وصف الملياردير إيلون ماسك المعادن الحرجة بأنها “النفط الجديد”، شاكياً من ارتفاع أسعارها بشكل “جنوني”. ولوّح البيت الأبيض بتقديم إعانات ودعم لمن يستطيع زيادة المعروض منها. وتسابق السياسيون في أوروبا على ذلك، واعدين أيضاً بتقديم دعم مالي لتلك المشروعات.
قبل بضعة أشهر فقط، أثار احتمال نقص عناصر مثل الكوبالت والليثيوم وبعض المعادن القليلة الأخرى قلقاً بسبب ارتفاع أسعار المواد اللازمة لصنع البطاريات الضرورية للتحول في مجال الطاقة.
غير أن الأمر لم يعد كذلك. فقد حطمت الصين سوق ما يُسمى بالمعادن الحرجة.
منذ ذروتها الأخيرة في 2022-2023، انخفضت أسعار الكوبالت والليثيوم بأكثر من 75% بعد زيادة شركات التعدين الصينية إنتاجهما إلى مستويات لم تكن متخيلة من قبل. وأصبح الكوبالت، الذي طالما اعتُبر سلعة معرضة لخطر النقص الدائم، وفيراً لدرجة أن سعره يحوم بالقرب من أدنى مستوى له منذ 20 عاماً.
لم يعد اسم المعادن الحرجة يثير القلق من نقص المعروض، ومع ذلك ينبغي أن نتوخى الحذر، فالأسعار المنخفضة ليست ضماناً لأمن الإمدادات، إذ تهيمن الصين حالياً أكثر من أي وقت مضى على إنتاج الكوبالت والليثيوم، لتعزز من سيطرتها الهائلة على البطاريات الضرورية للسيارات الكهربائية ولأجهزة الأخرى.
الأسوأ من ذلك، أن الأسعار انخفضت لدرجة أن شركات التعدين غير الصينية ستواجه صعوبة في تحقيق الربح، مما يقلل الحافز للمستثمرين الغربيين على إنشاء مصادرهم الخاصة لهذين المعدنين.
انهيار أسعار المعادن ونمو الاستهلاك
يمثل انهيار الأسعار ضربة أخرى ضد واحدة من أكثر الروايات رواجاً في عالم السلع؛ وهي أن التحول في مجال الطاقة إلى الكهرباء النظيفة بدلاً من الوقود الأحفوري يجعل ارتفاع أسعار هذه المعادن أمراً حتمياً.
غير أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. ومن الواضح أن التحول في مجال الطاقة يعني زيادة الطلب على سلع معينة حيث سيحتاج العالم إلى ملايين البطاريات الجديدة فائقة الأداء. وفي حين أن معظم المعادن تواجه نمواً سنوياً في الطلب بنسبة 2% إلى 3%، شهد الكوبالت والليثيوم نمواً في الاستهلاك بنسبة 10% إلى 20% سنوياً. وعلى جانب الطلب، تعتبر المعادن الحرجة محط أنظار قطاع السلع الأساسية. ومع ذلك، فقد زاد المعروض أيضاً بسرعة هائلة.
يعتبر معدن الكوبالت نموذجاً كاشفاً هنا. فقد هيمنت شركة “غلينكور” (Glencore)، عملاقة السلع المدرجة في لندن، لسنوات على هذه السوق. لكن الشركات الصينية سرعان ما تبعتها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، موطن أكبر احتياطيات للكوبالت في العالم. هناك، قامت شركة صينية تُعرف اليوم باسم “سي إم أو سي غروب” (CMOC Group) بزيادة الإنتاج متجاوزةً ما اعتقد كثيرون في هذه الصناعة أنه ممكن خلال هذا الإطار الزمني القصير.
فائض الإنتاج لا يتأثر بهبوط الأسعار
وصل الإنتاج السنوي في سوق الكوبالت العالمي إلى حوالي 230 ألف طن متري، حيث رفعت مجموعة “سي إم أو سي غروب” إنتاجها إلى أكثر من 100 ألف طن هذا العام من حوالي 15 ألف طن قبل خمس سنوات.
قامت “سي إم أو سي غروب” بعملية توسع سريعة في منجمي “تنكي فانغوروم” (Tenke Fungurume) و”كيسانفو” (Kisanfu) الكبيرين في جنوب جمهورية الكونغو الديمقراطية. وخلال هذه العملية، أصبحت عملاقة التعدين الصينية، التي تضم بين المساهمين فيها شركة صناعة البطاريات “كونتمبراري أمبركس تكنولوجي
” (Contemporary Amperex Technology)، أكبر شركة لإنتاج الكوبالت في العالم، متجاوزة “غلينكور”.
ليس غريباً أن صدمة الإنتاج قد طغت على الطلب، مما أدى إلى تراكم المخزون في كل مكان. حتى أكثر المتفائلين يعتقدون أن استهلاك فائض الإنتاج سيستغرق ما بين 18 إلى 24 شهراً. أما المراقبون الأكثر حذراً فيتحدثون عن خمس سنوات أو حتى أكثر من ذلك.
لماذا سيستغرق الأمر وقتاً طويلاً لإعادة التوازن إلى السوق؟ ألا ينبغي أن يستجيب الإنتاج بسرعة لانخفاض الأسعار، كما في دورة السلع العادية من الازدهار إلى الانهيار؟
المشكلة هي أن الكوبالت ليس سلعة عادية. فلا تقوم أي شركة تقريباً بالحفر بحثاً عن الكوبالت، بل إن حوالي 98% من إنتاج العالم منه عبارة عن منتج ثانوي لعمليات تعدين النحاس والنيكل. وبالتالي، فإن سعر الكوبالت ليس هو ما يؤثر تأثيراً حقيقياً في الإنتاج، وإنما النحاس والنيكل، وكلاهما يسجل ارتفاعاً في الأسعار يكفي لتحفيز شركات التعدين على مواصلة الحفر. وبالتالي، فإن انخفاض الأسعار ليس علاجاً لمشكلة فائض إنتاج الكوبالت.
النتيجة كانت انهيار أسعار الكوبالت. فمن الذروة الأخيرة التي تجاوزت 80 دولاراً للكيلوغرام في منتصف عام 2022، انخفضت أسعاره إلى حوالي 25 دولاراً مؤخراً، لتحوم بالقرب من أدنى مستوى لها منذ عقدين. وبلغ الكوبالت أدنى سعر له منذ نصف قرن على الأقل بالقيمة الحقيقية، المعدلة حسب التضخم.
الانتظار حتى يلحق الطلب بزيادة المعروض
أفضل فرصة لدى سوق الكوبالت لإعادة التوازن هي الانتظار بصبر حتى يلحق الطلب بالزيادة الأخيرة في العرض. ولن يفيد في ذلك أن مبيعات السيارات الكهربائية قد خيبت الآمال حتى الآن هذا العام في كل مكان باستثناء الصين، مما يقلل الطلب على البطاريات.
غير أن انخفاض أسعار السلع سيساعد بالتأكيد على إعطاء دفعة للطلب. فقد أدت موجات الارتفاع في الأسعار خلال العقدين الماضيين إلى بذل جهود هندسية ضخمة لتقليل استخدام الكوبالت. والأموال التي أُنفقت في البحث والتطوير أدت إلى تطوير تركيبات كيميائية جديدة للبطاريات مثل البطارية “NMC 811″ التي هبطت بمحتوى الكوبالت في قطب البطارية السالب إلى 10% فقط، انخفاضاً من 20% في البطاريات السابقة من نوع ” NMC 622″، أو حتى 30% في البطاريات من نوع “NMC 523”.
عند أسعار الكوبالت الحالية، توجه أرصدة البحث والتطوير إلى أشياء أخرى، ولا يحاول القطاع تقليل استخدام السلعة. في الواقع، العكس صحيح، حيث يخبرني المسؤولون التنفيذيون في الشركات أنهم يرون علامات على عودة زيادة محتوى الكوبالت في بعض البطاريات.
الليثيوم يسير على درب الكوبالت
اتبع سوق الليثيوم نمطاً مماثلاً، حيث قامت الشركات الصينية بزيادة العرض بسرعة كبيرة حتى أنها أغرقت السوق. فهي لا تقوم باستخراج كمية أكبر من المعدن فحسب، بل أصبحت كذلك ماهرة جداً في إعادة تدوير البطاريات القديمة، مما يؤدي إلى تكوين موجة إضافية من العرض. والنتيجة كانت هي نفسها التي وصلت إليها في معدن الكوبالت، أي انهيار السوق. وتراجعت أسعار الليثيوم المعيارية إلى حوالي 11000 دولار للطن المتري، انخفاضاً من الذروة الأخيرة التي بلغت ما يقرب من 70 ألف دولار للطن في أوائل عام 2023.
كما هي الحال مع العديد من السلع الأخرى، صنعت الصين فقاعة في المعادن الحرجة. كان الطلب المحلي على البطاريات قوياً، وكانت هيمنتها على سلسلة التوريد كبيرة لدرجة أن العديد خارج الصين اندفعوا إلى تخزين الكوبالت والليثيوم، مدفوعين بتحذيرات تشاؤمية من صناع السياسات الأميركيين والأوروبيين. ولفترة وجيزة، طغى مستوى الطلب على مستوى العرض.
لكن ما فعلته الصين، قامت هي نفسها أيضاً بإلغائه. فقد اندفعت بكل قوتها لزيادة العرض، وكانت النتيجة انهياراً عظيماً. ولكن لا تنخدع بالأسعار المنخفضة حالياً، فعلى الرغم من أنها قد لا تعاود الارتفاع في أي وقت قريب، فإن الهيمنة المطلقة للصين على المعادن الحرجة تشكل خطراً واضحاً ومستمراً على الإنتاج المستقبلي للبطاريات اللازمة لإبعاد العالم عن الوقود الأحفوري.