الرأسمالية والبحار

لعبت الملاحة البحرية منذ القدم دوراً كبيراً في التجارة والحرب، وشكلت عاملاً مهماً في صناعة العالم الحديث الذي نعيشه، لكن يرى مؤلفا هذا الكتاب أن القوى الرأسمالية استغلت البحر لتحقيق مصالحها الخاصة، وأحدث إشكاليات على المدى الطويل في السياسة والاقتصاد العالمي.
كانت المحيطات والبحار طيلة قرون بمثابة طريق تجاري ومساحة استراتيجية، وبنك للأسماك، وسلسلة إمداد للاقتصاد الرأسمالي الحديث. وفي الوقت الذي نجده في عمليات التنقيب في قاع البحار والمحيطات لأجل الحصول على الوقود الأحفوري والمعادن، وتطوير الخطوط الساحلية للاستفادة منها في العقارات والترفيه، تستمر المحيطات في امتصاص التصريفات السامة لحضارة الكربون لدينا، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة المياه على الكوكب، وتحمضها بطرق تؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها، ولكن لا رجعة فيها لبقية الفضاء الحيوي.
يحلل الكاتبان هذه الظواهر المتعلقة بالبحر من خلال عدسة تاريخية وجغرافية. ويتناولان في العمل الاقتصاد السياسي والإيكولوجيا والجغرافيا السياسية للبحر، ويجادلان بأن الفصل الجغرافي للأرض بين البر والبحر له عواقب وخيمة على التطور الرأسمالي. ويشيران إلى أنه تسعى الخصائص المميزة لهذا النمط من الإنتاج باستمرار إلى تجاوز ثنائية البر والبحر بغرض ديمومة الربح، وإحداث تحالفات جديدة للسيادة والاستغلال والتملك في الاستيلاء على الفضاءات والموارد البحرية. ويتساءل الكاتبان: «ما الذي يبقي الرأسمالية واقفة على قدميها؟».

عولمة الملاحة البحرية

يناقش هذا الكتاب، الصادر حديثاً عن «دار فيرسو» للنشر في بريطانيا، القصة التقليدية للقانون البحري الحديث بالتناقض بين الأطروحة المجهولة التي كتبها الهولندي هوجو جروتيوس عام 1609 بعنوان «ماري ليبروم» (البحر الحر) والرسالة الإنجليزية البارزة لجون سيلدين عام 1618 (البحر المغلق). وبينما دافع الأول عن حرية الملاحة عبر مناطق العالم، بحجة أنه يُسمح لجميع الرجال بالإبحار في البحار على الرغم من عدم الحصول على إجازة من أي جهة، أكد الأخير أن البحر، بموجب قانون الطبيعة أو الأمم، ليس شائعاً أمام جميع الرجال، لكنهم قادرون على السيطرة الخاصة أو التملك، إضافة إلى البر.
يقول المؤلفان: «لكن رغم كل الآراء، عزز النظام العالمي الذي نشأ عن تسوية فيينا 1814-1815 سياسة المياه الزرقاء البريطانية في فترة «السلام البريطاني» المعروفة باسم (باكس بريتانيكا) الذي اتخذت فيه بريطانيا دور شرطي العالم من 1815 حتى 1914. وفي حين أن السيطرة الكاملة للبحرية البريطانية على جميع البحار جعلت من غير المهم ما إذا كانت أي منطقة تحت العلم البريطاني أم لا، قال إريك هوبسباوم عن هذه الفترة «في أوروبا لم تواجه المصالح البريطانية أي قوة مؤثرة. فقد أدت الحروب الثورية في الداخل والهزيمة البحرية في الخارج إلى إضعاف أعتى منافس إمبريالي معاصر لها، وهو فرنسا، وعززت بشكل كبير من التثليث بين المستعمرات والتجارة والملاحة البحرية التي أثبتت أنها مركزية للغاية لإطلاق ثورة بريطانيا الصناعية».
ويضيفان: «كما حلت مكافحة العبودية محل مكافحة القرصنة كمهمة عالمية للبحرية الملكية لفرض الحرية في أعالي البحار، في حين اكتسب مبدأ التجارة الحرة العالمية مكانة خلال ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر، ما أدى في النهاية إلى إلغاء قوانين الذُرة في عام 1846 وقوانين الملاحة في عام 1849 – وهما قانونان رمزيان من التشريعات التجارية. ولم يمنع هذا البحرية الملكية البريطانية من ممارسة دبلوماسية الزوارق الحربية لإبقاء الصين مفتوحة أمام تجارة الأفيون، ولا فرض الهيمنة البريطانية على بحر إيجه (التي دفعتها حادثة دون باسيفيكو في اليونان عام 1850)».
ويبينان أن هذه الهيمنة المطلقة للبحرية الملكية (في عام 1859 كان الأسطول البريطاني يحتوي على خمسة وتسعين سفينة مقابل واحد وخمسين فرنسية)، فضلاً عن البحرية التجارية البريطانية، تحالفت مع مركزية لندن المستمرة باعتبارها مركز الملاحة البحرية التجارية والمالية. فلم تترك عاصمة الاقتصاد العالمي خلال الجزء الأكبر من العصر الفيكتوري، أي قوة أخرى في وضع يمكنها من السيطرة على محيطات العالم. وكانت الدول الرأسمالية الناشئة الأخرى في ذلك الوقت منغمسة إما في الاضطرابات الثورية (فرنسا)، وإما الحروب الأهلية (الولايات المتحدة)، أو كليهما (جزء كبير من أمريكا اللاتينية). وكانت أجزاء كبيرة من إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط تشهد تجارب الاستعمار الرأسمالي الأوروبي، بينما كانت ألمانيا واليابان تبدآن فقط عمليات التوحيد الوطني والتنمية الرأسمالية التي تقودها الدولة والتي من شأنها تحويلهما إلى منافسَين اقتصاديين وعسكريين رئيسيين في النهاية. وفي هذا السياق، سخّرت «باكس بريتانيكا» حرية البحار لمصلحتها الخاصة بصفتها الدولة الصناعية الرائدة في العالم في الفترة من 1815 إلى 1870، حيث كانت بريطانيا وحدها في وضع يمكنها من استغلال المشاعات المحيطية بالكامل.

تفاعل معقد بين الرأسمالية والبحار

يتناول المؤلفان في الكتاب جوانب من التفاعل المعقد بين الرأسمالية والبحر، ويقولان: «الرأسمالية العالمية ظاهرة محمولة بحراً. تعطينا هذه الحقيقة البسيطة أسباباً متعددة للتفكير في العلاقة بين الرأسمالية والبحر اليوم. ولا يزال المحيط العالمي يعمل كطريق تجاري ومساحة استراتيجية وبنك للأسماك وسلسلة إمداد، كما كان منذ ظهور الرأسمالية، (وفي الواقع قبل ذلك بوقت طويل). ويستمر حفر قيعان البحار بحثاً عن الوقود الأحفوري والمعادن، كما يتم تطوير الخطوط الساحلية للاستثمار في العقارات والترفيه. وتعمل موانئ الحاويات الآن كمراكز إقليمية لشبكات التجارة العالمية المعقدة، حيث تقوم بنقل روابط السلع وتوليد القيمة عبر مختلف القطاعات التي تعتمد على البحر في الاقتصاد العالمي/ بدءاً من بناء السفن إلى التأمين ونقل البضائع إلى الرحلات البحرية».
ويضيفان: «يظل إرث العبودية المنقولة بحراً، فضلاً عن أنماط المقاومة والتدويل التي ولّدتها، أساس السياسات التحررية في جميع أنحاء العالم. وقد أدى التنقيب البيولوجي إلى توسيع نطاق وصول رأس المال إلى أعمق الحدود تحت الماء، في حين أن العالم الخارجي يتراكم ويعرض، ويعيد تدوير الثروة والفائض من السكان فاحشي الثراء على كوكب الأرض، وشركائهم المجرمين الذين لا يمكن تمييزهم في كثير من الأحيان. وتمتص المحيطات التصريفات السامة لحضارتنا الكربونية منذ قرون، ما أدى إلى توسيع وتسخين وتحمض جزء المياه الزرقاء من الكوكب بطرق تؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها ولكن لا رجعة فيها لبقية محيطنا الحيوي».
ويهتم المؤلفان في الكتاب بالتدمير الخلاق الذي يصاحب إعادة إنتاج نظام اجتماعي مثل الرأسمالية في تفاعله مع قوة طبيعية مثل البحر، ويعلقان: «اجتمعت رياح المحيطات والتيارات وأنماط المد والجزر والطقس مع الخصائص البيوكيميائية والجيوفيزيائية مثل الملوحة والحموضة والكثافة ودرجة الحرارة أو السمات الطبيعية، مثل الضفاف الرملية والشعاب المرجانية والبحيرات الضحلة والخلجان، لإنتاج مخاطر محددة وصعوبات لوجستية فريدة وعقبات جغرافية واحدة في طريق التراكم الرأسمالي. وعلى الرغم من كل قوتها على استيعاب معظم الحياة الكوكبية في إطار منطق تبادل السلع، فإن الرأسمالية تواجه بانتظام حواجز جيوفيزيائية أمام توسعها الذاتي، ما يمثل تحدياً خاصاً في حالة البحر. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن أعالي البحار لا يمكن احتلالها واستيطانها بشكل دائم، كما هو الحال على البر، ما يعقد حاجة رأس المال إلى تقسيم دورانه المستمر بالإصلاحات المكانية التي تضمن خلق الفائض. وعلى المنوال نفسه، منذ نشأتها في القرن السادس عشر، وجدت الرأسمالية في البحر قناة حيوية للتجارة بعيدة المدى – بما في ذلك التجارة بين البشر – والمكان الذي تنطلق منه المشاريع الاستعمارية المهمة بالنسبة إليها. وبالنسبة إلى رأس المال، يمثل البحر بالتالي مخاطر وفرصاً. لقد عملت بشكل دائم كموقع ومصدر للابتكار والتجربة التنافسية في التمويل والتكنولوجيا والتأمين وأنظمة العمل والحوكمة المكانية، فضلاً عن عقبة جيوفيزيائية رئيسية في الاستيلاء على الطبيعة من خلال تطويق وتسليع البحر».
ويشيران إلى أنه «في المقابل، أدى التكاثر الكبير لرأس المال إلى تغيير جذري في طبيعة المحيطات، خاصة منذ زمن التصنيع الذي أعاد تشكيل السواحل، والنظم البيئية البحرية من خلال التجريف والإغراق والنضوب والتفريغ. كما أنه إلى جانب الاحترار العالمي، يؤدي تركيز الغازات الدفيئة في المحيطات إلى تغيير جذري في الخصائص الكيميائية الحيوية للبحار، ويؤدي إلى إحداث تغييرات في الجيوفيزياء البحرية تتجلى في التقسيم الطبقي للمحيطات، وزيادة تواتر واشتداد الظواهر الجوية القاسية، وتبييض المرجان، وغيرها من الظواهر الضارة الأخرى».

مفاصل جديدة في الهيمنة

يرى الكاتبان أن نقطة البداية في هذا الكتاب هي الحقيقة الأساسية، ولكن غالباً ما يتم تجاهلها، وهي أن الفصل الجغرافي للأرض بين البر والبحر له عواقب وخيمة على التطور الرأسمالي. ويعقبان بالقول: «لكن الخصوصية التاريخية للتكوينات الاجتماعية الرأسمالية، بدافعها المتأصل في التراكم التنافسي لفائض القيمة، قد منحتها علاقة خاصة بالمحيطات. وتسعى السمات المميزة للرأسمالية كطريقة إنتاج باستمرار إلى تجاوز ثنائية البحر-البر في سعي دائم للربح، وبالتالي خلق مفاصل جديدة لإقليمية مكونة من البر والبحر، أي الاصطفافات الرأسمالية الفريدة للسيادة والاستغلال والتملك في الاستيلاء وترميز المساحات والموارد البحرية».
ويضيفان: «على الرغم من أن المجتمعات البشرية المختلفة قد انخرطت عبر الزمن في مفاهيم وممارسات مختلفة للمساحات البرية-البحرية، إلا أن الرأسمالية – لا سيما في شكلها الصناعي – هي التي كثفت العلاقة بين البر والبحر، ودمجت المحيطات في قانون القيمة، ووسعت حدود السلع البحرية. وحاولت تسطيح الانقسام الجيوفيزيائي بين الأرض الصلبة والمياه السائلة».
ويعاين المؤلفان العلاقة الاجتماعية-الطبيعية بين البر والبحر التي سعى رأس المال إلى توجيهها والتغلب عليها في سياقات مكانية وزمنية مختلفة. علاوة على ذلك، يتشكل هذا التفاعل من خلال الخلاف الاجتماعي والسياسي والتعاون (الذي يشمل وكالات الدولة والنقابات العمالية والشركات والمنظمات الدولية، وغيرها من الهيئات) حول تقسيم البحر – ولكن نادراً ما يكون في ظل ظروف جغرافية من اختيارهم.
وتأتي مساهمتهما في التبادل الطويل الأمد والمثري بشكل متبادل بين المادية التاريخية والجغرافيا السياسية والاقتصادية في قبولها على أوسع نطاق، (بما في ذلك استغلال الصيادين والبحارة، والاستيلاء على الحياة البحرية وترتيب الفضاء البحري). ويشيران إلى أنه يتم تنظيمها حول ثلاث ظواهر مكانية واسعة (النظام، الاستيلاء، النطاق البحري)، وثلاث عمليات زمنية بشكل أساسي (الانتشار، الاستغلال، الخدمات اللوجستية)، على الرغم من أن هذا التقسيم هو بوضوح مسألة تركيز نسبي، وليس تبايناً مطلقاً.
ويهدف المؤلفان إلى تقديم إطار تحليلي يمكن من خلاله فهم هذه الإعدادات المختلفة حيث يتفاعل رأس المال مع البحر. وتكمن وراء هذا الهدف حجة تتعلق بمركزية «العامل البحري» في أصول الرأسمالية وتطورها، وفي الوقت نفسه تقديم قضية للتأثير المتبادل لقانون القيمة على عالم المياه المالحة. يقولان: «يلعب هنا الاستخدام المزدوج ل«عامل» كقوة اجتماعية وطبيعية لها خصائصها المادية وتأثيراتها (في حالتنا، البحر)، والأصل الأكثر تحديداً المرتبط بالشخصية البشرية للوكيل التجاري، أو إرسال ممثل الشركة إلى «المصانع» الخارجية (الموانئ التجارية).
ويتصور الكتاب الرأسمالية أنها نمط إنتاج له منطقه المميز الخاص بالإنتاج التنافسي وتراكم القيمة من خلال الاستيلاء على الطبيعة، والتي مع ذلك تجد تعبيراً متنوعاً في تشكيلات اجتماعية ملموسة عبر سياقات جغرافية وتاريخية مختلفة. كما يحتوي على المزيد من التفاصيل المتعلقة بالمنازعات والتسويات السياسية بشأن المحيطات والبحار، ودور القوى الكبرى في استغلال الثروات البحرية، وفرض سيطرتها أيضاً.

 

عن المؤلف
ليام كامبلينج وأليخاندرو كولاس
* ليام كامبلينج أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كوين ماري بلندن حيث يعمل بشكل جماعي في مركز العمل والإنتاج العالمي، وهو مؤلف مشارك لكتاب «اتفاقيات التجارة الحرة وإدارة العمل العالمية: العمل خارج الحدود».

** أليخاندرو كولاس أستاذ العلاقات الدولية بكلية بيركبيك بجامعة لندن.له عدد من المؤلفات منها: «المجتمع المدني الدولي: الحركات الاجتماعية في السياسة العالمية والإمبراطورية»، وهو مؤلف مشارك لكتاب «الغذاء والسياسة والمجتمع: النظرية الاجتماعية ونظام الغذاء الحديث».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *