تأليف: ستيفن كلاين
ستيفن كلاين محاضر في قسم الاقتصاد السياسي في كينجز كوليدج لندن
شهدت المجتمعات الغربية أشكالاً متعددة من الحوكمة، من ضمنها مفهوم دولة الرفاه، لما تجلبه معها من عيش سعيد للشعوب، لكن يبدو أن هناك بعض التفاصيل التي تحتاج إلى تطوير سياسي، بهدف فرض التأثير الديمقراطي الفعلي في المؤسسات، وتمكين المجتمع ومشاركته بشكل فاعل. يناقش هذا العمل أفكار عدد من المنظرين السياسيين، ويقدم مساهمة حيوية في التفكير المعاصر حول مستقبل دولة الرفاه.
يقدم هذا الكتاب الصادر في 250 صفحة باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة كامبريدج (24 سبتمبر 2020)، مفهوماً جديداً لكيفية عمل الحركات الاجتماعية الديمقراطية مع مؤسسات الرعاية الاجتماعية لتحدي هياكل الهيمنة العامة. يطور فيه المؤلف ستيفن كلاين نظرية جديدة تصور مؤسسات الرعاية الاجتماعية على أنها «وسطاء دنيويون»، أو مواقع لصنع العالم الديمقراطي الذي يعزز التمكين السياسي والمشاركة في سياق القوى الاقتصادية الرأسمالية. من خلال مناقشة كتابات الفلاسفة والحلقات التاريخية التي تتراوح من الحركة العمالية في ألمانيا بسمارك إلى النسوية السويدية بعد الحرب، يتحدى هذا الكتاب القراء على إعادة التفكير في توزيع السلطة المجتمعية، فضلاً عن المخاوف الأساسية في النظرية الديمقراطية.
ترسيخ الديمقراطية
يتحدث المؤلف عن بداياته مع هذا المشروع قائلاً: «لقد كتبت هذا العمل في العقد الذي تلا الأزمة المالية لعام 2008، وهو عقد من الركود الاقتصادي، وتزايد اللامساواة، والتقشف الوحشي بالنسبة للكثيرين. كانت أيضاً فترة من الحركات الاجتماعية المزدهرة، حيث استعاد الكثيرون شعار الاشتراكية، بدءاً من «حركة احتلوا وول ستريت» ثم اكتسبوا شهرة سياسية سائدة مع النجاح المفاجئ لجيريمي كوربين في انتخابات قيادة حزب العمال في المملكة المتحدة والظهور القوي لبيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي الأمريكي. كانت هذه الحركات تدفع بمخاوف الرفاه الاجتماعي إلى مركز السياسات الديمقراطية. برز نجم بيرني ساندرز في توسيع برنامج الرعاية الطبية ليشمل جميع الأمريكيين، ومنذ ذلك الحين أصبح برنامج «الرعاية الطبية للجميع» قضية سياسية رئيسية داخل الحزب الديمقراطي. ورغم أن قيادة كوربين شابها التردد بشأن استفتاء المملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي، إلا أنها احتضنت مع ذلك مجموعة رائعة من الأفكار لإضفاء الطابع الديمقراطي على دولة الرفاه والاقتصاد. كان كل من ساندرز وكوربين رائدين أيضاً في استراتيجيات «من الداخل إلى الخارج»، حيث تسعى الحركات الاجتماعية الشعبية إلى الضغط على المؤسسات السياسية والأحزاب السياسية من الخارج، مع الاستيلاء عليها أيضاً من الداخل».
يعلق الكاتب: «اليوم، تواجه الحركات الاجتماعية فرصاً حقيقية لخلق رؤية جديدة لدولة الرفاه.. رؤية تكون شاملة وديمقراطية ومتنوعة ومدركة للحساسيات الديمقراطية لهذه الحركات. تُظهر أبحاثي التاريخية أن سياسات دولة الرفاه وفرت فرصاً للحركات الاجتماعية الديمقراطية لتقدم مطالبها وتطلبت دائماً أشكالاً متنوعة من التعبئة الديمقراطية التصاعدية التي تتجاوز المنظمات الرسمية مثل النقابات العمالية. لا شك أن المهتمين بالديمقراطية يجب أن يبحثوا عن طرق لإعادة بناء المنظمات العمالية في مواجهة القوى الاقتصادية المتغيرة. ومع ذلك، فإن نجاح نقابات العمال في النهوض بدولة الرفاه يعتمد على أشكال التعبئة الديمقراطية من خارج الاتحاد».
إمكانات دولة الرفاه
يتناول هذا الكتاب المعضلات والإمكانات التي تقدمها دولة الرفاه الاجتماعي للحركات السياسية التي تطمح إلى تفعيل التحولات الديمقراطية. يعني الكاتب بالتحولات الديمقراطية نمطاً من السياسة يجلب تدقيقاً نقدياً لأشكال الهيمنة المتعنتة التي لم يتم التصدي لها من قبل والتي تسعى بالتالي إلى تغيير ليس فقط توزيع السلع المادية أو الثروات الانتخابية لحزب معين ولكن الهيكل الأساسي للعلاقات الاجتماعية. كمواجهة بين أول مؤسسات رعاية اجتماعية حديثة على مستوى الدولة وحركة تسعى إلى مثل هذه التحولات الديمقراطية، فإن الصدام بين بسمارك والحزب الاشتراكي الديمقراطي مثلاً يستخلص إلى الأسئلة التي يتناولها ويتساءل: هل يمكن للحركات السياسية الديمقراطية استخدام مؤسسات الرعاية الاجتماعية لتحقيق تغيير دائم في المجتمع؟ أم أن المشاركة في هياكل الدولة الهرمية ستؤدي حتماً إلى تبديد التطلعات التحويلية لهذه الحركات؟
يقول الكاتب: «رداً على هذه الأسئلة، أطرح نظرية الديمقراطية ودولة الرفاه التي تقوم على ركيزتين أساسيتين. أولاها إعادة قبول لوسائل الديمقراطية الاجتماعية: دولة الرفاه الديمقراطية. أقوم بتطوير نظرية لمؤسسات الرعاية التي تُظهر كيف يمكن أن تعمل، ليس كاستحقاقات بيروقراطية، وسلبية لخلق العملاء، ولكن كآليات للتمكين والمشاركة الديمقراطية الجماعية. والثانية هي إعادة صياغة مفاهيم هدف الديمقراطية الاجتماعية ضد فكرة أن الغرض من مؤسسات الرعاية الاجتماعية هو المساواة المادية، أو إعادة التوزيع، أو الحقوق الاجتماعية. أرى أن الحركات الديمقراطية الاجتماعية يجب أن تطمح إلى تحويل الهياكل الراسخة للهيمنة الاجتماعية من خلال سياسات الرفاه التشاركية. يوفر هذان الخيطان معاً إعادة تصور للديمقراطية الاجتماعية كنظرية سياسية ومشروع سياسي تاريخي، يركز على الأبعاد الديمقراطية وليس مجرد الحماية لسياسات الرفاه».
يعد هذا العمل عموماً نظرية سياسية ذات أسس تاريخية، يطوّر المؤلف فيها حججه الأساسية من خلال الانتقال بين الأمثلة التاريخية الملموسة والتفكير في المقولات المفاهيمية التي يفسر من خلالها المنظرون السياسيون السياسات الديمقراطية في دولة الرفاه. ونتيجة لذلك، فإنه لا يبحث فقط في المبادئ المعيارية ذات المستوى الأعلى التي يمكن أن تبرر عمل مؤسسات الرعاية الاجتماعية، بل في المفاهيم النظرية التي يمكن أن تلقي الضوء على آثار الحركات التحولية والطوباوية الماضية المضمنة في ممارساتنا السياسية الحالية والمؤسسات.
يعاين المؤلف في هذا البحث أعمال وأفكار ثلاثة من أكثر منظري دولة الرفاه والديمقراطية تأثيراً في القرن العشرين، وهم: ماكس ويبر، وهانا أرندت، ويورغن هابرماس، وذلك لتشخيص المآزق النظرية الكامنة وراء المناهج الحالية لدولة الرفاه ولتطوير رؤيته الإيجابية للسياسة التحويلية في دولة الرفاه. في كل حالة، يكتشف المؤلف المفاهيم الفلسفية والاجتماعية النظرية الأساسية لتحريك أفكار كل من هؤلاء الفلاسفة
تفكيك الهيمنة
رغم أن هدف الكاتب هو تطوير نظرية سياسية لدولة الرفاه، إلا أنه مهتم أيضاً بسياسات مؤسسات الرعاية الاجتماعية إلى حد كبير بسبب كيفية إلقاء الضوء على مشاكل أوسع في النظرية الديمقراطية. ويشرح بالتفصيل التأثير الديمقراطي الذي يسلط الضوء على مركزية مؤسسات الرعاية الاجتماعية كمواقع للنضال السياسي والعمل. في المقابل، يرى أنه يمكننا تعلم شيء ما عن الفاعلية الديمقراطية من خلال معاينتها في سياق دولة الرفاه، قائلاً: «أولاً، مع ذلك، نحتاج إلى تعريف عملي للفاعلية الديمقراطية. لا يمكنني بأي حال من الأحوال تسوية الخلاف حول مفهوم الديمقراطية، وهو مفهوم متنازع عليه بطبيعته يتتبع مجموعة من الالتزامات المعيارية المثيرة للجدل. ومع ذلك، فإن حجتي تسترشد بفهم للديمقراطية من حيث الفاعلية الديمقراطية. أعني بالتأثير الديمقراطي قدرة مجموعات الأفراد على تحديد القواعد التي تحكم تعاونهم الاجتماعي بشكل متعمد وجماعي، مثل تحقيق مجموعة من العلاقات المتكافئة».
يحلل الكتاب أيضاً بشكل منهجي مفهوم الهيمنة فيما يتعلق بدولة الرفاه. ويعيد بناء تطور نظرية الهيمنة، بدءاً من النظرية الأساسية للهيمنة المباشرة، إلى نظريات الهيمنة البنيوية، ثم أخيراً دراسة روايات الهيمنة المجردة. يوضح الكاتب كيف تؤدي هذه الآراء المختلفة إلى ثلاث صور مختلفة للعلاقة بين الديمقراطية ودولة الرفاه: «نموذج قائم على التأمين (هيمنة مباشرة)، ونموذج للحقوق الاجتماعية (هيمنة هيكلية)، ونموذج انضباطي قائم على الإخضاع (الهيمنة التجريدية)». ويعلق المؤلف: «في حين أن كل من وجهات النظر هذه تلقي الضوء على جوانب دولة الرفاه، فإنها تفشل في توضيح العلاقة بين الفاعلية الديمقراطية وإعادة إنتاج الهيمنة، وهذا لأنها تقبل فهم دولة الرفاه كبنية للعقلانية الأداتية، وهي وجهة نظر موروثة من نظرية ويبر الاجتماعية».
يبحث الفصل الثاني في البنية العريضة لنظرية ماكس ويبر الاجتماعية في سياق الرؤية الاجتماعية الليبرالية لدولة الرفاه في ألمانيا القرن التاسع عشر. يعيد الكاتب بناء البنية الأساسية العميقة لنظريات الهيمنة ودولة الرفاه المعاصرة، متتبعاً أصولها في نظرية ويبر الاجتماعية. ويرى الكاتب أن ويبر يستجيب لظهور حركات ديمقراطية شعبية تركز على مؤسسات الرعاية الاجتماعية من خلال إعادة صياغة نقد الاقتصاد السياسي كنقد للعقلانية الأداتية والحساب التقني. ويقول: «على الرغم من أن فكر ويبر يجسد سمات مهمة للسياسة في أواخر الحداثة، فإن فهمه لمؤسسات الرعاية الاجتماعية كآليات للحساب التقني يعكس الجهد الأوسع الذي يميز الليبرالية الاجتماعية الأوروبية أثناء النظر إلى دولة الرفاه باعتبارها حصناً ضد التحول الديمقراطي. بقبول افتراضات ويبر، يحصر المنظرون الديمقراطيون مؤسسات الرفاه على آليات الدولة في السيطرة والحساب، وبالتالي الحرمان من احتمالات المشاركة الديمقراطية الشعبية مع تلك المؤسسات والمشاركة فيها». في الفصل الثالث، ينتقل الكاتب إلى تطوير الركيزة الأولى لوجهة نظره عن دولة الرفاه وهي: مفهوم مؤسسات الرفاه كوسيط دنيوي بين الحساب الآلي والأحكام الجماعية غير الفنية حول العالم.
ويرى الكاتب في الفصل الرابع أن ظهور اشتراكية دولة بسمارك خلق معضلة للاشتراكيين في ألمانيا، حيث تم الاعتراف صراحة بمطالبهم السياسية من أجل تدميرها. كان عليهم الاعتراف بالنصر الذي تضمنه اعتناق بسمارك للإصلاح الاجتماعي دون المساس بمطالبهم الديمقراطية الأوسع. تعثرت جهود بسمارك. في انتخابات 1884، زاد الحزب الاشتراكي الديمقراطي وجوده في الرايخستاغ من اثني عشر إلى أربعة وعشرين مقعداً. ويتناول فيه أيضاً كيف استجاب الاشتراكيون لتوسلات بسمارك باستخدام قوانين التأمين الاجتماعي كآليات للتعبئة الشعبية. في مقالته، «المفهوم الاشتراكي للديمقراطية»، اعترف منظر الاشتراكية الإصلاحية إدوارد برنشتاين بأهمية هذه المؤسسات. وأشار إلى أن الهياكل «نصف الرسمية» مثل «الفروع الكبرى لتأمين العمال» كانت فضاءات عمل فيها العمال على إنشاء رؤية جديدة للديمقراطية، تستند إلى «ارتباط عضوي بين مستويات مختلفة من السلطة السياسية». لأن مجالس الشركات ضمنت تمثيل العمال، وقدمت مؤسسات التأمين الاجتماعي الجديدة للاشتراكيين موطئ قدم داخل الدولة، إضافة إلى موارد جديدة لدعم أعضائهم الأكثر نشاطاً. كما لاحظ الزعيم الاشتراكي بول سينجر في عام 1902، أن قوانين التأمين الاجتماعي الجديدة قدّمت عنصراً أساسياً لتوظيف وتدريب «العمال الواعين بالهدف والطبقة». وكان بسمارك نفسه على دراية بحدود قمع الدولة..
نظام التأمين والديمقراطية
عندما دعا العديد من حلفاء بسمارك السياسيين إلى تقييد دور الحزب الاشتراكي الديمقراطي في نظام التأمين، رفض بسمارك ذلك، وأشار إلى أن «نظام التأمين يجب تشحيمه بقطرة من الزيت الديمقراطي إذا أريد له أن يعمل بشكل صحيح». ويشكل الفصل الخامس الجوهر النظري لردّه على نظرية ويبر الاجتماعية. يتحدى اختزال ويبر للمؤسسات اليومية، مثل مؤسسات الرعاية الاجتماعية إلى آليات الحساب الفني. ويطوّر تفسيراً جديداً لأهمية فكر أرندت في تنظيرها عن دولة الرفاه من خلال مقارنة تحليلها للعالم مع تركيز ويبر على القيم والمعنى غير العادي.
ترجمة: نضال إبراهيم