تحوّل الصين اليوم بحماس ثروتها وقوتها الاقتصادية إلى أدوات فعالة للتأثير السياسي العالمي، لكن مبادراتها السياسية الخارجية تواجه إشكاليات متعلقة بالحقائق الميدانية للسياسات المحلية والإقليمية. يناقش هذا الكتاب التوجهات الصينية وتأثيرها في المصالح الأمريكية وكيفية التنسيق مع الصين في مناطق عديدة.
يستعرض دانيال إس. ماركي، الباحث في العلاقات الدولية والعضو السابق في فريق تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية، كيف يُرجح أن جهود الصين ستكون مؤثرة عبر أوراسيا التي تشمل جنوب آسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط.
يصف ماركي بالاعتماد على المقابلات المكثفة والرحلات والبحوث التاريخية، كيف تختلف التصورات عن الصين على نطاق واسع داخل دول عديدة. غالباً ما تتوقع المجموعات القوية والمتميزة في جميع أنحاء المنطقة الاستفادة من صلاتها بالصين، بينما يخشى آخرون الخسائر التجارية والسياسية. وفي الوقت نفسه، يتدافع السياسيون الأوروآسيويون لتسخير مشتريات الصين من الطاقة، ومبيعات الأسلحة، والاستثمار في البنية التحتية. يعمل هؤلاء القادة مع الصين من أجل التفوق على منافسيهم الاستراتيجيين، وفي الوقت نفسه يتفاوضون بشأن العلاقات مع روسيا وأمريكا.
يتوقع ماركي أن تصبّ مشاركة الصين العميقة لصالح رجال المنطقة الأقوياء، وتؤدي إلى تفاقم التوترات السياسية داخل وبين دول أوراسيا. ويرى أنه لتحقيق أقصى استفادة من نفوذ أمريكا المحدود في الفناء الخلفي للصين (وأماكن أخرى)، يجب على صانعي السياسة الأمريكيين اتباع استراتيجية انتقائية ومحلية لخدمة أهداف أمريكا المحددة في أوراسيا والتنافس بشكل أفضل مع الصين على المدى الطويل.
مبادرات صينية دولية
يتضمن هذا الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد البريطانية ستة فصول. يقدم الفصل الأول بعنوان «الصين والجغرافيا السياسية الجديدة لأوراسيا» المبادرات العالمية الجديدة للصين مثل «طريق واحد، حزام واحد»، ويستعرض كيف تميل المصالح السياسية والاقتصادية للدول الأخرى في جنوب آسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى تهيئة الظروف للأنشطة الصينية وتشكيل النتائج الإقليمية. يبدأ الفصل الثاني من قصة جوادر في 8 سبتمبر 2013، في مدينة نور سلطان (أستانا)، كازاخستان. يقول المؤلف فيه: «وقف الرئيس الصيني شي جين بينج في قاعة محاضرات خلف منبر من خشب الماهوجني مزين بشعار جامعة نزارباييف، حيث وصف كيف سافر المبعوثون الإمبراطوريون الصينيون عبر آسيا الوسطى قبل أكثر من ألفي عام، مدعين أن مهمتهم كانت فتح طريق الحرير العابر للقارات. كانت خطط الرئيس التي تم الكشف عنها في ذلك اليوم طموحة: بناء«حزام اقتصادي جديد لطريق الحرير» من شأنه أن يربط بين أوراسيا القارية الحديثة. في السنوات التي أعقبت خطابه في كازاخستان، نضجت رؤية شي وتوسعت لتصبح «حزام واحد، طريق واحد»، والتي بنت الصين من أجلها مؤسسات جديدة، وكرست اهتماماً دبلوماسياً رفيع المستوى، ووجهت المئات من مليارات الدولارات في التمويل. حتى لو تم تحقيق ذلك جزئياً فقط، فإن هذا الجهد سيشكل إنجازاً مذهلاً مع إمكانية تغيير الظروف الاقتصادية والسياسية عبر منطقة شاسعة يبلغ عدد سكانها 4.4 مليار نسمة واقتصاد يشكل ثلث الناتج المحلي الإجمالي للعالم».
يضيف المؤلف: «تسعى الصين إلى تنفيذ هذه المبادرة لمجموعة متنوعة من الأسباب، لم تعترف بكين بجميعها علناً. تم توضيح التبرير الرسمي للصين في مارس( آذار) 2015 من خلال وثيقة صادرة بشكل مشترك عن اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح ووزارة الشؤون الخارجية ووزارة التجارة بعنوان «الرؤية والإجراءات الخاصة بالبناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين». يعرض التقرير هذه المبادرة على أنها محاولة صينية نبيلة «لتعزيز الازدهار الاقتصادي للبلدان الواقعة على طول الحزام والطريق والتعاون الاقتصادي الإقليمي، وتعزيز التبادلات بين مختلف الثقافات، وتعزيز السلام والتنمية في العالم».
يشير الكاتب إلى أنه خلال منتدى بواو الصيني لآسيا لعام 2015، وهي محاولة محلية لتكرار تجمع النخب العالمية في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس (سويسرا)، تحدث الرئيس شي عن«التزام الصين الراسخ ببناء الصداقة والشراكة مع جيرانها لتعزيز المودة والأمان والازدهار. بموجب مبدأ الصداقة والإخلاص والمنفعة المتبادلة والشمولية، تعمل الصين بنشاط لتعميق التعاون المربح للجانبين والتواصل مع جيرانها لتحقيق المزيد من الفوائد لهم من خلال تنميتها».
يعلق المؤلف هنا:«على الرغم من ادعاءات الإيثار هذه، فإن دوافع المصلحة الذاتية تكمن أيضاً وراء كرم بكين. تفيد الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية اقتصاد الصين، وليس فقط في طريقة «المد الصاعد الذي يجعل جميع القوارب تطفو».
المنطق السياسي يعزز هذا المنطق الاقتصادي. لقد تبادل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين إلى حد كبير مبادئه الأيديولوجية بالشرعية مقابل أفعال تأسست في النمو الاقتصادي والحكم الفعال. يعرف قادة الصين أن الركود أو الكساد الاقتصادي من شأنه أن يشكل أكبر تهديد منفرد على قبضتهم على السلطة. وبالتالي، فإن مبادرة الحزام والطريق جزء من مجموعة أوسع من المبادرات التي تهدف إلى إصلاح النموذج الاقتصادي للصين من النموذج الذي أنتج عدة عقود من النمو الهائل وسمح لمئات الملايين من الناس بالعمل للتخلص من الفقر والدخول في الطبقة الوسطى العالمية».
مخاوف سياسية
تفسر المخاوف الاقتصادية والسياسية المحلية الكثير من أجندة الرئيس شي في أوراسيا، لكن سيكون من الخطأ التغاضي عن تطلعات بكين الإقليمية والمخاوف الأمنية. يقول المؤلف:«قبل العصر الحديث، كانت الحدود الغربية للصين مصدر الحروب والغزو وتفكك السلالات الإمبراطورية. اليوم، بكين حساسة للغاية بشأن سيطرتها على المناطق الغربية للصين لأنها موطن لأكبر مجموعات من الأقليات من غير الهان. فالأويجور في شينجيانج، بجذورهم العرقية التركية وإيمانهم الإسلامي وروابطهم الثقافية بآسيا الوسطى، قد شعروا بالاستياء في ظل حكم الجمهورية الشعبية. وقد خلفت أعمال الشغب التي اندلعت في صفوف الأويجور في العاصمة الإقليمية أورومتشي مئات القتلى في عام 2009. منذ ذلك الحين، تم فرض القوة الكاملة للدولة الصينية بأدوات القمع السياسي من الطراز القديم وذات التقنية العالية في شينجيانج. ولكن هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى أن بكين تميل إلى اتخاذ حركة أكثر ليونة أو إعادة تقييم استراتيجيتها في شينجيانغ تماماً».
ويضيف:«تحفز المخاوف الأمنية الداخلية لبكين أيضاً بعضاً من تعاون الصين في مكافحة الإرهاب مع باكستان المجاورة ودول آسيا الوسطى تحت رعاية منظمة شنغهاي للتعاون. في الآونة الأخيرة، حول المسؤولون الأمنيون الصينيون انتباههم إلى سوريا أيضاً، حيث انضم المئات، وربما الآلاف، من الأويجور إلى «داعش» وغيرها من المنظمات الإرهابية. أخيراً، مبادرات الصين الجديدة في أوراسيا مدفوعة بالطموحات العالمية الواسعة للرئيس شي جين بينج. على عكس أسلافه، فقد انحرف شي عن القول المأثور الذي وضعه دنج شياو بينج في عام 1990: «راقبوا بهدوء؛ أمّنوا موقعكم، تعاملوا مع القضايا بهدوء. نخفي قدراتنا وننتظر وقتنا؛ كونوا جيدين في عدم لفت الأنظار؛ وعدم ادعاء القيادة على الإطلاق»، وذلك لتجنب الصراع والاستمرار على طريق التنمية الاقتصادية السريعة خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة التي حددتها الاضطرابات العالمية. على العكس من ذلك، أكد الرئيس شي بشغف دور الصين القيادي. تعمل الصين في عهد شي على تخفيف التزامها بمبدأ «عدم التدخل» في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، حتى في الوقت الذي تدافع فيه بكين بحماسة عن مطالبها السيادية».
يرى المؤلف أنه «لكي تكون الصين مؤثرة، لا تحتاج مشاركتها في دول أخرى إلى اتخاذ شكل إمبراطورية قديمة الطراز أو حتى استثمارات حديثة في الطرق أو السكك الحديدية أو الموانئ. في هذا القرن، تعد شبكات المعلومات والاتصالات والأجهزة والبرامج والمعايير الداعمة لها أيضاً مصادر فعالة. في كثير من أنحاء العالم، تعد الصين بالفعل مزوداً رائداً لهذه التقنيات. ونظراً لأن الشركات المدعومة من الدولة مثل «هواوي» تقوض منافسيها الغربيين، فإن الصين تمتلك القدرة على تعزيز هيمنتها العالمية. التداعيات ليست اقتصادية فحسب، بل تمس السياسة والأمن. توفر صادرات الصين من الأدوات التي تتيح الرقابة والمراقبة فرصاً جديدة لبكين للتأثير على الدول الأخرى، وفي بعض الحالات، الوصول إلى معلوماتها».
ويشير إلى أن«تفاصيل مبادرات شي ليست ثابتة، وعندما تعرضت بكين لانتكاسات، يبدو أنها أصبحت منفتحة على تكتيكات جديدة. ومع ذلك، تظل ثابتة في التزامها بتوسيع نفوذها بطرق لا تجعلها الدولة الأكثر هيمنة في شرق آسيا فحسب، بل قوة عظمى أوراسية كاملة ومنافسة للولايات المتحدة. إلى جانب مبادرة الحزام والطريق، هناك مبادرات صينية أخرى، بما في ذلك الجهود المبذولة لتوسيع مدى وصول الجيش الصيني، وغزوات نشطة في الدبلوماسية، وبناء مؤسسات سياسية واقتصادية جديدة متعددة الأطراف. باختصار، تشكل القوى المتنوعة للسياسة الداخلية داخل الدول في أوراسيا، من الحركات الانفصالية وجماعات المصالح الخاصة إلى الأحزاب السياسية المعارضة، الحقائق الميدانية التي يجب أن تعمل من خلالها المبادرات الصينية مثل مبادرة الحزام والطريق».
واشنطن والسياقات السياسية الجديدة
تدرس الفصول الثلاثة (3، 4، 5) من هذا الكتاب السياقات السياسية المحلية وعواقب التدخل الصيني على طول أفقها الغربي. يوجه الكتاب انتباهه إلى الدول البارزة ذات الأهمية الاستراتيجية الخاصة للصين. في جنوب آسيا، باكستان هي الدولة المحورية في الفصل الثالث. يركز الفصل الرابع على آسيا الوسطى، وتحديداً كازاخستان. وفي الفصل الخامس يتناول الشرق الأوسط، وتحديداً إيران، يستكشف فيه كيف ينظر الإيرانيون إلى القيمة الاقتصادية والاستراتيجية في الصين كوسيلة للحفاظ على النظام الحاكم، ومقاومة الضغط من الولايات المتحدة. ويخلص الفصل إلى أن الشرق الأوسط مهيأ لمشاركة صينية أكبر، وإصلاح أقل، ومزيد من المنافسة الجيوسياسية.
يرى الكاتب أن أوراسيا «ستقدم مجموعة صعبة من التحديات الاستراتيجية للولايات المتحدة. سيحتاج صانعو السياسة في الولايات المتحدة إلى تضمين الصين في حساباتهم السياسية المحددة في المنطقة، غالباً بطرق كانت تبدو غير ضرورية قبل بضع سنوات فقط. من الواضح الآن بشكل صارخ، على سبيل المثال، إن العقوبات النووية الأمريكية على إيران أو الضغط الدبلوماسي على باكستان سيثبت أنه أقل فاعلية بكثير إذا عارضته بكين بنشاط. من المرجح أن تزداد قدرة الصين على إحباط أو إعادة صنع مبادرات السياسة الأمريكية في أوراسيا. هنا يتزايد طرح سؤال «ما هو موقف الصين من هذه القضية؟»
يشير الكاتب إلى أنه في الوقت نفسه، سيكون لتطور دور الصين على طول أفقها الغربي تأثير مباشر على تطلعاتها الخاصة للقيادة العالمية، ونتيجة لذلك، على تنافسها الجيوسياسي مع الولايات المتحدة. ستنعكس كيفية ارتباط واشنطن وبكين ببعضهما في أوراسيا في كثير من الأحيان على القضايا الحيوية الأخرى، من المفاوضات التجارية الثنائية إلى التعزيزات العسكرية في شرق آسيا والمحيط الهادئ. ومع ذلك، حتى لو لم يكن من المحتمل أن تكون أوراسيا القارية هي المسرح الأساسي للمنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فإن ما يحدث هناك لديه القدرة على التأثير على تطور تلك المنافسة بطرق مهمة. من جانبها، تمتلك واشنطن مجموعة عريضة من الخيارات السياسية في أوراسيا، بدءاً من «الإهمال الحميد» في أحد الأطراف، إلى «المنافسة العسكرية» من ناحية أخرى.
يقول المؤلف في الختام: «الآن، في المستقبل المنظور، ستكون طبيعة النظام العالمي أكثر مرونة، وسيصبح نفوذ الولايات المتحدة أقل هيمنة. في هذه البيئة الجديدة، وخاصة على طول الأفق الغربي للصين، سيكون صانعو السياسة الأمريكيون أكثر حكمة حينما ينفذون استراتيجية محددة من خلال المنافسة الانتقائية والمتباينة مع الصين بدلاً من المحاولة الانعكاسية».