قبل أيام، تجمع عشرات الطلبة أمام مقر وزارة التعليم البريطانية لشتم أم الخوارزمية، تمامًا كما أخبرك، لقد قالوا بالحرف: “F*ck the algorithm”، ربما كان الحقّ معهم، فلقد تسببت خوارزمية بانخفاض حاد في درجاتهم الدراسية. القصة باختصار أن الإغلاق في إنجلترا الناتج عن جائحة كورونا تسبب بإلغاء الامتحانات، فوجدت السلطات التعليمية طريقة لتقييم الطلاب من غير إجراء امتحانات فعلية، وذلك بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي الذي يحلل جهود الطلاب خلال السنوات الثلاثة الماضية وتقييمات المعلمين، أعلنت النتائج في 13 من أغسطس/آب، وقد أظهرت انخفاضًا حادًا بدرجات الطلاب عما لو اعتمدت على تقييمات المعلمين وحدها، انخفاض يصل إلى 40%! هذا ما أشعل حراك هؤلاء الطلاب الذي نجح أخيرًا في تنحية الذكاء الاصناعي جانبًا، وتنفس الطلاب الصعداء.
ثمة أسباب كثيرة للغضب من الخوارزميات، لا يتعلق الأمر بدرجاتنا الدراسية وحسب، إنما والأهم، بخصوصياتنا، بل بحياتنا برمتها.
يصعب اليوم تخيّل الحياة دون خوارزميات، دون ذكاء صنعناه، أعني صنعته الشركات الرأسمالية الكبرى، ولا يقف الموضوع عند خرائط جوجل التي تكشف لنا حالة الطرقات، ولا المساعدات الصوتية التي ترد بظرافة على أسئلتنا السخيفة، ولا هزيمة أعتى أبطال الشطرنج، ولا الإعلانات المستهدفة على شبكات التواصل التي تعرف حتى هرموناتنا وحالتنا المزاجية ومناسباتنا وبمن نلتقي وما يثير اهتمامنا وتعرض إعلانات طبقها، فتؤثر على عاداتنا الاستهلاكية وحتى قراراتنا الانتخابية وتوجهاتنا السياسية، بل بجمهرة واسعة من التطبيقات الفعلية، فهل كنا سنعرف محمد صلاح لولا الذكاء الصناعي الذي اقترح على ليفربول أن يسارع لاستقطابه؟
وحتى اليوم، أمكن للذكاء الصناعي – أيضًا وأيضًا – المساهمة بتطوير أنواع جديدة من العطور بناء على تحليل ملايين التراكيب لعطور رائجة، وخلق توابل ونكهات فريدة لطعامنا، والتنبؤ بالأمراض والأوبئة، وكبح جماح انتشار الأوبئة عن طريق تعقب المرضى كما في جائحة كورونا الجارية، ومكافحة الفقر والجوع وتطوير الزراعة، واستُخدم لمعرفة مصير أبطال مسلسل درامي شهير، بل وحتى توقع مخاطر الوفاة المبكرة، ويستخدمه المستبدون لمراقبة شعوبهم والسيطرة عليهم.
وفي جوانب إبداعية تبدو محصورة بالبشر، شاركت الخوارزميات بكتابة مسرحية وعزف مقطوعات موسيقية ورسم لوحة بيعت بسعر باهظ وصياغة أخبار صحفية بصورة آنية. دعنا نقف هنا. فلا شك أنك تعرف الكثير من التطبيقات الفعلية التي باتت واقعًا في حياتنا للذكاء الاصناعي، ويصعب حقًا حصر كل تلك الاستخدامات، لكن بشأن هذه الأمثلة الأخيرة المتعلقة بالجانب الإبداعي البشري، فعن هذا حديثنا، عن الجديد الخلّاق هنا، عن لغة GPT-3 التي أعلن عنها شهر يوليو/تموز المنصرم.
ما هي؟
لغة GPT-3 هي الجيل الثالث من برمجية التنبؤ اللغوي (بعد جيلين سابقين، هما PTB وGPT-2) التي تطورها مؤسسة OpenAI، وهي شركة أبحاث ذكاء اصطناعي ربحية يدعمها عدد من رواد الأعمال المشاهير على رأسهم إيلون موسك (مؤسس speacx وتسلا وغيرها) وريد هوفمان (مؤسس شركة ليكندإن) ومارك بينيوف (المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة salesforce) وسام ألتمان (الرئيس التنفيذي لشركة Y Combinator) وآخرين. أعلن عنها لأول مرة في ورقة بحثية أعدها 31 باحثًا ونشرت في 28 من مايو/أيار 2020.
مع تضمينها 175 مليار متغيّر (النسخة السابقة GPT-2 كانت تضم 1.5 مليار متغيّر وهو رقم هائل بدوره، فتخيل القفزة!) أصبحت GPT-3 أقوى نموذج لغة على الإطلاق، وهي منافس حاسم لنموذج لغة T-NLG التي تطورها شركة مايكروسوفت وتباهت حين الإعلان عنها في فبراير/شباط الماضي بأنها تضم 17 مليار متغيّر، لكن هذا كان أقل من 10% من سعة GPT-3 التي سيعلن عنها بعد بضعة أشهر!
تتيح GPT-3 إمكانية توليد سيل لا منتهي من النصوص المقنعة من خلال اقتراح جملة افتتاحية، فبمجرد إرسال مقدمة قصيرة من معطيات قليلة لا تتجاوز عدة كلمات، ستقدم لك لغة GPT-3 نصًا يشبه النصوص التي يصوغها البشر من ناحية طولها وبنيتها النحوية، مكوّن من جمل عشوائية تصل لعدة فقرات، مع قدر كبير من التعبيرية والدلالة، وسيكون من الصعب تمييزها عن النصوص التي ننتجها نحن، وأنها مجرد تدفقات نصية ركبتها خوارزمية تتعلم من تلقاء نفسها، وكما وصفها فرهاد مانجو في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز، “تنتج نثرًا أصليًا متماسكًا وأحيانًا واقعيًا بطريقة مدهشة ومخيفة ومتواضعة بل ومرعبة”.
بإمكان GPT-3 توليد قصص وقصائد شعرية وبيانات صحفية، ونكاتًا، وصياغة أخبار، والترجمة، والإجابة على أسئلتك بطريقة فلسفية منمقة، وكتابة كود برمجي بعدة لغات مثل CSS وJSX وPython وSQL وغيرها، وهي قادرة على التصميم أيضًا!
دعنا نجرب
ما زالت اللغة تجريبية، لكن OpenAI أتاحت لبعض المطورين الوصول المدفوع إلى نظامها عبر واجهة برمجة تطبيقات API، فأطلقوا عددًا من التطبيقات التي تساعدنا في تجربتها، وقد استخدمنا أحد تلك الأدوات لتجربتها بدورنا، وهي أداة Philosopherai، ودعني أوضح بدايةً أن هذا التطبيق يوفر إجابات ذات طابع فلسفي كما يظهر من اسمها، ويبدو أن OpenAI تقدم لكل مطوّر يطلب الولوج إلى بياناتها، دخولًا مشروطًا بتخصص ما، ما يعني وجود تطبيقات بمجالات مختلفة، من غير توفير تطبيق مفتوح على كل المجالات، فيما يبدو.
الآن، ما رأيكم أن نبدأ باختبار اللغة عبر محاولة إيجاد حبكة جديدة لقصة ماوكلي؟ ما النهاية التي سيقترحها الذكاء الصناعي؟
سنعطي الذكاء الصناعي ما يبدو أنها بداية حكاية صديقنا فتى الأدغال، ونرى كيف تجري الأمور.. “كان يا ما كان، كان هناك فتى صغير ترعرع في الغابة، وفي أحد الأيام…”.
واو! لقد حصل ماوكلي على صديق لطيف، إنه ذئب صغير على ما يبدو، ولعبا معًا حتى نسي الفتى العودة إلى المنزل. بداية موفقة! (شاهد النتيجة هنا باللغة الإنجليزية)
ربما من الجيد أن نطلب منه كتابة مقالة قصيرة في أمر ما، لنجرب أن يكتب شيئًا عن التطوّر، مثلاً: “4 معلومات مهمة حول التطور”، يا سلام، إنها نتيجة ممتازة!
والآن سأطلب منه قصيدة من شعر أبو نواس، هممم يبدو أنه اختار أن يحدثني عن تاريخ الشعر، لا بأس، طلبت منه أن يعيد المحاولة، لقد حدثني هذه المرة كم أن أبو نواس عظيم! في الثالثة راح يقلل من شأنه! أما في المحاولة الرابعة فقد كتب لي قصيدة من أربعة أبيات بالفعل! عظيم! في المرة الخامسة تحدث عن شيء لا دخل له لا بالشعر ولا بأبي نواس، في الواقع تحدث عنا نحن البشر وصراعاتنا، (في الحقيقة أنا أواجه مشكلة مع الخوارزميات التي تنظر لنا باستعلاء، تكاد لا توفر فرصة إلا وتنتقدنا فيها)، وفي المرة السادسة اجترح قصيدة عن الخمر، أوووه! أما هذا فأبو نواس بحق وحقيق!
حاولت استنطاقه نكاتًا، لكن لم أفلح، إما لأنني لم أجد الاستهلال المناسب الذي يحفزه على إلقاء النكات وإما لأن هذه الأداة ليس من بين مهامها طرح النكات، وعمومًا، استبدلت الأمر بسؤاله عن “كيف نبتكر نكتة؟”، والحقيقة، أنه قدم إجابة رائعة هنا، وهنا إجابة أخرى ممتازة، يمكن أن تكوّنا معًا مقالة جيدة عن الموضوع أو بذرة مقالة جيدة جدًا، ويمكنك إن قررت ذلك، أن تجعل هذه الإجابة (التي تضمنت نكتة بالمناسبة) مقدمة استهلالية لمقالتك عن كيف نبتكر النكات.
حتى تستطيع الخوارزمية إنتاج نص بهذه الجودة، جرى تزويدها بـ45 تيرابايت من البيانات، أي مئات المليارات من الكلمات التي جرى تدريب GPT-3 عليها، تحليليها والتعلم العميق منها، مصادر هذه البيانات تتوزع بنسب متفاوتة بين الكتب وصفحات الإنترنت وويكيبيديا ولغات البرمجة، يقول جاك كلارك Jack Clark، مدير السياسة في OpenAI، إنه كلما كانت الخوارزمية أكبر، كانت “أكثر تماسكًا وأكثر إبداعًا وأكثر موثوقية”، وهذا ما يمكنك لمسه فعليًا عند تجربتها.
يرى مطوّرو OpenAI أن “الخوارزميات الأكبر، أي التي تضم أكبر قدر من المتغيرات، تتيح نتائج أكثر عمومية. فعلى سبيل المثال، تتمثل الوظيفة الأساسية لـGPT-3 في التصرف مثل الإكمال التلقائي. أعطه كلمة واحدة أو جملة وسوف يولد ما يَعتقد أنه يأتي بعد ذلك، كلمة بكلمة، ويمكنه أيضًا الإجابة عن الأسئلة أو حتى إجراء الترجمات، دون الحاجة إلى أي تغييرات في الخوارزمية”.
انتقادات
تحظى لغة GPT-3 بثناء متواصل، وقد وصفها الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز وهو عالم إدراكي متخصص في أبحاث العلوم العصبية وفلسفة اللغة، بأنها “أحد أكثر أنظمة الذكاء الاصطناعي إثارة للاهتمام والأكثر أهمية على الإطلاق”، لكن هذا لا يلغي وجود انتقادات حادة للغة.
بل حتى مؤسسي وشركاء GPT-3 لم يظهروا أعلى قدر من التفاؤل، فـSam Altman أقر بنقاط ضعفها و”أخطائها السخيفة” واعتبر أنها “مجرد لمحة مبكرة جدًا” عن مستقبل العالم الذي قال إن الذكاء الصناعي سيغيره.
في مقالة لها، انتقدت مجلة MIT Technology Review لغة GPT-3، واعتبرت أن ناتجها الشبيه بنتاج النصوص البشرية وتعدد الاستخدامات المذهل لها، إنما هو نتيجة هندسة ممتازة، وليس ذكاءً حقيقيًا، وأرجعت رأيها إلى أن هذا “الذكاء” ما زال يمثل صدى سخيفًا يشف عن نقص في البديهة والافتقار إلى العمق، معتبرة أن الأمر لا يعدو عن تراكيب وضعت بطريق القص واللصق أكثر من كونها صياغة أصلية ذكية، إنها – بحسب المجلة – أداة جيّدة لتركيب نصوص وقصاصات عثر عليها في أماكن مختلفة على الإنترنت، حيث يتم تركيبها ولصقها بجانب بعضها بصورة خلاقة ومبدعة عند الطلب.
ترى MIT أن أعظم حيل الذكاء الاصطناعي هي إقناع العالم بوجوده، والـGPT-3 هي قفزة هائلة إلى الأمام، لكنها في نهاية المطاف أداة من صنع البشر.
وفي ورقتهم البحثية، أشار منشئوها أنفسهم إلى مجموعة من المخاطر، من بينها “المعلومات المضللة والبريد العشوائي والتصيد الاحتيالي وإساءة استخدام العمليات القانونية والحكومية وكتابة المقالات الأكاديمية الاحتيالية ومشكلات تتعلق بالهندسة الاجتماعية”.
يضيف لها مقال نيويوك تايمز مخاطر أخرى، يقول فرهاد: “يحتمل أن يعكس GPT-3 العديد من التحيزات الموجودة في المجتمع. إذ كيف يمكننا التأكد من أن النص الذي ينتجه ليس عنصريًا أو جنسيًا؟ كما أن GPT-3 ليس جيدًا في إخبار الحقيقة من الخيال”.
وتقييمنا، من واقع تجربتنا لأداة Philosopherai، بشكل أساسي، مع أداة توليد التغريدات هذه، وتطبيق تاغلاينز، مع عشرات عمليات الاستنطاق والتوليد، فإن نموذج اللغة GPT-3 خلاق وحاذق، ومليء بالظرف اللماح الذي يدل على نباهة لا يمكن تجاوزها، ويقدم بثوان إجابات قد تتجاوز المأمول في بعض الأحيان، هذا مع الإقرار بالطبع بوجود سذاجة وركاكة في كثير من الطلبات، والحاجة لأكثر من محاولة للوصول إلى الإجابات التي نتوقعها.
أخيرًا، كما لاحظت من الأمثلة، فإنّ GPT-3 تنتج نصوصًا بالإنجليزية فحسب، وحتى يمكن أن تنتج نصوصًا باللغة العربية، فيجب بطبيعة الحال تزويد الخوارزمية بمليارات المتغيرات العربية ومليارات الباياتات من البيانات بما فيها صفحات الإنترنت والكتب والمعاجم، وهنا لديّ بعض الأخبار السيئة، ربما لا يوجد مليار متغير عربي متوافر فعلًا، فضلًا عن “مليارات كثيرة” تحتاجها الخوازمية للتعلم.