرباح. فبإمكان المصارف أن تدعم الأرباح بأن تتقاضى رسوما وعمولات، وتخفض مصروفات مخصصات الخسائر كلما ارتفعت درجة أمان المقترضين، وتتحول إلى تمويل الجملة الأقل تكلفة، وتخفض التكاليف، وتسجل مكاسب رأسمالية من تخفيضات أسعار الفائدة الأساسية. وإضافة إلى ذلك، سيؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى تحفيز النمو الاقتصادي، ومن ثم الطلب على الخدمات المصرفية، ما سيخفف الضغوط على هوامش الربح.

الأيام المبكرة
هناك ما يدعم هذه الرؤية الأكثر إيجابية إذا استعرضنا التجارب القطرية المبكرة في إجراء تخفيضات صغيرة نسبيا دون مستوى الصفر.
وعلى وجه الإجمال، يبدو أن السياسة آتت ثمارها. فقد هبطت أسعار الفائدة في سوق المال، وتراجعت عائدات السندات في كل البلدان التي أخضعناها للبحث. كذلك تراجعت أسعار العملات إلى حد ما، على الأقل مؤقتا. وظلت أسعار الفائدة على الودائع موجبة في الغالب، باستثناء ودائع الشركات الكبيرة. وانخفضت أسعار الإقراض إلى حد ما، وإن كان بدرجة أقل من أسعار الفائدة الأساسية. واستفادت المصارف من انخفاض تكاليف التمويل بالجملة، وزيادة بعض الرسوم. وظلت أرباح المصارف صامدة بوجه عام، كما ظل الإقراض متماسكا.
لكن بعض المصارف عانت. فكما كان متوقعا، أثرت أسعار الفائدة السالبة في أرباح المصارف التي يشكل فيها التمويل بالودائع نسبة عالية من التمويل، وصغار العملاء الذين يتعاملون بالتجزئة، والقروض قصيرة الأجل، والقروض المرتبطة بمؤشر سعر الفائدة الأساس “كما هو الحال لدى بعض الأعضاء في جنوب منطقة اليورو”. وتتضرر من ذلك أيضا المصارف التي تواجه منافسة أقوى من جهات الإقراض وأسواق رأس المال التي تقدم التمويل بتكلفة أقل.

إجابة غير كاملة
الأمور لا بأس بها حتى الآن. فيبدو أن سياسات أسعار الفائدة السالبة أسهمت في إحداث بعض التحسن في الأوضاع النقدية المحلية، دون آثار جانبية كبيرة في أرباح المصارف، أو نظم الدفع، أو كفاءة عمل الأسواق.
غير أن أسعار الفائدة الأساسية إذا ظلت سالبة فترة طويلة، أو كان هناك تفكير في إجراء خفض أكبر دون مستوى الصفر، فإن فعالية السياسة واستقرار النظام المالي يمكن أن يتعرضا للخطر. وإضافة إلى ذلك، فإن قدرة المودعين على التحول إلى النقد يمكن أن تحد من درجة التخفيض الذي يمكن إجراؤه في أسعار الفائدة. ولا يزال تعزيز التعافي يتطلب بالضرورة مزيدا من الدعم من السياسة النقدية، مع إصلاحات في سياسة المالية العامة إلى جانب الإصلاحات الهيكلية.

تدابير لكسر حلقة الفقر الممتدة من جيل إلى آخر

تدابير لكسر حلقة الفقر الممتدة

ما زال الوضع الاجتماعي للوالدين مؤثرا في تحديد مستقبل الأبناء حاليا كما كان قبل 50 عاما، وفقا لنتائج أولية من تقرير يصدر قريبا عن البنك الدولي القادم بعنوان التقدم العادل الحراك التعليمي حول العالم. وفي معرض الاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لليوم الدولي للقضاء على الفقر، حذر البنك من عدم تحقيق تقدم منذ الستينيات في مجال أساسي للقضاء على الفقر وعدم المساواة وتعزيز النمو.
تساعد الدراسة التمهيدية، التي صدرت على تجميع القطع الأولى من لغز الحراك الاقتصادي، مع التركيز تركيزا مباشرا على كيفية إسهام تعليم جيل واحد في نجاح الجيل التالي أو إفشاله، وهذا يسلط الضوء على الدور المهم الذي تؤديه السياسة العامة في إتاحة تكافؤ الفرص، بحيث يتمكن كل طفل، بغض النظر عن خلفية والديه، من تحقيق إمكاناته كاملة. وسيوسع التقرير الكامل، الذي يصدر في مطلع عام 2018، من نطاق البحث ويدرس العوامل الدافعة إلى الحراك في الدخل، بما في ذلك دور الأسواق وقوى التحول الاقتصادي الأوسع نطاقا.
“إننا نعيش في خضم أزمة من أزمات رأس المال البشري ونحتاج إلى بذل كل ما في وسعنا لإيجاد عالم يتمتع فيه الأطفال بالفرصة كي يصبحوا ما يريدونه… فإمكانيات مئات الملايين من البشر تضيع هباء مع بقاء فرصهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالجيل السابق. يجب علينا الاستثمار في أطفالنا كي يرتبطوا بالنجاح، وتشجيع طموحات الشباب وتلبيتها، والعمل على جميع المستويات، خاصة المستوى المحلي، لضمان أن يزدهر الجيل القادم بصرف النظر عن مكان مولده ووالديه”.
فقد توقفت الزيادة في قدر التعليم الذي يحصله جيل بعد جيل خلال نصف القرن الماضي. فنحو نصف الأشخاص المولودين في أحد البلدان النامية العادية خلال الثمانينيات حصلوا على قدر من التعليم أكثر مما حصل عليه آباؤهم – ولم يَظهر بذلك أي تحسّن مقارنة بمن وُلد في الستينيات. وإذا لم يغير العالم الطريقة التي يستثمر بها في أطفاله، ولا سيما من ينحدرون من بيئة أقل حظا، فلا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا التقييم سيكون مختلفا بعد عشر سنوات من الآن، ما يزيد من التحدي المتمثل في إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030.
وتَظهر مستويات منخفضة من الحراك الصاعد في العالم النامي بشكل خاص، ولا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء. فعلى سبيل المثال، لم يحصل إلا نحو 12 في المائة من شباب اليوم “المولودين في الثمانينيات” في بعض بلدان إفريقيا جنوب الصحراء على قدر من التعليم أكثر مما حصل عليه آباؤهم مقارنة بأكثر من 80 في المائة من الجيل نفسه في أجزاء من شرق آسيا. وجميع البلدان الـ 15 التي يرتبط فيها مستوى تعليم المواطنين ارتباطا وثيقا بمستوى تعليم آبائهم هي بلدان نامية.
وتشير الدراسة إلى ثلاثة مسارات عريضة نحو زيادة الحراك الاقتصادي من جيل إلى جيل.
ـ تكافؤ الفرص بين الأطفال: إن الاستثمار في تنمية الطفولة المبكرة، وإمكانية الحصول على التعليم وجودته، وصحة الأم والطفل، ومستوى التغذية، والبنية التحتية، والمياه والصرف الصحي، والخدمات الرئيسية الأخرى في السنوات المبكرة، هي عوامل بالغة الأهمية لتحسين الحراك وبناء رأس المال البشري. فعلى سبيل المثال، البلدان التي تسجل مستويات أدنى من التقزم “انخفاض الطول بالنسبة إلى السن، وهو علامة على سوء التغذية المزمن” بين الأطفال في سن الخامسة، والبلدان التي تستثمر قدرا أكبر من مواردها العامة في التعليم، تشهد مستوى أعلى من الحراك.
ويقدم تقرير عن التنمية في العالم الذي صدر أخيرا عن التعليم حجة قوية للاستثمار في التعلّم والتعليم الجيد بوصفهما مسارا للخروج من دائرة الفقر، وأعلنت مجموعة البنك الدولي أخيرا مشروع رأس المال البشري – وهو جهد متسارع الوتيرة لمساعدة البلدان على زيادة الاستثمار في مواطنيها وبمزيد من الفعالية، وذلك كخطوة حاسمة لتعزيز النمو الاقتصادي الشامل وإنهاء الفقر المدقع.
ـ الطموحات: عندما يدرك الناس أنهم لا يستطيعون الهرب من دائرة الفقر، يقل احتمال أن يتخذوا الخطوات اللازمة للقيام بذلك – تصوراتهم تعوق طموحاتهم، ما يبقيهم مُحاصرين. ومن الأهمية بمكان إدراج رؤى سلوكية في السياسات والبرامج من أجل الوصول بشكل أفضل إلى من تخلّفوا عن عملية التنمية.
ـ التدابير المحلية: للبيئة التي يولد فيها الشخص أهمية بالغة، إلى جانب الوضع الاجتماعي للوالدين. وتُعتبر التدابير التي يجري اتخاذها على الصعيد المحلي، من المناطق إلى الأحياء، حاسمة لكسر حلقة الفقر. فمن المرجح أن يعيش الفقراء في المناطق الأكثر فقرا التي تضم المدارس الأكثر سوءا، والبنية التحتية المتدهورة، مع قلة إمكانية الحصول على الخدمات وجودتها، وارتفاع معدلات الجريمة، الأمر الذي قد يؤثر في قدرة الطفل على التعلّم والنمو والازدهار.
يحقق العالم تقدما نحو تحقيق هدفي إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030 وتعزيز الرخاء المشترك في كل مكان. وبتركيز مواردنا على ثلاثة مجالات، هي تعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل، والاستثمار في رأس المال البشري، وتعزيز القدرة على الصمود أمام الصدمات، وبقياس مدى التقدم، يمكننا أن نقطع بقية الشوط. ويتيح اليوم العالمي لإنهاء الفقر للمجتمع الدولي فرصة كل عام للتركيز على هدفينا والعمل مع الحكومة والمواطنين والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمنظمات الإنمائية من أجل بناء الدعم للتدابير اللازمة لتحقيق هذين الهدفين.