أرض بريكست

عن المؤلف

ماريا سوبوليوسكا وروبرت فورد
* ماريا سوبوليوسكا أستاذة في العلوم السياسية، ونائبة مدير معهد كاثي مارش للأبحاث الاجتماعية بجامعة مانشستر، ومستشارة متخصصة في لجنة اختيار مجلس اللوردات بشأن التسجيل الانتخابي. شاركت في تأليف كتاب «التكامل السياسي للأقليات العرقية في بريطانيا» (2013).
* روبرت فورد أستاذ العلوم السياسية بجامعة مانشستر، وخبير في الهجرة والرأي العام والسياسة الحزبية في بريطانيا. حصل كتابه الأول «ثورة على اليمين» (2013) على لقب الكتاب السياسي الأبرز في عام 2015، وهو يكتب بانتظام عن السياسة الانتخابية البريطانية لوسائل الإعلام الوطنية والدولية.

فرضت التغييرات الاجتماعية والديموغرافية تأثيراً محورياً على السياسة البريطانية؛ إذ إنه مع التنوع العرقي وزيادة الفرص التعليمية للأجيال المهاجرة؛ ظهرت انقسامات جديدة داخل جمهور الناخبين البريطانيين حول قضايا الهجرة، والهوية، والتنوع، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. يوضح هذا الكتاب حجم الاضطرابات وأشكالها وأسبابها في العمق البريطاني أثناء الخروج من الاتحاد الأوروبي.

يقول المؤلفان ماريا سوبوليوسكا وروبرت فورد في بداية العمل: «مع بزوغ فجر يوم الجمعة، 24 يونيو/ حزيران 2016. سعت الدولة بأكملها إلى فهم الأحداث الدرامية التي وقعت بين عشية وضحاها. من الترحيب ب«ولادة بريطانيا الجديدة» في «التلجراف»، إلى مدح «الديلي ميل» لشعب بريطانيا الهادئ الذي انتفض ضد طبقة سياسية متعجرفة لا علاقة لها بالموضوع، إلى المذعورين الذي يتساءلون: ماذا يحدث بحق الجحيم الآن؟ كما هو منشور في الصفحة الافتتاحية في «الديلي ميرور». كانت وسائل الإعلام منقسمة في ردود أفعالها على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كما كانت في تحالفاتها قبل الاستفتاء. ووصفته صحيفة «التايمز» بأنه «زلزال»، وحذرت من أنه يهدد بتفكك الاتحاد، ومع تعثر الأسواق رداً على ذلك، صورت الصحف الأجنبية بريطانيا على أنها «أضحوكة دولية».

ويضيفان: ظهرت الكثير من التحليلات الأكثر رصانة وتأملاً في السنوات التي تلت ردود الفعل الأولى المثيرة، حيث تصارع الصحفيون والسياسيون والأكاديميون في البلاد مع أسباب وعواقب أكثر الممارسات درامية واضطراباً على الإطلاق في الديمقراطية المباشرة التي شهدتها بريطانيا. ففي حين أن هذه الروايات تقدم مجموعة غنية من وجهات نظر مختلفة، إلا أن معظمها تتناول الاستفتاء وفق نظرة ضيقة، وبدأت التحليلات في الفترة التي تسبق الحملة، وانتهت بعد وقت قصير من الإدلاء بالأصوات. لكن بقيت التغييرات الاجتماعية طويلة المدى والصراعات السياسية التي أوصلتنا إلى هذه النقطة في الخلفية

مؤلفا هذا الكتاب ينقلان هذه الصراعات المتوارية إلى مركز الصدارة، ويعلقان: ما حدث في 23 يونيو/ حزيران لم يكن نتاجاً لحملة الاستفتاء فقط، ولن تتم معالجة الانقسامات العميقة التي كشف عنها التصويت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إن خروج بريطانيا هو تعبير عن الصراعات التي كانت تتراكم بين جمهور الناخبين لعقود، وليست قضيتهم. «بريكست» هو الاسم الذي نطلقه على دولتنا المنقسمة، لكن بينما يعطي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اسماً وصوتاً لهذه الانقسامات، فإنها ليست جديدة؛ إذ تكمن جذورها في الاتجاهات التي استمرت لأجيال، وهي التوسع في البرامج والفرص التعليمية، والهجرة الجماعية والتغيير العرقي.

يرى الكاتبان أن استفتاء الاتحاد الأوروبي لم يكن في حد ذاته لحظة خلق، بل كان لحظة يقظة.. لحظة أصبحت فيها العمليات الاجتماعية والسياسية الجارية منذ فترة طويلة واضحة أخيراً، واعترفت مجموعات الناخبين المختلفة في النهاية بأنها مقسمة إلى معسكرين مختلفين ومتعارضين. ويجدان أنه لا يمكننا فهم هذه اللحظة من دون فهم القوى التي أيقظتها، ولذلك يركز المؤلفان على العقود التي سبقت الاستفتاء، ويوضحان كيف أن التغيير الديموغرافي والصراعات المتصاعدة حول الهوية؛ يفرضان ضغوطاً متزايدة على الأحزاب الرئيسية، لكنهما يسعيان إلى توضيح سبب ثبات قدرتها، لفترة من الوقت، على الاستجابة لهذه الضغوط، وذلك من خلال توضيح خطوط التقسيم التقليدية للطبقة والدخل والأيديولوجية.

صراعات حول الهوية

يقارن الكتاب الذي يقع في 408 صفحات باللغة الإنجليزية، والصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج (19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020)، أيضاً التأثير المدمر لاستفتاء الاتحاد الأوروبي في إنجلترا وويلز مع الأنماط المختلفة جداً للتغيير السياسي في اسكتلندا، حيث تم وضع تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فوق الاضطرابات الناتجة عن استفتاء الاستقلال لعام 2014. يسلط حشد الناخبين الاسكتلنديين في استفتاء الاستقلال نفسه الضوء أيضاً على قوة الحملات والأحزاب السياسية في توجيه الانقسامات الاجتماعية والهوية المماثلة إلى نتائج مختلفة تماماً. لا تستجيب الأحزاب بشكل سلبي للتغيير الاجتماعي والديموغرافي فحسب؛ بل تساعد في تشكيل معناه السياسي وآثاره الانتخابية. ثم يأخذ المؤلفان في الاعتبار التحولات المضطربة والمتقلبة للناخبين التي شوهدت في الانتخابات العامة مرتين منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويتناولان بعض المسارات التي قد يتخذها التغيير السياسي في السنوات المقبلة.

يتطرق الكتاب إلى الآثار المترتبة على قصة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في التغيير السياسي، ويبين أنه في حين أن حشد صراعات الهوية حول مسألة عضوية الاتحاد الأوروبي، أمر فريد بالنسبة لبريطانيا، فإن الانقسامات حول التعليم والتمركز العرقي والهوية انكشفت بوضوح في بلدان أخرى، ولديها قدرة متزايدة على إحداث اضطرابات انتخابية في أماكن أخرى أيضاً.

في الفصل الأول يتناول المؤلفان كيف أن التغييرات الاجتماعية والسياسية على المدى الطويل قد ولّدت مجموعات جديدة في جمهور الناخبين مع تضارب المصالح. يقولان: لمثل هذه التغييرات تأثيرات طفيفة نسبياً من انتخابات إلى أخرى وهي غير مرئية في ضجيج السياسة اليومية، ولكنها تتراكم على مدى عقود، وتراكم القدرة على إحداث تغيير جذري في ميزان القوى الانتخابية.

اتفاق على مواجهة العنصرية

يتتبع المؤلفان في الفصل الثاني، ثلاثة تطورات أدت إلى صعود ناخبين ليبراليين للهوية الجديدة وتراجع مجموعة المحافظين للهوية المهيمنة سابقاً. ويشيران إلى أن التوسع في البرامج التعليمية ساهم في فتح الجامعات أمام الجماهير، بعد أن كانت في السابق حكراً على نخبة صغيرة. خلال جيلين، أدى هذا إلى تحويل التجربة التعليمية للناخبين البريطانيين من تجربة ترك فيها الناخب العادي المدرسة في منتصف سن المراهقة بمؤهلات قليلة أو معدومة إلى أخرى تظل الأغلبية في المدرسة إلى 18 على الأقل، ويواصل نصفهم تقريباً حضور الجامعة. ثانياً، أدت الهجرة الجماعية وتزايد التنوع العرقي إلى تغيير التجربة النموذجية لشاب ينشأ في بريطانيا. نشأ المتقاعد المولود في الأربعينات في مجتمع أكثر تجانساً عرقياً وثقافياً، وعلى الأرجح كان لديه اتصال ضئيل أو معدوم مع أشخاص من خلفيات عرقية أو دينية مختلفة. نشأت حفيدتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع تجربة مختلفة تماماً، حيث تربت في مجتمع يعتبر فيه التنوع العرقي والديني جزءاً طبيعياً من الحياة اليومية لمعظم الشباب. إن الهيكل الجيلي لكل من هذه التغييرات، وبالتالي للهويات والقيم المرتبطة بها، يقود إلى الاتجاه الديموغرافي الثالث الذي نحدده: الانفتاح على انقسام جيلي كبير في جمهور الناخبين.

يقول الكاتبان: ظهرت مجموعات متميزة في المجتمع البريطاني كنتيجة تراكمية لهذه التغييرات. فقد أدى توسع الجامعة إلى ظهور الليبراليين. يتمتع خريجو الجامعات بهويات وقيم مميزة، فهم يقدّرون الحريات الفردية بدرجة عالية جداً، ولديهم القليل من الارتباط بهويات أو قيم الأغلبية التقليدية، والأهم من ذلك، فهم عالميون ومؤيدون للهجرة ويحتضنون التنوع. فهم لا يرون فقط التنوع باعتباره منفعة اجتماعية في حد ذاته، بل يرون أيضاً أن الدفاع عن التنوع والأقليات جزء مهم من هويتهم الاجتماعية والسياسية.

هذه التقاليد الاجتماعية المناهضة للعنصرية تعمل على توحيد قناعات الخريجين الليبراليين مع مجموعتنا الليبرالية الثانية: الأقليات العرقية، التي تختلف دوافعها إلى حد ما. بالنسبة للأقليات العرقية، فإن المواقف المناهضة للعنصرية والمؤيدة للتنوع ليست مسألة قيم شخصية؛ بل ضرورة. هناك اتفاق واسع على أن العنصرية غير مقبولة، ويتم تطبيق عقوبات شديدة على أولئك الذين يُعتقد أنهم انتهكوا هذه القاعدة الاجتماعية المناهضة للعنصرية. لكن هناك نزاع عميق ودائم حول المواقف والسلوكات التي يجب معاقبتهم عليها تحت بند العنصرية. حتى بين المحافظين على الهوية، فإن الهويات الاجتماعية ليست ثابتة: إن الإحساس بمن هم «نحن» ومن هم «هم»، وتعبيرات الولاء والشكوكية، يتطور باستمرار؛ استجابة للتغيير الاجتماعي.

بريكست: البداية والنهاية

يلقي المؤلفان في الفصل التاسع، نظرة على قصة استفتاء الاستقلال الاسكتلندي، ويبينان كيف أصبحت القومية والتغيير الدستوري نقاطاً محورية لصراعات الهوية في اسكتلندا في 2014، كما حدث في جميع أنحاء بريطانيا في 2016. في الحالتين، ظهرت انقسامات ديموغرافية وهوياتية مماثلة، وفي كلتا الحالتين برز حزب قومي إلى الصدارة جزئياً من خلال تعبئة هذه الانقسامات وتعزيز التغيير الدستوري. فاز كل من الاستقلال الاسكتلندي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأقوى دعم مبكر لهما من الناخبين المحافظين الراغبين في استعادة السيطرة، وفي كلتا الحالتين كان النجاح الانتخابي للأحزاب القومية التي تنادي بالانسحاب من اتحاد أكبر عاملاً رئيسياً أدى إلى عقد استفتاء. ومع ذلك، على الرغم من أوجه التشابه العديدة هذه، فإن سياسات استفتاء الاستقلال في اسكتلندا كانت مختلفة تماماً عن سياسات نزاع بريكست في إنجلترا. ففي اسكتلندا، صعدت بالفعل حركة سياسية قومية واسعة وشاملة؛ (الحزب الوطني الاسكتلندي) إلى موقع الهيمنة السياسية المحلية قبل حملة الاستفتاء. ومع ذلك فشل في إقناع الاسكتلنديين بإخراج اسكتلندا من المملكة المتحدة. وفي إنجلترا، فشلت حركة قومية يمنية إقصائية (حزب استقلال المملكة المتحدة) في اختراق السياسة الداخلية، لكنها نجحت في إقناع الإنجليز (والبريطانيين بشكل عام) بإخراج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. تفسر الأنماط المختلفة من ارتباط الهوية النتائج المتباينة، فالتعلق الاسكتلندي بهوية بريطانية شاملة أقوى بكثير من الارتباطات الإنجليزية أو البريطانية بالهوية الأوروبية، في حين أن وجهات النظر السلبية عن إنجلترا وويست مينستر كمجموعات خارجية أضعف بكثير في اسكتلندا من وجهات النظر السلبية المتأصلة في الاتحاد الأوروبي وبروكسل تجاه إنجلترا.

ويرى المؤلفان أن اسكتلندا تقدم أيضاً دروساً حول الآثار السياسية لحملات الاستفتاء المثيرة للانقسام. فقد تم تشكيل أطراف سياسية جديدة أيضاً في حملة الاستقلال الاسكتلندية، وأثبتت هذه الأطراف الجديدة أنها قوية للغاية في الانتخابات العامة لعام 2015، والتي أعادت تنسيق السياسة الاسكتلندية حول مسألة الاستقلال. ومع ذلك، أثبتت إعادة التوافق هذه أنها عابرة؛ حيث اهتزت السياسة الاسكتلندية مرة أخرى في غضون عامين، وهذه المرة بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

يتناول المؤلفان في الفصل العاشر والأخير، تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في إنجلترا وويلز، كما حدث في انتخابات 2017 و2019، والمسارات المحتملة للمضي قدماً بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. يعلق الكاتبان: إن النمو المطرد للناخبين الليبراليين من الخريجين والأقليات العرقية قد زود حزب العمال بمصدر رئيسي للأصوات الجديدة. لكن هذا التدفق لأنصار الليبراليين الجدد جاء بمخاطر على حزب العمال، وهي مخاطر تجلت في الأداء الضعيف للحزب في انتخابات 2019. دفع الثقل الانتخابي المتزايد لليبراليين داخل الائتلاف العمالي إلى زيادة القوة السياسية لسياسات الهوية لزعزعة ارتباطات الناخبين اليساريين من الناحية الاقتصادية والمحافظين اجتماعياً من «اليسار القديم»، الذين هم على خلاف مع ناخبي حزب العمال الجدد المثقفين والمنحدرين من الأقليات العرقية بشأن قضايا الهوية.

ويضيفان: «إن القدرة على العداء المتبادل والصراع المستقطب موجودة بالفعل، فهي كامنة بين جمهور الناخبين. يزداد خطر حدوث ذلك فقط من خلال وضع رؤوسنا في الرمال والتظاهر بأن هذه الانقسامات المزعزعة للاستقرار هي اختراع سياسيين وليبراليين عديمي الضمير، بدلاً من مواجهتهم على أنها توترات حقيقية لدى الناخبين يجب معالجتها. يمكن أن تتفاقم صراعات الهوية إذا تمت معالجة مشاعر التهديد التي تدفعها إلى أعلى جدول الأعمال بشكل فعّال، ما يفتح المجال أمام تطور الهويات وتطور الأعراف الاجتماعية والسياسية الجديدة. لقد حدث هذا من قبل – العنصرية الملتهبة للسياسيين مثل إينوك باول في السبعينات لا يمكن تصورها في السياسة السائدة اليوم. قد تكون النزاعات المتقلبة والمستقطبة التي أطلق العنان لها في استفتاء عام 2016 الخطوة الأولى الضرورية على الطريق نحو سياسات حزبية أكثر فاعلية واستجابة. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو نهاية وبداية. ما نصنعه من هذا الخروج متروك لنا».

ترجمة : نضال ابراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *