إعادة ابتكار دولة الرفاه

كشفت جائحة «كورونا» بشكل مأساوي كيف أن نموذج دولة الرفاه اليوم لا تستطيع حماية مواطنيها بشكل صحيح في عدد من الدول الأوروبية، وخاصة بريطانيا. فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها القطاع العام، فإن اختلالات كبيرة ظهرت إلى السطح، وتحتاج إلى معالجة. توضح المحللة السياسية البارزة أورسولا هووز كيف يمكننا إنشاء دولة رفاه عادلة في المملكة المتحدة، من شأنها أن توفر الأمن للجميع على كافة الأصعد.

بالاعتماد على بحث استمر معها طيلة حياتها حول بعض القضايا الرئيسية في عصرنا مثل اقتصاد الوظائف المؤقتة، والرعاية الصحية الشاملة والمجانية، والرعاية الاجتماعية؛ تشرح المؤلفة في كتابها « إعادة ابتكار دولة الرفاة» بوضوح لماذا نحتاج إلى إعادة التفكير جذرياً في كيفية تغييرها، وتقترح أفكاراً سياسية جديدة ومبتكرة، بما في ذلك المناقشات النقدية للدخل الأساسي العالمي والتشريعات الجديدة لحقوق العمال العالمية، كما أنها تحدد «دولة الرفاه الرقمية» في القرن الحادي والعشرين. ويشمل ذلك إعادة استخدام تقنيات المنصات الإنترنيتية لتكون تحت السيطرة العامة؛ بهدف تحديث وتوسيع الخدمات العامة، وتحسين إمكانية الوصول.

انقسامات بين العمل والأحزاب السياسية

منذ عام 2016، ظهرت انقسامات مقلقة داخل الطبقة العاملة البريطانية، وبين الأحزاب السياسية التي تدعي أنها تمثل مصالحها. لقد استجاب الكثيرون لهذا الموقف؛ من خلال التراجع إلى المواقف المستقطبة أو الاستسلام لأشكال عميقة ومشلولة من الاكتئاب تجعلهم يائسين أو غير فاعلين.

يأتي هذا الكتاب في محاولة لمواجهة ردود الفعل هذه؛ إذ ترى الكاتبة أنه على الرغم من هذه الانقسامات المؤلمة، هناك ما يوحد الناس أكثر بكثير مما يفرقهم. تقول المؤلفة: «قبل كل شيء، وضد بعض الأدلة المستمدة من الانتخابات العامة لعام 2019، يبدو لي أن هناك جوعاً عميقاً بين الشعب البريطاني، عبر كافة أطيافه، إلى دولة رفاه تهتم حقاً بمواطنيها، بكافة تنوعاتهم من المهد إلى اللحد. ظهرت أدلة جديدة على هذا الجوع خلال أزمة فيروس كورونا، على الرغم من أنه لا يزال من السابق لأوانه، كما أكتب، معرفة إلى أين سيؤدي ذلك. على الرغم من الإغراءات العديدة لإلقاء القبض على جعل الآخرين كبش فداء لأوجه القصور في دولة الرفاه الحالية، أو الاستسلام للانهزامية، أعتقد أن هناك أعداداً كبيرة من الأشخاص ذوي المبادئ ممن لديهم الشجاعة لتنحية خلافاتهم جانباً، والقيام بحملة لتأسيس دولة رفاه أفضل».

وتضيف المؤلفة: «لذلك، أكتب من موقع التفاؤل، وأقدم هذا الكتاب كمساهمة بناءة في تطوير بيان للأمل وشكل تعاوني للسياسة يمكنه بناء مستقبل بديل. نحن مدينون لأبنائنا وأحفادنا بتزويدهم ببيئة اقتصادية واجتماعية لا يضطرون فيها إلى إهدار طاقاتهم من أجل البقاء على قيد الحياة، ولكن يمكنهم العيش حياة كريمة ومرضية يركزون فيها طاقاتهم على مواجهة التحديات الضخمة التي تواجه الكوكب. دعونا نعطيهم أفضل ما لدينا. من الواضح أن دولة الرفاه التي لدينا في المملكة المتحدة لم تعد مناسبة. لكن ما الذي يمكن عمله حيال ذلك؟ هذا من أكبر التحديات التي تواجهنا ونحن ندخل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. هل نحاول إعادة خلق العالم المريح في منتصف القرن العشرين، أم أننا بحاجة إلى تصميم شيء جديد، لعصر رقمي عالمي؟ تلعب دولة الرفاه في منتصف القرن العشرين دوراً قوياً في الخيال الاشتراكي، فهي لا توفر فقط أصل العديد من مؤسساتنا الحالية، على الرغم من أن بعضها قد يكون كذلك، ولكنها تمثل أيضاً نموذجاً طموحاً. في أوروبا، على وجه الخصوص، لا يزال الكثيرون يعدونها المعيار الذي يتم من خلاله قياس الحياة الكريمة، مع وجود الأمن والأمان، والتضامن الاجتماعي، وحماية الشعب من المهد إلى اللحد من الفقر، وتكافؤ في الفرص، ورؤية التقدم.

عندما يُسأل الناس عن الشكل الذي تبدو عليه «الوظيفة المناسبة» – تقول المؤلفة – لا يزال معظمهم يشير إلى النموذج الذي تم إنشاؤه بعد الحرب العالمية الثانية، على الأقل بالنسبة لأقلية مميزة، للعمل بدوام كامل ودائم مع ساعات عمل منتظمة، مع وجود التأمين ضد مخاطر المرض أو العجز أو البطالة، ومعاش في النهاية؛ لتوفير تقاعد سعيد. وبالمثل، فإن هناك دعماً واسع النطاق لفكرة أن المجتمع المتمتع بحياة كريمة هو المجتمع الذي يوفر المأوى الكافي لضمان عدم اضطرار أي شخص إلى النوم في الشارع، وشبكة أمان للرفاهية تمنع حدوث مجاعة. لا يزال الكثيرون يتفقون مع هدف الاقتصادي الإنجليزي وليام بيفريدج (1879 – 1963) الذي لا يُنسى في القضاء على «الشرور العملاقة» الخمسة؛ المتمثلة في الفساد والجهل والعوز والكسل والمرض. وبهذه الروح، أعطتنا حكومة أتلي بعد الحرب العديد من السمات الأساسية التي لا يزال معظم البريطانيين يعدونها حقوقاً اجتماعية معيارية؛ وهي: الرعاية الصحية الشاملة والتعليم الشامل ونظام التأمين الوطني الذي يوفر معاشات تقاعدية وإعانة الأطفال والتحرر من العوز عبر شبكة أمان اجتماعي.

تفكك دولة الرفاه

تذكر الكاتبة أن الأجيال التي نشأت في احتضان دولة الرفاه هذه، أو على الأقل من بينهم الاشتراكيون، شاهدت تفككها البطيء على مدى العقود الأربعة الماضية بصورة مرعبة، واضعين طاقاتهم السياسية في محاولة للمحافظة على ما يستطيعون منها، مطالبين بإعادة تأميم ما تمت خصخصته، وإعادة تنظيم ما تم تحريره، وإعادة الميزانيات التي تم تخفيضها. بعبارة أخرى، يطالبون بحل يبدو للكثيرين وكأنه عودة إلى الوراء. في الأغلب تكون المؤسسات الحكومية الحالية أمراً مفروغاً منه في المشهد الاجتماعي؛ بحيث يصعب على الأشخاص من مواليد هذه الفترة الفصل بين السمات المحددة لتلك المؤسسات والأهداف الاجتماعية التي ألهمت تصميمها. إن تجربتهم في محاولة الدفاع عن هذه الهيئات في القرن العشرين خلال السنوات الصعبة الطويلة بين صعود النيوليبرالية في نهاية السبعينات والأزمة المالية في عام 2008 جعلتهم يشككون بشدة في الإصلاح؛ لكن هذا ربما جعل من الصعب عليهم فهم مدى نشوء الفجوة بين تلك الأهداف الاجتماعية الأصلية والطريقة التي تعمل بها هذه المؤسسات الآن. وربما تكون هذه التجارب ذاتها قد أزالت حساسيتهم تجاه آراء الأجيال الشابة التي لم ترَ دولة الرفاه إلا من منظور النيوليبرالية.

وترى أنه بالنسبة لأي شخص دخل سوق العمل بعد عام 1990، فإن عالم العمل في فترة ما بعد الحرب – الذي يهيمن عليه المعيلون من الذكور في وظيفة دائمة بدوام كامل يدعمون الأسر المعالة – أمر لا يمكن تصوره تقريباً، وتقول: كان سقوط جدار برلين علامة على التأسيس الرمزي لتقسيم دولي جديد للعمل؛ حيث واجهت القوى العاملة المحمية في الاقتصادات الغربية المتقدمة تحدياً متزايداً؛ بسبب وجود جيش احتياطي عالمي من العمالة، يمكن الوصول إليه من قبل أرباب العمل خارج الحدود الوطنية إما عن طريق نقل العمل إلى الخارج وتأسيس اقتصادات منخفضة الأجور وإما من خلال الاستفادة من قوة عاملة مهاجرة غير مستقرة في بلدانها الأصلية. أدى ذلك إلى خلق قوة عاملة مشتتة وإن كانت مترابطة، منظمة في سلاسل القيمة العالمية، في الأغلب خارج نطاق المواطنة الوطنية وبالتالي تم استبعادها من تغطية الرعاية الاجتماعية أو قوانين حماية العمالة. في هذا السياق، قد تبدو الاستراتيجيات لمحاولة استعادة نموذج التوظيف والرعاية بعد الحرب وكأنها محاولة رومانسية من خلال الرؤية في نظارات وردية. في الواقع، إذا تم نقل معظم الشباب «اليقظين» الذين نشأوا في أوائل القرن الحادي والعشرين، إلى الخمسينات من القرن الماضي، من المحتمل أن يشعروا بأنهم في جحيم حقيقي، مقيد بالفئوية، ومتحيز ضد المرأة، وعنصري. من الصعب تخيل العودة إلى بعض من سمات الحياة اليومية في منتصف القرن العشرين.

في هذا الكتاب تدعو المؤلفة إلى نهج مختلف. بالاعتماد على بحث مكثف حول التغييرات في العمل والرفاه، يجادل بأن ما نحتاج إليه الآن ليس إعادة خلق حنين إلى المشهد المؤسسي لدولة الرفاه بعد الحرب ولكن العودة إلى المبادئ التي ألهمتها. بعد تحديد هذه المبادئ، تجادل بأنه ينبغي إجراء تحليل صارم للواقع الاجتماعي لبريطانيا الحديثة من أجل معرفة كيف يمكن تطبيق هذه المبادئ على أفضل وجه لتلبية احتياجات السكان الحاليين.

ترى الكاتبة أن السياق الذي يجب تطبيق هذه المبادئ فيه هو السياق الذي يتم فيه تنظيم العمل والاستهلاك بشكل متزايد في الأسواق العالمية من قبل الشركات متعددة الجنسيات المتهربة من الضرائب؛ حيث تُستخدم التقنيات الرقمية لاستخراج قيمة من مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث من المحتمل أن تنخرط المرأة في عمل مدفوع الأجر مثل الرجال، وينتشر التشرد والفقر، ويكون للسكان المسنين احتياجات يائسة بشكل متزايد للرعاية الصحية والاجتماعية، وحيث يبقى ظل تغير المناخ يخيم على كل شيء».

تقول المؤلفة: «في رأيي، سيكون من الخطأ الفادح محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لدينا فرصة تاريخية لإعادة التفكير في المبادئ الأولى من الشكل الذي يمكن أن تبدو عليه دولة الرفاه في القرن الحادي والعشرين، ونحن مدينون لضحايا العولمة النيوليبرالية بتقديم أفضل ما لدينا. وهذا يتطلب شيئاً أكثر طموحاً من محاولة إعادة إنشاء نسخة مصححة من الربع الثالث من القرن العشرين (يُنظر إليها من خلال النظارات الوردية في القرن الحادي والعشرين)، وأكثر تركيزاً على القضايا المحددة التي تواجه الطبقة العاملة في اقتصاد معولم رقمي. لفهم طبيعة التحدي، من الضروري أولاً تقدير ضخامة التحول في دولة الرفاه في منتصف القرن العشرين الذي حدث خلال العقود السبعة الماضية».

بنية الكتاب

يقع الكتاب في 240 صفحة، وهو صادر باللغة الإنجليزية عن دار بلوتو للنشر في 20 سبتمبر/أيلول 2020. ويتكون من مقدمة ثم فصول هي: ماذا حدث لدولة الرفاه في القرن العشرين؟؛ ماذا حدث في سوق العمل؟؛ ماذا حدث للمساواة بين الجنسين؟؛ إعادة ضبط آليات إعادة التوزيع؛ دخل أساسي عالمي يمكن إعادة توزيعه حقاً؛ صفقة جديدة للعمل؛ منصات رقمية للصالح العام؛ إلى الأمام.

تتناول المؤلفة أولاً (في الفصل الثاني) كيفية تحول مؤسسات دولة الرفاه من خلال سلسلة من التحولات من وسائل تحسين مستويات المعيشة، وزيادة الاختيارات وإعادة توزيع الثروة بشكل متساوٍ عبر المجتمع إلى آليات إعادة التوزيع من الفقراء إلى الأغنياء.

ينظر الفصل الثالث في التغييرات في سوق العمل وكيف حدث تآكل في نموذج التوظيف القياسي في القرن العشرين، ما أدى إلى انتشار غير رسمي وظهور أشكال جديدة من العمل غير المستقر المُدار رقمياً. يلخص الفصل الرابع التغييرات التي حدثت في تقسيم العمل بين الجنسين خلال الفترة نفسها، مما أحبط العديد من الأهداف الكبرى للحركة النسائية في السبعينات. ويوضح هذا الفصل الطريقة التي تفاعلت بها التطورات في نظام الرعاية وسوق العمل مع بعضها لإنتاج حلقة مفرغة يدفع فيها الفقر الزمني والفقر المالي بعضهما إلى دوامة لا تنتهي، بطرق ضارة للغاية بالمساواة وكذلك نوعية الحياة في العمل والمنزل.

يبحث الكتاب في الطرق التي يمكن من خلالها عكس هذه الحلقة المفرغة، وكيف يمكن تطوير السياسات التي تعزز المساواة وحرية الاختيار والتوازن بين العمل والحياة، مع معالجة بعض تحديات السياسة الرئيسية الأخرى التي تواجهنا بما في ذلك الرعاية لشيخوخة السكان، وتطوير الاقتصادات المحلية ومعالجة نفايات الغذاء والطاقة.

تلقي المؤلفة في الفصل الخامس نظرة على آليات إعادة التوزيع والمبادئ الأساسية التي يجب أن تدعم مثل هذه السياسات. ثم تقدّم بعض الاقتراحات الملموسة: من أجل أشكال الدخل الأساسي الشامل الذي يمكن إعادة توزيعه بشكل حقيقي (في الفصل السادس) ومن أجل ميثاق جديد للحقوق العالمية للعمال (في الفصل السابع).

في الختام، يبحث الكتاب في الخدمات التي تقدمها دولة الرفاه، أو ينبغي أن توفرها لجعل أهداف إعادة التوزيع والمساواة هذه حقيقة واقعة. ويركز الفصل بشكل خاص على الخدمات التي يمكن تقديمها عبر المنصات الرقمية، مثل التي تتضمن النقل وتوصيل الطعام والمطابقة بين العرض والطلب بين العمال والعملاء في خدمات مثل رعاية الأطفال والرعاية الاجتماعية. على العموم، لا يقترح الكتاب حلولاً فيما يتعلق بنطاق هذه الخدمات أو كيف ينبغي تنظيمها. بل يقترح، بدلاً من ذلك، مجموعة متنوعة من الطرق الممكنة والمختلفة، على سبيل المثال، من خلال دمجها في المؤسسات القائمة أو إنشائها كشراكات أو مؤسسات اجتماعية أو تعاونيات، بهدف تشجيع نهج يبدأ من القاعدة إلى القمة على المستوى المحلي متجذر في التعاون بين مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة الاجتماعية المختلفة.

عن المؤلفة

* أورسولا هووس أستاذة العمل والعولمة في جامعة هيرتفوردشاير. لها العديد من الكتب والأبحاث الرائدة عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للتغير التكنولوجي، وإعادة هيكلة التوظيف والتقسيم الدولي المتغير للعمل.. وهي تحاضر وتقدم المشورة لصانعي السياسات على المستوى الدولي.

ترجمة: نضال إبراهيم

 

 

الشركات تصنع القرار الأمريكي

لا يخفى على الكثيرين في أمريكا، وخارجها، أن السياسة الأمريكية تخضع إلى حد كبير، للشركات الكبرى المتحكمة في الاقتصاد الأمريكي، وكثيراً ما تفرض هذه الشركات سياسات تدعم مصالحها على حساب مصالح الشعب. ويناقش هذا الكتاب كيفية صناعة القرار السياسي عبر تأثير هذه القوة المفصلية في المجتمع الأمريكي، وكيف يعمل السياسيون القادمون لأجل تحقيق التغيير على خلق حالة التوازن بين مصالح الشعب، وأصحاب الأعمال.
ليس سراً أن «1%» – النخبة التجارية التي تسيطر على أكبر الشركات والشبكة المتصلة بها من المؤسسات العامة والخاصة – تمارس سيطرة هائلة على الحكومة الأمريكية. في حين تُعزى هذه السيطرة عادة، إلى تبرعات الحملات وكسب التأييد، ويجد هذا الكتاب أن قوة الشركات تنبع من السيطرة على الموارد الاقتصادية التي تعتمد عليها الحياة اليومية.
ويذكر المؤلفون أنه يجب أن يسعى المسؤولون الحكوميون باستمرار لإبقاء الرأسماليين سعداء، خشية من «إضراب رأس المال» – أي رفض الاستثمار في صناعات أو مواقع معينة، أو نقل ممتلكاتهم إلى بلدان أخرى – وبالتالي فرض مشقة مادية على مجموعات معينة، أو الاقتصاد ككل. لهذا السبب، حتى السياسيين الذين لا يعتمدون على الشركات لتحقيق نجاحهم الانتخابي، يجب عليهم تجنب انقطاع استثمار الشركات.
يوثق الكتاب القوة المنتشرة للشركات والمؤسسات الأخرى على صنع القرار في تجمعات كبيرة لرأس المال، ولا سيما «البنتاجون». كما يُظهر أن أكثر حركات الإصلاح نجاحاً في تاريخ الولايات المتحدة الحديث – من أجل حقوق العمال والحقوق المدنية وضد الحروب الإمبريالية – قد نجحت من خلال الاستهداف المباشر للشركات، وغيرها من الخصوم المؤسسيين الذين بدأوا واستفادوا من السياسات القمعية. وعلى الرغم من أن معظم الحركات الاجتماعية اليوم تركز على الانتخابات والسياسيين، فإن حركات «99%» تكون أكثر فاعلية عندما تفرض تكاليف مباشرة على الشركات والمؤسسات الحليفة لها. وهذه الاستراتيجية هي أيضاً أكثر ملاءمة لبناء حركة جماهيرية ثورية يمكن أن تحل محل المؤسسات الحالية ببدائل ديمقراطية.

 

في عام 1931، أعرب الفيلسوف جون ديوي، عن أسفه لأن «السياسة هي الظل الذي تلقيه الشركات الكبرى على المجتمع». الحكومة بشكل عام، هي صدى «وفي بعض الأحيان شريك مباشر» لمصالح الشركات الكبرى. اليوم، كما في زمن ديوي، تعتبر سيطرة الشركات الكبرى على الحكومة الأمريكية سراً مكشوفاً. لدينا مؤسسات ديمقراطية رسمياً، لكن 1% يمارسون سيطرة واضحة على صنع السياسات الحكومية. وفي السنوات التي أعقبت الانهيار الاقتصادي في عام 2008، اتفق نحو الثلثين على أن استجابة الحكومة قد أفادت «البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة» و«الشركات الكبيرة والأثرياء»، وأن بقية السكان قد استفادوا «ليس كثيراً»، أو «لم يستفيدوا على الإطلاق».
إن الانتقادات تجاه الأثرياء – حكم الأغنياء – ليست جديدة. فلطالما شجب الماركسيون واللاسلطويون (الأناركيون) تأثير الرأسماليين في الحكومة. وكان بعض الليبراليين، مثل ديوي، أعربوا عن انتقادات مماثلة تعود على الأقل إلى شكوى آدم سميث في عام 1776 من أن «التجار والمصنعين» في إنجلترا كانوا «المهندسين الرئيسيين للسياسة الاقتصادية ومصالحهم» التي يتابعها السياسيون بعناية. ويدعم التاريخ وجهة نظر ديوي. فقد واجهت الحكومات المنتخبة بتفويض تقدمي قوي، من تشيلي في سبعينات القرن الماضي إلى فنزويلا، واليونان، مؤخراً، اضطراباً اقتصادياً هائلاً، وغالباً انقلابات عسكرية؛ عندما تشكل إصلاحاتها تهديداً لمزايا وامتيازات الرأسماليين. وكان الإصلاحيون الأقل طموحاً، مثل باراك أوباما، تسببوا أيضاً بغضب قطاع الأعمال، على الرغم من بذلهم جهوداً هائلة لاستيعاب مصالح الشركات.

لماذا الأعمال قوية جداً؟ يعزو معظم المحللين نفوذها السياسي إلى التبرعات الانتخابية، وكسب التأييد. لكن تمويل الحملات الانتخابية هو مجرد وسيلة واحدة تؤثر بها الأعمال التجارية في الحكومة. ويرى المؤلفون أن المشكلة تذهب إلى ما هو أبعد من المال في السياسة، إلى هيكل الاقتصاد ذاته. وتنبع القوة السياسية للبنوك والشركات في نهاية المطاف من القوة التي تمارسها على الاقتصاد نفسه. إنهم يتحكمون في معظم الموارد الحيوية التي يعتمد عليها المجتمع، بما في ذلك رأس المال الاستثماري، (وبالتالي الوظائف والقروض)، إضافة إلى الغذاء، والنقل، والطب، وخدمات الرعاية الصحية، وأشياء أخرى لا حصر لها.
يقول المؤلفون: «أقوى سلاح للبنوك وأرباب العمل هو الإضراب الرأسمالي: سحب رأس المال الاستثماري من قطاع أو أكثر من قطاعات الاقتصاد، أو «سحب الاستثمار» في شكل تسريح العمال، أو نقل الأموال إلى الخارج، أو تحويل رأس المال المالي إلى الخارج، وتشديد الائتمان وغيرها من التدابير التخريبية. ويمكن تنفيذ هذه الإجراءات من قبل الشركات الفردية أو الصناعات بأكملها، أو عندما يتخذ كبار المستثمرين قراراً جماعياً بعدم الاستثمار.
ويضيفون: «إن حجب رأس المال لا يمثل دائماً إضراباً متعمداً من قبل الرأسماليين لأغراض سياسية، فقد يسحب الرأسماليون الاستثمار لمجرد ظروف السوق، مثل انخفاض الطلب على منتجاتهم، كما يحدث عندما يقطع صانعو السيارات الإنتاج ويسرحون العمال عندما ينخفض ​​الطلب على سيارات معينة. ويتميز إضراب رأس المال عن هذه الحالات «العادية» لسحب الاستثمارات من قبل الرأسماليين الذين يطالبون بتغيير سياسة الحكومة، ووعودهم بأن التغييرات الإيجابية ستجلب استثمارات جديدة، أو متجددة. بعبارة أخرى، يشكل سحب الاستثمار إضراب رأس المال عندما يكون حجب رأس المال مصحوباً بوعد بالاستثمار، مقابل خدمات من الحكومة. ونظراً لأن الأعمال تتحكم في معظم الموارد التي نعتمد عليها جميعاً، يجب على المسؤولين الحكوميين إرضاء الرأسماليين باستمرار حتى يواصلوا استثمار هذه الموارد بشكل منتج».
ويؤكدون أن «الحكومات الأكثر جرأة فقط هي على استعداد لإكراه الرأسماليين على الاستثمار، لأن القيام بذلك عادة ما يدعو إلى إضرابات رأسمالية أعمق، ويؤدي إلى عرض يجب على الدولة فيه إما مصادرة المشاريع الخاصة، (متحدية الاتهامات بالاستبداد)، وإما الاستسلام للحكومات في كل مكان، وبالتالي تستثمر طاقة كبيرة وموارد عامة لدرء السخط من قبل المديرين التنفيذيين والمستثمرين الغاضبين».

تستخدم الأعمال مجموعة من الأدوات اليومية إلى جانب إضراب رأس المال. لديها موارد هائلة لإنفاقها على الحملات الانتخابية، وتبرعاتها تفوق تلك التي تقدمها جميع الفئات الأخرى في المجتمع في عملية صنع السياسات. يفعلون ذلك، أولاً، من خلال ضمان انتخاب المرشحين الودودين في مجال الأعمال. وفي بعض الأحيان يأتي المرشحون مباشرة من عالم الأعمال، وأحياناً لا.ويخضع جميع المرشحين على المستوى الوطني لعملية فحص صارمة من قبل مانحين أثرياء قبل تقديمهم للجمهور. وعادة ما يقترب المرشحون للرئاسة من نخب الأعمال لقياس دعمهم حتى قبل الإعلان عن ترشيحاتهم. وبمجرد انتخاب المرشح، سيتم سداد التبرعات السابقة من خلال التشاور الوثيق مع جماعات الضغط التجارية، ومن خلال تعيين موظفين ودودين للعمل، ومستشارين، ومنظمين، وقضاة. وتساعد العلاقة في تحديد التشريعات التي يتم تقديمها، والسياسات المستبعدة من الاعتبار، كيفية تنفيذ القوانين الحالية. ويواصل كلا الجانبين تنمية هذه العلاقة على المدى الطويل. ومع ذلك، فإن المانحين هم الأكثر قوة. إنهم في الأساس مستثمرون «يجعلون السياسيين يشبهون الأسهم إلى حد ما»، ويستثمرون في أولئك الذين يرجح أن يحققوا عائداً، أولئك الذين لديهم سجل حافل من التدابير المؤيدة للأعمال التجارية والتخلص من أولئك الذين ثبت أنهم مخيبون للآمال.
ويقول المؤلفون: «إذا خيب أحد السياسيين الظن، وفشلت الشركات في الحصول على كل ما تريده من الحكومة، فإن الجهات المانحة لديها الكثير من أسلحة الاضطراب الأخرى في ترسانتها. حيث تساعد تهديدات الإضرابات الرأسمالية، وإضرابات رأس المال الحقيقية في بعض الأحيان، على إبقاء السياسيين والمنظمين في صف واحد. وتستفيد الشركات أيضاً من نظام المحاكم بشكل كامل، وتنفق مبالغ هائلة على التقاضي لتحدي القوانين التي لا تحبها. ومن أجل تدبير جيد، غالباً ما تضغط الشركات على حلفائها في الكونجرس لقطع التمويل عن الوكالات التنظيمية، وبالتالي ضمان أن أهداف التقاضي التجاري ستكون ناقصة التمويل وغير مجهزة للدفاع عن أفعالهم ضد الشركات الكبيرة. وبهذه الطريقة، تصبح العديد من السياسات بؤرة حرب لا تنتهي أبداً إلى التنفيذ، والتي تستمر لفترة طويلة بعد أن يوقع الرئيس على قانون جديد، وحتى بعد فترة طويلة من تركه لمنصبه».
وتوضح المعركة حول إصلاح «وول ستريت» وقانون حماية المستهلك («دود-فرانك») عام 2010 كيف تعزز استراتيجيات الشركات المتنوعة بعضها بعضاً. أولاً، ضمنت مجموعة تبرعات حملة وول ستريت، والتحذيرات الرهيبة بشأن سحب الاستثمار في أعقاب انهيار عام 2008 أن أوباما عيّن منظمين ومستشارين صديقين للبنوك، وضمن أيضاً أن جماعات الضغط في «وول ستريت» سيكون لها وصول مباشر إلى المفاوضات بشأن الإصلاح. ونتيجة لذلك، كانت المسودات الأولية للتشريعات التي قدمتها الإدارة أقل راديكالية بكثير مما توقعه معظم الناس استناداً إلى خطاب أوباما في حملته الانتخابية عام 2008، بحسب المؤلفين.

لغز أوباما

هذا الكتاب (الصادر عن دار فيرسو للنشر باللغة الإنجليزية في يوليو/ تموز 2020 ضمن 224 صفحة)، هو نتاج أكثر من عقد من البحث والمناقشة. بدأت المحادثات لكتابته في أواخر عام 2009، مدفوعة بنمط ناشئ هو «لغز أوباما». وعلى الرغم من أن إدارة أوباما الجديدة قد تم انتخابها بتفويض قوي من أجل «التغيير الذي يمكننا أن نؤمن به»، وتمتعت بالسيطرة الواضحة على الكونجرس، إلا أنها لم تقدم إصلاحات تقدمية كبيرة. يقول المؤلفون: «بدأنا نرى هذا النمط على أنه انعكاس لسؤال نظري أكبر بكثير: ما هي عقبات التغيير السياسي التقدمي في مجتمعات العصر الحديث، وكيف يمكننا التغلب عليها؟ وتم تشكيل إجابتنا من خلال بحثنا والمناقشة المستمرة بين المؤلفين، مع مدخلات من دائرة كبيرة من الأصدقاء والزملاء».
كما يوحي مثال إصلاح «وول ستريت»، أن الشركات بشكل كامل استفادت من كل هذه الأدوات خلال إدارة أوباما. ولذلك خصص المؤلفون الكثير من تركيزهم في هذا الكتاب على رئاسة أوباما، ليس لأن أوباما كان أكثر خضوعاً للرأسماليين من الرؤساء الآخرين، بحسب رأيهم، ولكن لأنه كان هناك مثل هذا الانفصال الدراماتيكي بين وعود التقدم التي قدمها وسياساته الفعلية. ويذكرون: «كمرشح، تعهد بمواجهة شركات الوقود الأحفوري، وشركات التأمين الصحي، وبنوك وول ستريت، وغيرها من المصالح التجارية المفترسة. وفي جميع هذه المجالات، حظيت وعوده بتأييد ساحق بين الناخبين الديمقراطيين، كما كانت تحظى بشعبية لدى العديد من الناخبين الجمهوريين، والمستقلين. ومع ذلك، فإن إصلاحاته السياسية لم ترق إلى مستوى خطابه. كان المحير بشكل خاص هو حقيقة أن بعض الإصلاحات كانت في متناول اليد خلال عامين من سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس، أو يمكن تحقيقها باستخدام السلطات التنفيذية».

وعد أوباما لم يتحقق

تُظهر سنوات حكم أوباما كيف أنه على الرغم من الانتصار الانتخابي المدوي للرئيس، والتفويض العام القوي للتغيير، ظلت الشركات في دفة القيادة. على سبيل المثال، وعد أوباما بإصلاحات بيئية ملحة، ولا سيما لمنع تغير المناخ الكارثي.
وكان الجمهور داعماً. وفي عام 2008، فضل 78 في المئة معاهدة دولية للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وفضل 66 في المئة اللوائح الحكومية التي من شأنها إجبار المرافق على استخدام المزيد من مصادر الطاقة النظيفة. عند الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي في ذلك العام، توقع أوباما أن تكون رئاسته هي اللحظة التي بدأ فيها ارتفاع المحيطات في التباطؤ وبدأ كوكبنا بالتعافي. ومع ذلك، فإن الإصلاحات البيئية لإدارته توقفت كثيراً عما هو ضروري علمياً.

ترجمة: نضال إبراهيم

هل فازت الصين ؟

الصين وأمريكا قوتان عالميتان ومتنافستان، يتعامل كل منهما بحذر عبر المحيط الهادئ. يبدو أن التنافس الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين هو بينهما. ولكن هل يمكن تجنبه؟ وإذا حدث ذلك، فهل النتيجة محسومة؟ يتناول الدبلوماسي السنغافوري السابق كيشور محبوباني، بحكم علاقاته مع صانعي السياسات في بكين وواشنطن، خطوط الصدع العميقة في العلاقة الصينية الأمريكية. ويركّز على نقاط القوة والضعف، وانحرافات القوة.

 

يقول محبوباني في مقدمة العمل: «سوف تستمر المنافسة الجيوسياسية التي اندلعت بين أمريكا والصين لعقد أو عقدين قادمين. على الرغم من أن الرئيس دونالد ترامب أطلق الجولة الأولى في عام 2018، إلا أنه سيستمر».

 

شهد ترامب انقساماً في جميع سياساته، باستثناء واحدة منها وهي: حربه التجارية والتكنولوجية ضد الصين. في الواقع، لقد حصل على دعم قوي من الحزبين، وهناك إجماع قوي يتطور في المؤسسة السياسية الأمريكية الحاكمة وهو أن الصين تمثل تهديداً لأمريكا. قال الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة،«من المحتمل أن تشكل الصين أكبر تهديد لأمتنا بحلول عام 2025».

 

يزعم ملخص استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية لعام 2018 أن الصين وروسيا «قوتان تسعيان إلى تشكيل عالم يتماشى مع نموذجهما الاستبدادي الذي يكتسب سلطة الفيتو على القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية الأخرى للدول». وقال كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، «أحد الأشياء التي نحاول القيام بها هو النظر إلى التهديد الصيني على أنه ليس مجرد تهديد كامل للحكومة، بل تهديد كامل للمجتمع… وأنا أعتقد أن الأمر سيتطلب استجابة المجتمع بأسره من قبلنا».

 

ويجد الكاتب أنه على الرغم من أن المؤسسة الأمريكية الحاكمة، إلى حد كبير، دعمت ترامب بحماسة كبيرة، إلا أنه من المستغرب أن أحداً لم يشر إلى أن أمريكا ترتكب خطأً استراتيجياً كبيراً من خلال إطلاق هذا الصراع مع الصين من دون تطوير استراتيجية شاملة وعالمية أولاً للتعامل مع الصين.

 

حديث مع كيسنجر

 

يتحدث المؤلف عن لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر قائلاً: «الرجل الذي نبهني إلى ذلك كان أحد أعظم المفكرين الاستراتيجيين في أمريكا، الدكتور هنري كيسنجر. ما زلت أتذكر بوضوح تناولي معه الغداء في غرفة خاصة في مقره وسط مانهاتن في منتصف مارس(آذار) 2018. في يوم الغداء، كنت أخشى أن يتم إلغاؤه كما كان متوقعاً بسبب حدوث عاصفة ثلجية. على الرغم من التحذير من الطقس، حظينا بوقت رائع على مدى ساعتين. لكي نكون منصفين، لم يقل بالضبط أن أمريكا تفتقر إلى استراتيجية طويلة المدى تجاه الصين، ولكن هذه كانت الرسالة التي نقلها خلال الغداء. هذه أيضاً الرسالة الأساسية في كتابه عن الصين. على النقيض من ذلك» فكرت أمريكا بجد وعمق قبل أن تنغمس في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.

 

مدير تخطيط السياسة في وزارة الخارجية من سبتمبر(أيلول) 2018 إلى أغسطس (آب) 2019 كانت البروفيسورة كيرون سكينر من جامعة كارنيجي ميلون. في حلقة نقاش عام في 29 إبريل (نيسان) 2019، كشفت أنه استجابة لصعود الصين، كانوا يحاولون وضع استراتيجية شاملة تتناسب مع تلك التي حددها سلفها كينان.

 

يقول الكاتب: «عندما خدمت في وزارة الخارجية السنغافورية، تم تكليفي بكتابة أوراق استراتيجية طويلة المدى لحكومة سنغافورة. كان الدرس الكبير الذي تعلمته من القادة الاستثنائيين الثلاثة في الجيوسياسية في سنغافورة (لي كوان يو، جوه كينغ سوي، سيناثامبي راجاراتنام) هو أن الخطوة الأولى لصياغة أي استراتيجية طويلة الأجل هي وضع إطار للإجابات الصحيحة. إذا أخطأ المرء، فستكون الإجابات خاطئة. الأهم من ذلك، كما علمني راجاراتنام، في صياغة مثل هذه الأسئلة، يجب على المرء دائماً التفكير في ما لا يمكن تصوره. وبروح التفكير هذه التي لا يمكن التفكير فيها، يقترح عشر نقاط تثير أسئلة يجب على موظفي تخطيط السياسة معالجتها:

 

عشرة دروس

 

1- رغم أنها كانت تشكل 4 في المئة من نسبة سكان العالم، حصة أمريكا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كانت تقارب 50 في المئة في نهاية الحرب العالمية الثانية. طوال الحرب الباردة، لم يقترب الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد السوفييتي من هذا الحجم أبداً، حيث وصل إلى 40 في المئة فقط من الناتج الأمريكي في ذروته. هل يمكن أن يصبح الناتج المحلي الإجمالي لأمريكا أصغر من الصين في الثلاثين سنة القادمة؟

 

2- هل يجب أن يكون الهدف الأساسي لأمريكا تحسين معيشة مواطنيها أم الحفاظ على مكانتها في النظام الدولي؟ إذا كانت هناك تناقضات بين أهداف الحفاظ على الصدارة وتحسين الرفاهية، فما هي الأولوية؟

 

3- في الحرب الباردة، أثبتت نفقات الدفاع الأمريكية الضخمة أنها حكيمة، لأنها أجبرت الاتحاد السوفييتي، وهو بلد ذو اقتصاد أصغر، على مطابقة النفقات العسكرية الأمريكية. في النهاية، ساعد هذا على إفلاس الاتحاد السوفييتي. تعلمت الصين درساً من انهيار الاتحاد السوفييتي، فهي تحد من نفقاتها الدفاعية مع التركيز على التنمية الاقتصادية. هل من الحكمة أن تواصل أمريكا الاستثمار بكثافة في ميزانيتها الدفاعية؟ أم يجب أن تخفض نفقاتها الدفاعية وتورطها في الحروب الخارجية الباهظة الثمن؟

 

4- أمريكا لم تكسب الحرب الباردة بمفردها. شكلت تحالفات قوية مع شركائها الغربيين في حلف شمال الأطلسي وأقامت علاقات صداقة وتحالفات في العالم الثالث، مثل الصين وباكستان وإندونيسيا ومصر. للحفاظ على هذه التحالفات الوثيقة، أبقت أمريكا اقتصادها مفتوحاً لحلفائها ووسعت مساعداتها بسخاء. وفوق كل شيء، كانت أمريكا معروفة بروح الكرم في الحرب الباردة. أعلنت إدارة ترامب عن سياسة»أمريكا أولاً«، وهددت بفرض الرسوم الجمركية على الحلفاء الرئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي واليابان وأصدقاء العالم الثالث مثل الهند. هل تستطيع أمريكا أن تبني تحالفاً عالمياً قوياً لموازنة الصين إذا كانت تجعل أيضاً حلفاءها الرئيسيين ينفرون منها؟ هل كان قرار أمريكا بالانسحاب من الشراكة عبر المحيط الهادئ هدية جيوسياسية للصين؟ هل شنت الصين بالفعل ضربة استباقية ضد سياسة الاحتواء من خلال الانخراط في شراكات اقتصادية جديدة مع جيرانها من خلال مبادرة (حزام واحد طريق واحد)؟

 

سلاح الدولار

 

5- إن أقوى سلاح يمكن أن تستخدمه أمريكا لجعل حلفائها وخصومها متماشين مع رغباتها ليس الجيش الأمريكي بل الدولار الأمريكي. أصبح الدولار الأمريكي لا غنى عنه تقريباً في التجارة العالمية والمعاملات المالية. وفي هذا الصدد، فهو بمثابة خدمة عامة عالمية تخدم الاقتصاد العالمي المتدهور. بما أن البنوك والمؤسسات الأجنبية لا تستطيع تجنب استخدامه. تمكنت أمريكا من الانخراط في تطبيق قوانينها المحلية خارج الحدود الإقليمية وفرض غرامات باهظة على البنوك الأجنبية بسبب انتهاك قوانينها المحلية بشأن التجارة مع إيران والدول الأخرى الخاضعة للعقوبات. في ظل إدارة ترامب، تحولت أمريكا من فرض عقوبات متعددة الأطراف إلى عقوبات أحادية وسحبت الدولار لاستخدامه ضد خصومها. هل من الحكمة استخدام منفعة عامة عالمية لأغراض فردية؟ في الوقت الحالي، لا توجد بدائل عملية للدولار الأمريكي. هل سيكون هذا هو الحال دائماً؟ هل هذا هو كعب أخيل للاقتصاد الأمريكي الذي يمكن للصين اختراقه وإضعافه؟

 

6- في تطوير استراتيجية ضد الاتحاد السوفييتي، شدد كينان على أنه من الضروري للأمريكيين أن يخلقوا بين شعوب العالم عموماً انطباعاً عن دولة ناجحة محلياً، وتتمتع «بحيوية روحية». ووصف البروفيسور جوزيف ناي ذلك بالقوة الأمريكية الناعمة. من الستينات إلى الثمانينات، صعدت القوة الأمريكية الناعمة. منذ الحادي عشر من سبتمبر(أيلول)، انتهكت أمريكا القانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان (وأصبحت أول دولة غربية تعيد إنتاج التعذيب). تراجعت القوة الأمريكية الناعمة بشكل كبير، خاصة في ظل ترامب. هل الشعب الأمريكي مستعد لتقديم التضحيات اللازمة لتعزيز القوة الأمريكية الناعمة؟ هل يمكن لأمريكا أن تكسب المعركة الأيديولوجية ضد الصين إذا كانت تعتبر أمة «طبيعية» وليست «استثنائية».

 

7- قال الجنرال إتش.ر.ماكماستر، مستشار الأمن القومي للرئيس ترامب في الفترة من 2017 إلى 2018، إن الصراع بين أمريكا والصين مثل في نهاية المطاف الصراع بين«مجتمعات حرة ومفتوحة وأنظمة استبدادية منغلقة». إذا كان هذا التصريح صحيحاً، ينبغي أن تشعر جميع المجتمعات الحرة والمفتوحة بالتهديد على قدم المساواة من ناحية الحزب الشيوعي الصيني. من بين أكبر ثلاث ديمقراطيات في العالم، هناك دولتان آسيويتان: الهند وإندونيسيا. لا تشير أي من الديموقراطية الهندية أو الإندونيسية بأي شكل من أشكال إلى التهديد من الأيديولوجية الصينية. ولا تشعر معظم الديمقراطيات الأوروبية بالتهديد. على عكس الاتحاد السوفييتي، لا تحاول الصين تحدي أو تهدد الأيديولوجية الأمريكية. من خلال التعامل مع تحدي الصين الجديد على أنه يشبه الاستراتيجية السوفييتية القديمة، ترتكب أمريكا الخطأ الاستراتيجي الكلاسيكي المتمثل في خوض حرب الغد باستراتيجيات الأمس. هل المفكرون الاستراتيجيون الأمريكيون قادرون على تطوير أطر تحليلية جديدة لاستيعاب جوهر المنافسة مع الصين؟

 

8- في أي منافسة جيوسياسية كبرى، ترجّح الكفة دائماً لصالح الطرف الذي يمكن أن يبقى عقلانياً وبارداً أكثر من الطرف الذي تحركه العواطف الواعية أو غير الواعية. وكما لاحظ كينان بحكمة، فإن»النزق وعدم القدرة على ضبط النفس«علامة ضعف. لكن هل ردود أمريكا على الصين مدفوعة بالعقل أم مدفوعة بالعواطف الباطنية؟ الروح الغربية اختبرت خوفاً عميقاً وغير واع لفترة طويلة من الخطر الأصفر. أشارت كيرون سكينر إلى أن «المنافسة مع الصين كانت مع قوة غير قوقازية». وبذلك وضعت إصبعها على ما يدفع ردود الفعل العاطفية تجاه الصين. في البيئة الصحيحة سياسياً لواشنطن العاصمة، هل من الممكن لأي مفكر استراتيجي أن يقترح مثل هذه النقطة غير الصحيحة سياسياً ولكنها صادقة من دون انحراف سياسي؟

 

الانتصار والهزيمة

 

9- قال سون تزو، أحد أعظم أساتذة الصين الاستراتيجيين، ذات مرة: «إذا كنت تعرف العدو وتعرف نفسك، ليس هناك من داع للخوف من خوض مئة معركة. إذا كنت تعرف نفسك ولكن لا تعرف العدو، ففي كل انتصار تحصل عليه ستعاني من هزيمة أيضاً. إذا كنت لا تعرف العدو ولا نفسك، سوف تستسلم في كل معركة».

 

هل تعرف أمريكا منافستها الصينية؟ على سبيل المثال، هل ترتكب أمريكا خطأ جوهرياً في الإدراك عندما تنظر إلى الحزب الشيوعي الصيني على أنه متعمق في جذوره الشيوعية. في نظر العديد من المراقبين الآسيويين الموضوعيين، يعمل الحزب الشيوعي الصيني في الواقع بمثابة «حزب الحضارة الصينية».. إن أهم مهمة للمفكر الاستراتيجي هي محاولة الدخول في ذهن الخصم. إذاً هذا اختبار: ما هي النسبة المئوية المشغولة لذهن زعيم صيني بالإيديولوجية الماركسية اللينينية وما هي النسبة المئوية للتاريخ الغني للحضارة الصينية في ذهنه؟

 

10- أكد هنري كيسنجر في كتابه عن الصين: أن الاستراتيجية الصينية تسترشد باللعبة الصينية»وي كي«وليس الشطرنج الغربي. في الشطرنج الغربي، ينصب التركيز على إيجاد أسرع طريقة للقبض على الملك. في «وكي كي»، الهدف هو بناء الأصول ببطء وبصبر لإثبات توازن اللعبة لصالح المرء. وينصب التركيز على استراتيجية طويلة الأمد، وليس تحقيق مكاسب قصيرة المدى.

 

إذن، هل تحصل الصين ببطء وبصبر على الأصول التي تحول اللعبة تدريجياً لصالح الصين؟ ومن المثير للاهتمام، أن أمريكا بذلت جهدين رئيسيين لإحباط تحركين طويلي الأجل من قبل الصين للحصول على ميزة. كلاهما فشل. الأول هو محاولة إدارة أوباما منع حلفائها من الانضمام إلى بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية الذي بدأته الصين في 2014-2015، والثاني هو جهد إدارة ترامب لمنع حلفائها من المشاركة في إعداد مبادرة طريق واحد حزام واحد» الذي بدأته الصين. هل تضع أمريكا ما يكفي من الوارد جانباً للمنافسة طويلة الأجل؟ هل يمتلك المجتمع الأمريكي القوة والقدرة على التحمل لمواجهة لعبة الصين على المدى الطويل!

 

نقاش استراتيجي وأبعاد معقدة

 

يقدم المؤلف الأسئلة العشرة في هذا العمل لأجل تحفيز نقاش استراتيجي، والتفكير في ما لا يمكن تصوره، وتشريح وفهم الأبعاد المعقدة العديدة للصراع الجيوسياسي الأمريكي الصيني الذي سيتكشّف في العقد المقبل. يقول في الختام: «أحد الأسئلة الأساسية التي يجب على أي مفكر استراتيجي أمريكي أن يطرحها قبل الانخراط في منافسة جيوسياسية كبيرة هو السؤال الذي يتناسب مع حجم المخاطرة. باختصار، هل يمكن أن تخسر أمريكا؟»

ترجمة: نضال إبراهيم

أخلاقيات اللاعنف وقوتها

 

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

مع تزايد العنف بكل أشكاله في العالم، بسبب الصراعات، تتناول الأمريكية جوديث بتلر، معنى وأخلاقيات اللاعنف في الوقت الراهن، وعلاقته بالعنصرية الممنهجة وغيرها من الهياكل الاجتماعية القمعية في مجموعة من المقالات الجريئة. تقف في نقاشها عند آراء العديد من المفكرين والسياسيين بشأن تعريف واضح للعنف واللاعنف، تجنباً لاستغلال بعض المفاهيم لقمع المعارضات السياسية السلمية.

يوضح كتاب جوديث بتلر، كيف يجب أن ترتبط أخلاقيات اللاعنف بنضال سياسي أوسع نطاقاً من أجل المساواة الاجتماعية. علاوة على ذلك، تجادل بأن اللاعنف غالباً ما يساء فهمه على أنه ممارسة سلبية تنبثق عن منطقة هادئة في الروح، أو كعلاقة أخلاقية فردية مع أشكال السلطة الموجودة. لكن، في الواقع، اللاعنف هو موقف أخلاقي موجود في خضم المجال السياسي كما تقول، مضيفة: «تشير إحدى التحديات المعاصرة لسياسة اللاعنف إلى وجود اختلاف في الرأي حول ما يعتبر ضمن العنف واللاعنف».

تفسيرات ودلالات متضاربة

إن اعتبار اللاعنف كمشكلة أخلاقية في فلسفة سياسية ما يتطلب نقداً للفردانية، إضافة إلى فهم الأبعاد النفسية الاجتماعية للعنف بحسب الكاتبة التي تعتمد في تحليلها على كتابات ميشيل فوكو، فرانز فانون، وسيمغوند فرويد، ووالتر بنيامين. ومن خلال النظر في كيفية إفادة «الأوهام العرقية» في تبرير العنف الحكومي والإداري، تتتبع بتلر كيفية نسب العنف غالباً إلى أولئك الذين يتعرضون بشدة لآثاره الفتاكة. معلقة: «نجد أن النضال من أجل اللاعنف في حركات التحول الاجتماعي تعيد صياغة التظلم في الحياة في ضوء المساواة الاجتماعية، وتنبثق مطالباتها الأخلاقية من نظرة ثاقبة بشأن ترابط الحياة كأساس للمساواة الاجتماعية والسياسية».

تقول جوديث بتلر: «تواجه قضية اللاعنف استجابات متشككة من مختلف الأطياف السياسية. هناك من اليسار من يزعمون أن العنف وحده لديه القدرة على إحداث تحول اجتماعي واقتصادي جذري، وآخرون يدعون، بشكل متواضع أكثر، أن العنف يجب أن يظل أحد الأساليب المتاحة لنا لإحداث مثل هذا التغيير».

وترى أنه «يمكن للمرء أن يطرح حججاً لصالح اللاعنف أو، بدلاً من ذلك، استخداماً فعالاً أو استراتيجياً للعنف، لكن هذه الحجج لا يمكن إجراؤها علناً إلا إذا كان هناك اتفاق عام على ما يشكل العنف واللاعنف.. أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها أولئك الذين يؤيدون اللاعنف هو أن»العنف«و»اللاعنف«مصطلحان متنازع عليهما. على سبيل المثال، يصف بعض الأشخاص الألفاظ الجارحة بأنها»عنف«، بينما يدعي البعض الآخر أن اللغة، باستثناء حالة التهديدات الصريحة، لا يمكن وصفها»بالعنف«بشكل صحيح. ومع ذلك، يتمسك الآخرون بالآراء المقيدة للعنف، ويفهمون «الضربة» على أنها اللحظة المادية المحددة. يصر آخرون على أن الهياكل الاقتصادية والقانونية «عنيفة»، وأنها تعمل على الأجساد، حتى لو لم تتخذ دائماً شكل العنف الجسدي».

وتضيف: «في الواقع، يملك شكل الضربة بشكل ضمني بعض المناقشات الرئيسية حول العنف، مما يشير إلى أن العنف هو شيء يحدث بين طرفين في مواجهة ساخنة. ومن دون الخلاف على عنف الضربة الجسدية، يمكننا مع ذلك أن نصر على أن الهياكل أو الأنظمة الاجتماعية، بما في ذلك العنصرية الممنهجة، تكون عنيفة. في الواقع، أحياناً يكون الضرب الجسدي على الرأس أو الجسد تعبيراً عن العنف المنهجي، وعند هذه النقطة يجب أن يكون المرء قادراً على فهم علاقة الفعل بالهيكل أو النظام. لفهم العنف الهيكلي أو الممنهج، يحتاج المرء إلى تجاوز الحسابات الإيجابية التي تحد من فهمنا لكيفية عمل العنف. ويحتاج المرء إلى إيجاد أطر أكثر شمولاً من تلك التي تعتمد على شكلين، أحدهما مذهل والآخر يعاني خللاً ما».

تبريرات العنف السياسي

في النقاشات العامة، تقول الكاتبة نرى أن «العنف» مألوف، ودلالاته مناسبة بطرق تدعو إلى التنازع عليها. أحياناً ما تطلق الدول والمؤسسات صفة «عنيفة» على عدد من التعبيرات عن المعارضة السياسية، أو المجموعات المعارضة لسياسات رسمية معينة أو قيادات الإضرابات، حتى عندما لا تسعى إلى القتال المادي، أو إلى أشكال العنف الممنهج أو الهيكلي. عندما تفعل الدول أو المؤسسات الحاكمة ذلك، فإنها تسعى إلى إعادة تسمية الممارسات اللاعنفية على أنها عنيفة، وتدير حرباً سياسية، كما كانت، على مستوى الدلالات العامة.

ترى الكاتبة أن السلطة السياسية التي تسيء استخدام اللغة في مسألة وصف حركات تطالب بحرية التعبير مثلاً، تسعى إلى ضمان احتكارها للعنف من خلال إفساد المعارضة، وتبرير استخدام العنف من قبل الشرطة أو الجيش أو قوات الأمن ضد أولئك الذين يسعون إلى ممارسة الحرية والدفاع عنها بهذه الطريقة، وتقول: «ناقش الباحث في الدراسات الأمريكية تشاندان ريدي بأن الشكل الذي اتخذته الحداثة الليبرالية في الولايات المتحدة يفترض أن الدولة ضامن للحريات، وبالتالي عدم توجيه العنف ضد الأقليات العرقية، وضد جميع الشعوب التي توصف بأنها غير عقلانية وخارج المعيار القومي.. الدولة، في رأيه، تقوم على العنف العنصري وتستمر في إلحاق العنف بالأقليات بطرق منهجية. وبالتالي، يُفهم أن العنف العنصري يخدم الدفاع عن النفس بالنسبة للدولة. كم مرة في الولايات المتحدة تم اعتبار السود والملونين، سواء كانوا في الشارع أو في منازلهم»عنيفين«من قبل الشرطة التي تعتقلهم أو تطلق النار عليهم، حتى عندما يكونون غير مسلحين، وحتى عندما يمشون أو يهربون، أو عندما يحاولون تقديم شكوى بأنفسهم؟» من الغريب والمرعب أن نرى كيف يعمل الدفاع عن العنف في ظل هذه الظروف، بحسب بتلر، «لأن الهدف يجب أن يُنظر إليه على أنه تهديد، أو سفينة من العنف الحقيقي أو الفعلي، لكي تظهر إجراءات الشرطة المميتة كدفاع عن النفس».

تهديد فوضوي

عندما تجتمع مجموعة لمعارضة الرقابة أو الافتقار إلى الحريات الديمقراطية، وتسمى «الغوغاء»، أو تُفهم على أنها تهديد فوضوي أو مدمر للنظام الاجتماعي، عندئذٍ تتم تسمية المجموعة وتصنيفها على أنها عنيفة بشكل فعلي أو محتمل، وعندها يمكن للدولة تقديم مبرر للدفاع عن المجتمع ضد هذا التهديد العنيف بحسب بتلر. وتقول: «عندما تكون العواقب السجن أو الإصابة أو القتل، يظهر العنف في المشهد على أنه عنف من الدولة. مثلاً، تم اعتبار تظاهرة سلمية في متنزه غيزي في إسطنبول في عام 2013، أو الرسالة الداعية إلى السلام التي وقع عليها العديد من الأكاديميين الأتراك في عام 2016، على أنها»عنيفة«، وهذا التوصيف لا يتم إلا إذا كانت الدولة تملك وسائل إعلام خاصة بها أو تمارس هيمنة كافية على وسائل الإعلام. في ظل هذه الظروف، يُطلق على ممارسة الحق في التجمع مظهراً من مظاهر»الإرهاب«، والذي بدوره يستدعي رقابة الدولة، والضرب برش المياه من قبل الشرطة، والتوقيف عن العمل، والاحتجاز لأجل غير مسمى، والسجن، والنفي. إن تحديد العنف بطريقة واضحة ينبغي أن يحظى بتوافق الآراء، وهذا يثبت أنه من المستحيل القيام به في موقف سياسي؛ حيث تصبح سلطة نسب العنف إلى المعارضة نفسها أداة يمكن من خلالها تعزيز سلطة الدولة، لتشويه سمعة أهداف المعارضة، أو حتى لتبرير حرمانهم الراديكالي، وسجنهم وقتلهم».

وتضيف: «ولكن كيف يتم ذلك في المجال العام؛ حيث تم زرع الارتباك الدلالي حول ما هو عنيف وما هو غير عنيف؟ هل بقينا مع مجموعة مربكة من الآراء حول العنف واللاعنف، وأجبرنا على الاعتراف بالنسبية العامة؟ أو هل يمكننا أن ننشئ طريقة للتمييز بين الإسناد التكتيكي للعنف الذي يزيّف ويقلب اتجاهه، وأشكال العنف تلك، التي غالباً ما تكون هيكلية وممنهجة، التي غالباً ما تتهرب من التسمية المباشرة والقلق؟ إذا رغب المرء في تقديم حجة لصالح اللاعنف، فسيكون من الضروري فهم وتقييم الطرق التي يتم بها تمييز العنف وإسناده في مجال السلطة الاستطرادية والاجتماعية وسلطة الدولة؛ والطابع الخيالي للإسناد نفسه. علاوة على ذلك، سيتعين علينا القيام بنقد السياسات التي تبرر عنف الدولة من خلالها، وعلاقة تلك السياسات التبريرية بالجهود المبذولة للحفاظ على احتكارها للعنف. يعتمد ذلك الاحتكار على ممارسة التسمية».

«يتطلب الجدل لصالح أو ضد اللاعنف تأسيس الفاصل أو الفرق بين العنف واللاعنف، إذا استطعنا. ولكن لا توجد طريقة سريعة للتوصل إلى تمييز دلالي ثابت بين الاثنين عندما يتم استغلال هذا التمييز في كثير من الأحيان لأغراض إخفاء وتوسيع الأهداف والممارسات العنيفة. وبعبارة أخرى، لا يمكننا التسابق إلى الظاهرة نفسها دون المرور عبر المخططات المفاهيمية التي تتخلص من استخدام المصطلح في اتجاهات مختلفة، ودون تحليل لكيفية عمل هذه السلوكيات» بحسب بتلر.

أخلاقيات اللاعنف

جزء من مهمة هذا الكتاب، وفق بتلر، هو قبول صعوبة العثور على تعريف العنف وضمانه عندما يكون تحت تعريفات مفيدة تخدم المصالح السياسية وأحياناً عنف الدولة نفسها. تقول بتلر: «من وجهة نظري، فإن هذه الصعوبة لا تعني وجود نسبية فوضوية من شأنها أن تقوض مهمة التفكير النقدي من أجل فضح الاستخدام الفعال لهذا التمييز الزائف والضار. إذ يصل كل من العنف واللاعنف إلى ميادين الجدل الأخلاقي والتحليل السياسي الذي تم تفسيره في وقت سابق، والذي تم حله بواسطة استخدامات سابقة». وتضيف: «لا توجد طريقة لتجنب المطالبة بتفسير كل من العنف واللاعنف، وتقييم التمييز بينهما، إذا كنا نأمل في معارضة عنف الدولة والتأمل بعناية في تبرير التكتيكات العنيفة تجاه اليسار. بينما ندخل في الفلسفة الأخلاقية هنا، نجد أنفسنا في التيارات المتقاطعة؛ حيث تلتقي الفلسفة الأخلاقية والسياسية، مع عواقب تتناول عمل السياسة، ويسعى العالم إلى المساعدة في تحقيق هذا العمل. تبدأ إحدى الحجج الأكثر شعبية في اليسار للدفاع عن الاستخدام التكتيكي للعنف، بالادعاء بأن العديد من الناس يعيشون بالفعل في مجال القوة للعنف. لأن العنف يحدث بالفعل، وفق هذه الحجة، وليس هناك خيار حقيقي حول ما إذا كان يجب الدخول في العنف من خلال العمل: نحن في السابق داخل مجال العنف».

«النضال العنيف»

وتذكر الكاتبة: «بصرف النظر عن ادعاء اليسار العام والتقليدي حول ضرورة «النضال العنيف» لأغراض ثورية، هناك استراتيجيات تبريرية أكثر تحديداً في العمل مثل: يحدث العنف ضدنا، لذلك لدينا مبرر في اتخاذ إجراءات عنيفة ضد أولئك الذين بدؤوا العنف ضدنا. نفعل ذلك باسم حياتنا وحقنا في المثابرة في العالم. أما بالنسبة للادعاء بأن مقاومة العنف هي عنف مضاد، فربما ما زلنا نطرح مجموعة من الأسئلة: حتى لو كان العنف منتشراً طوال الوقت ووجدنا أنفسنا في مجال قوي للعنف، فهل نريد أن نقول ما إذا كان العنف مستمراً في الانتشار؟ إذا كان يعمم طوال الوقت، فهل من المحتم أن يتم تعميمه؟ ماذا يعني الطعن في حتمية تعميمه؟ قد تكون الحجة، «الآخرون يفعلون ذلك ضدنا، وكذلك يجب علينا أن نفعلها ضدهم، باسم الحفاظ على الذات».

لا يمكن أن تستند أخلاق اللاعنف إلى الفردية بحسب الكاتبة، ويجب أن تأخذ زمام المبادرة في شن نقد على الفردية كأساس للأخلاق والسياسة على حد سواء. يجب على أخلاق وسياسة اللاعنف أن تفسر بهذه الطريقة أننا نشترك في حياة بعضنا البعض، ونحن ملزمون بمجموعة من العلاقات التي يمكن أن تكون مدمرة بقدر ما يمكن أن تكون مستمرة وجميلة. إن العلاقات التي تربط وتعرّف، تتجاوز المواجهة البشرية الثنائية، وهذا هو السبب في أن اللاعنف لا يتعلق فقط بالعلاقات الإنسانية؛ بل بجميع العلاقات الحية والمتداخلة.

نبذة عن الكاتبة:

* جوديث بتلر (مواليد. 24 فبراير 1956) فيلسوفة أمريكية لها إسهامات في مجالات الفلسفة النسوية، والفلسفة السياسية، والأخلاق. وهي أستاذة ماكسين إليوت للأدب المقارن والنظرية النقدية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وتتولى كرسي هانا أرندت في كلية الدراسات العليا الأوروبية. وهي مؤلفة لعدد من الكتب منها: «مشكلة النوع الاجتماعي»؛ «حياة غير مستقرة»، و«أطر الحرب». كما يعرف عنها سياسياً تأييدها لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على «إسرائيل».

الدبلوماسية الآسيوية من التاريخ القديم إلى الحاضر

 

 

 

كانت الصين، لعدة قرون، واثقة من دورها باعتبارها القوة الثقافية والاقتصادية والسياسية الأكبر بلا منازع في آسيا. اليوم، مع عودة الصين مرة أخرى كلاعب بارز على الساحة العالمية، تواجه البلدان في جميع أنحاء القارة مستقبلاً غامضاً. يعالج هذا الكتاب أسئلة مثل: هل نهضة الصين تهدّد جيرانها؟ وما هو هدفها النهائي وحدود طموحاتها؟ وهل يمكن للعالم أن يضع ثقته بالصين؟

أي أسئلة عن الصين تكون أكثر إلحاحاً في منطقة المحيط الهادئ بالدرجة الأولى، حيث يجد جيرانها البحريون أنفسهم مباشرة على طريق مطالبات صينية إقليمية توسعية. في هذا العمل التاريخي الغني، يجد مايكل تاي إجابات على هذه الأسئلة وغيرها من خلال استكشاف متعمق لماضي الصين.

على امتداد آلاف السنين من التاريخ الصيني والآسيوي، تنظر الصين وجيرانها إلى علاقات الصين المتطورة مع اليابان وفيتنام

والفلبين وماليزيا. في الوقت الذي استقطبت فيه النزاعات في المحيط الهادئ اهتماماً واسع النطاق، فإن القليل من التحقيقات نظرت في السياق التاريخي الأوسع لهذه التوترات.

يأتي الكتاب في ثمانية أقسام هي: 1) مقدمة: هل يمكن للعالم أن يثق في الصين؟ 2) الصين واليابان. 3) مملكة ريوكيو. 4) فيتنام. 5) الفلبين. 6) ماليزيا. 7) النزاعات الإقليمية. 8) الصين والنظام العالمي.

وهو صادر عن دار «زيد بوكس» البريطانية باللغة الإنجليزية ضمن 216 صفحة من القطع المتوسط في أكتوبر 2019.

عودة الصين

أثارت عودة الصين كاقتصاد رائد جدلاً حاداً حول دورها في العالم. هناك بعض المخاوف والقلق في بعض الأوساط حول نهوضها وما يمكن أن يعنيه ذلك للنظام الدولي. هل الصين صاحبة مصلحة تتمتع بروح المسؤولية؟ هل ستعزز السلام والازدهار أم تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الآخرين؟ هل هي دولة عملاقة خيّرة أو مثيرة للشغب؟ تواجه الإنسانية خطر الأزمة المالية والاحتباس الحراري والحرب الكارثية التي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال التعاون الدولي.

يتطلب التعاون الثقة، ولكن بأي شروط يمكن الوثوق بالصين؟

يقول المؤلف: «يعد تاريخ العلاقات الثنائية عاملاً مهماً للثقة بين الدول. التاريخ هو الذاكرة. إنه سجل للأحداث والسلوك السابق، فضلاً عن أن العلاقات التعاونية السابقة تبني الثقة، بينما يدمرها تاريخ من العدوان والخيانة. التعاطف عامل مهم بنفس القدر. إنها القدرة على وضع الذات في قوالب الآخرين لرؤية الأشياء من منظورهم. على الأرجح أن نثق في أولئك الذين يظهرون أنهم يفهموننا خاصة عندما يتضح ذلك من خلال الأفعال. يمتلك التعاطف القدرة على بناء الثقة حتى لو لم يكن هناك شيء، ولكنه يتطلب فهم تاريخ وثقافة الآخر».

ويضيف: «لكن الآراء الحالية حول الصين تتأثر بالتحيزات الثقافية والأيديولوجية المتجذرة بعمق. صاغ عالم الاجتماع الفرنسي-الروسي جاك نوفيكوف في القرن التاسع عشر مصطلح»الخطر الأصفر» ليجسد التصور النفسي والثقافي للتهديد القادم من الشرق. لقد عبّرت هذه الجملة عن خوف غامض وكبير من حشود كبيرة من الأشخاص الصفر في وجه العالم الغربي، واستحضرها القيصر فيلهلم الثاني من ألمانيا لحث الإمبراطوريات الأوروبية على غزو الصين وقهرها واستعمارها. كيف نفهم أنفسنا والعالم الذي يهمنا وفق حدسنا الذي يشكل مخاوفنا وانطباعاتنا وعلاقاتنا؟»

كما يشير إلى أنه «في كتابه الصادر في الستينات من القرن الماضي، اعترف عالم الجينات ريمون داوسون بأن الصين، بالنسبة للكثيرين في الغرب، ترتبط بشكل أساسي بأمور مثل أسلاك التوصيل المصنوعة، والعينين المائلتين، والفوانيس، والمغاسل، واللغة الإنجليزية الركيكة، وعيدان الطهي، وغيرها. على الرغم من أن المفاهيم الغريبة للحضارة الغريبة تم تحديثها منذ ذلك الحين عبر التجارة المتنامية والسفر، إلا أن العديد من الصور النمطية العنصرية والسياسية ما زالت قائمة. حذر جون ك. فيربانك في وقت سابق من أن المجتمع الصيني مختلف تماماً عن المجتمع الأمريكي، وأن صناع السياسة الأمريكيين سيفشلون ما لم يأخذوا الفرق في الاعتبار».

سوء التقدير السياسي

يتناول الكاتب في عمله سوء التقدير أو الفهم الذي يحصل أثناء الحروب أو المعارك السياسية مع الخصوم، ويقول في هذا السياق: «ما أخطأنا فيه كان سوء الفهم الأساسي أو سوء التقييم للتهديد على أمننا القومي المتمثل في الفيتناميين الشماليين. فقد قاد الرئيس آيزنهاور في عام 1954 ليقول إنه لو خسر فيتنام، أو إذا خسر لاوس وفيتنام، فسوف تسقط أحجار الدومينو.

أنا متأكد من أننا بالغنا في التهديد. لم نعرف معارضتنا. لم نفهم الصينيين. لم نفهم الفيتناميين، خاصة الفيتناميين الشماليين. لذلك فإن الدرس الأول هو معرفة خصومك. أريد أن أوضّح أننا لا نعرف خصومنا المحتملين اليوم».

يجد المؤلف أنه من الخطأ صياغة وتكوين آراء حول أمة دون الرجوع إلى تاريخها، وسيكون من الخطأ الجسيم دراسة الصين في فراغ تاريخي مع النظر إلى جمهورية الصين الشعبية في شكلها الراهن فقط.

ويعلق على ذلك: «الزعماء الصينيون متناغمون بشدة مع تاريخ بلادهم الطويل الذي لا يزال يؤثر في تشكيل تفكيرهم بطريقة قوية، في حين أن صانعي السياسة الغربيين ما زالوا يركزون بشكل ضيق على الصين المعاصرة مع إشارة البعض إليها باسم «الصين الشيوعية».

ويرى أنه «على الرغم من أن البلاد يحكمها الحزب الشيوعي، إلا أن أركان الشيوعية مثل ملكية الدولة لجميع الممتلكات، والاقتصاد المخطط مركزياً واحتكار السلطة السياسية من قبل الطبقة العاملة، قد أفسحت المجال طويلاً أمام الملكية الخاصة واقتصاد السوق والتمثيل السياسي الشامل، والآن يمثل الحزب مصلحة كل طبقة اجتماعية ويحسب أقطاب المال بين أعضائه. لم تكن الماركسية واللينينية غاية في حد ذاتها بل كانتا وسيلة لتحقيق الأهداف الأساسية لقادة الصين، وهي التحرر من الإمبريالية الأجنبية وتوحيد الأمة وخلق قوة سياسية فعالة وإقامة الاستقرار وبناء الرخاء والهيبة».

«من وجهة نظر بكين، هناك طرق أفضل لتحقيق الرفاه من خلال تبني سياسات غربية تسببت في الكثير من الضيق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في جميع أنحاء العالم. إن آسيا تمر بتغيير جذري، لكن لا يوجد نموذج مفاهيمي واحد يكفي لوصف النظام الآسيوي المتطور»، بحسب المؤلف.

ويقول: «يتزايد الترابط والتعاون بين الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية مع الصين بشكل متزايد في قلب هذا التطور، لكن لا توجد نظرية واقعية أو ليبرالية للعلاقات الدولية قادرة على التقاط تعقيدات المنطقة. بدلاً من ذلك، فإن فهماً أقوى لتاريخ المنطقة ضروري لإدراك هذا التحول».

خارج الدوائر الضيقة

غرض المؤلف من هذا الكتاب هو إلقاء الضوء على الثقافة السياسية والسياسة الخارجية للدولة الصينية من خلال دراسة تاريخ علاقاتها مع جيرانها. «مثلما نحكم على شخص من خلال أفعاله، كذلك يمكننا أن نفهم دولة من خلال تاريخها.

يرجع تاريخ علاقات الصين مع جيرانها البحريين إلى أكثر من ألفي عام، وهذا التاريخ يوفر مواد غنية تساعد على فهمها ومكانتها في العالم»، بحسب الكاتب.

ويجد أنه «خارج نطاق الدوائر المتخصصة الضيقة، مع ذلك، فإن تاريخ المنطقة غير معروف على نطاق واسع، حتى بين الآسيويين الشرقيين. يركز منهج المدارس الثانوية في كل بلد على تاريخه ولا يخصص سوى مساحة ضئيلة للتاريخ والجغرافيا الإقليمية. يتشكل الرأي العام من خلال التقارير الإخبارية التي تنقل وجهة نظر مجتزأة وغالباً ما تكون منحرفة. أي شخص أقل من 40 عاماً اليوم هو من مواليد ما بعد حرب فيتنام، ومن بين أولئك الذين يتذكرون الصراع. هؤلاء لا يعرفون سوى القليل عن سبب تدخل أمريكا أو ما كان يفعله الفرنسيون في الهند الصينية قبل ذلك».

يطرح الكتاب عدداً من الأسئلة منها: «كيف كانت علاقات الصين مع فيتنام في ذلك الوقت، وكيف كان رد الصينيين على التعدي الفرنسي هناك؟ لماذا غزت اليابان الصين في ثلاثينات القرن الماضي رغم أنها نظرت إلى هذه الأخيرة لعدة قرون باعتبارها ينبوع الحضارة؟ متى ولماذا هاجر الصينيون إلى جنوب شرق آسيا، وماذا واجهوا هناك؟ كيف استقبلهم السكان المحليون وحكامهم المستعمرون، وما هو الدور الذي تلعبه مجتمعات المهاجرين الصينيين اليوم في علاقات الصين مع دول جنوب شرق آسيا؟ وما هو تاريخ المطالب الإقليمية في بحر الصين الشرقي وشرق الصين؟»

ويشير إلى أن مسألة نهوض الصين جذبت الكثير من الاهتمام منذ إصلاحات عام 1978، وأصبحت بارزة بشكل خاص في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008. تنقل الخطابات الناتجة العديد من الرسائل المتضاربة حول الصين وطموحاتها.

العلاقة مع الخارج

يلقي هذا العمل نظرة جديدة على تطور التفكير الدبلوماسي والاستراتيجي الإقليمي للصين من خلال استخدام دراسات الحالة المتعلقة بالتاريخ البحري. يبدأ الكتاب باليابان ومملكة ريوكيو قبل الانتقال إلى فيتنام والفلبين وماليزيا. ونورد بعضاً مما يقوله المؤلف في القسم الثاني: «جاء المبعوثون اليابانيون بشكل متقطع. بعد أول مهمة في عام 57 ميلادي، لم يأت بعد ذلك مبعوثون لمدة خمسين سنة. بين القرنين الأول والتاسع، كانت هناك فترات نشطة وكذلك فترات سبات طويلة. لم يأت أي زائر خلال القرنين الثاني والثالث، ولكن كانت هناك أربع بعثات (238 و243 و245 و247) خلال فترة تسع سنوات.

توحي هذه الوتيرة المتقلبة من الزيارات أن اليابانيين وضعوا أجندتهم الخاصة. في القرن السابع، حدث تحول مهم؛ جاء خمسة سفراء يابانيين من عام 600 إلى 614، ولكن لم يطلب أي منهم ألقاباً صينية. فقدت الأوسمة – التي كانت تطمح إليها ذات مرة – قيمتها بعد أن حققت اليابان الوحدة السياسية، ولم تعد تتطلع إلى المؤسسات الصينية لإضفاء الشرعية. غالباً ما تسير المصالح المادية والثقافية في خط واحد، وخلال فترة حكم سلالتي سوي وتانغ، استخدم الدبلوماسيون اليابانيون مكاتبهم لشراء الأدوات الثمينة أثناء دراسة الثقافة والمؤسسات الصينية».

«بعد مضي ثلاثة وعشرين عاماً من أول مهمة (630) إلى بلاط تانغ، جاء سبعة مبعوثين من 653 إلى 701 للميلاد، وهي فترة مرت فيها العائلة الإمبراطورية اليابانية بستة أباطرة وإمبراطورة. في القرن الثامن، بلغ متوسط ​​البعثات واحداً كل عشر سنوات، وفي القرن التاسع، واحداً كل ثلاثين عاماً.

يعكس هذا التذبذب في الزيارات احتياجات اليابان وسيادتها ضمن نظام الجزية. وبالإضافة إلى الألقاب والسلع، سعى اليابانيون إلى الموهبة والتعلم والحرفية. في عام 284، سافر كبار المسؤولين إلى بيكجي (في كوريا)، تابعة للصين، لتوظيف الباحث وانغ رن لتعليم ولي عهدهم».

«بعث بيكجي بعلماء الكونفوشيوسية والمتخصصين في الطب، والعرافة، وعلم الفلك، والعلوم والموسيقى التقويمية لخدمة بلاط وا. قام سفراء وا بتوظيف الخياطات، النساجين، الدباغين والأطباء، في حين جاء الحدادون، الخزافون، النساجون، الرسامون، المترجمون الشفويون، مهندسو الري، مهندسو الأرصاد الجوية والنجارون من صفوف اللاجئين».

تأتي الفصول اللاحقة في هذا الكتاب أيضاً في هذا السياق التاريخي، مع التركيز على العلاقة الأمريكية الصينية، وكيفية فهم الصعود الصيني، وما يمكن أن يعني ذلك للعالم، وللدور الأمريكي فيه.

نبذة عن المؤلف

* مايكل تاي محاضر وباحث في مركز دراسات التنمية، كلية سانت إدموند، (كامبريدج). عمل سابقاً في الاستشارات وكذلك تدريس التمويل في الصين وقيرغيزستان وروسيا. كما أنه خبير في العلاقات الدولية للصين، وهو مساهم دائم في «ذا دبلومات»، وله عدد من المؤلفات من بينها: «العلاقات الأمريكية الصينية في القرن الحادي والعشرين» (2015).

 

 

كيف تَرسم الحدود الإقليمية والاجتماعية عالمنا؟

 

تأليف: ديدييه فاسين

 

مع الاستقطابات السياسية المتزايدة، خاصة من قبل اليمين في أوروبا، نجد أن الانقسامات تتوسّع يوماً بعد الآخر، ويتم الحديث عن ضرورة إغلاق الحدود في وجه اللاجئين، وممارسة المزيد من السياسات التي تظهر اختلافاتهم الاجتماعية والثقافية القائمة على اختلافهم العرقي. يحاول هذا الكتاب مناقشة هذه الحالة، من خلال مجموعة مقالات حول نماذج من خمس قارات، بغية التخفيف من الانقسامات في عالم اليوم.

أظهرت أزمة اللاجئين في أوروبا كيف يتم في كثير من الأحيان استخدام الحدود العرقية والإثنية لتبرير تعزيز حدود الدولة، بغض النظر عن الكلفة الباهظة في الأرواح البشرية. ولكن هناك أمثلة أخرى، أقل مأساوية، توضح هذا التداخل أيضاً، وتُظهر في نهاية المطاف أنه من الأفضل فهم مجالات الحدود المتباينة كثيراً من خلال علاقتها مع بعضها. يستكشف كتاب «تعميق الانقسامات» هذه العلاقة من خلال العديد من وجهات النظر والسياقات الوطنية المتميزة، حيث تغطي دراسات الحالة خمس قارات، وتستند إلى الأنثروبولوجيا والدراسات الجنسانية والقانون والعلوم السياسية وعلم الاجتماع للحصول على مجموعة متعددة التخصصات.

يتألف هذا الكتاب من مجموعة مهمة من المقالات التي توضح كيف أن التمييز العنصري والجنساني والطبقي أساسي في تبرير حق الدولة في استبعاد الأفراد. يتضمن الكتاب دراسات حالة من خمس قارات ومساهمات متعددة التخصصات، ويناقش فيها الهجرة والحقوق الإقليمية في القرن الحادي والعشرين.

يجمع الكتاب بين ظاهرتين متميزتين تتم مقاربتهما عادة في مسارات منفصلة من البحث: كيف تقوم أنظمة الهجرة بتقييد الحدود الإقليمية للدول، وكيف يؤدي التمييز بين مجموعات الأقليات والتمييز ضدها إلى إنشاء حدود اجتماعية داخل الدول؟ ويأتي هذا الكتاب كجزء من سلسلة الأنثروبولوجيا والثقافة والمجتمع ضمن منشورات دار «بلوتو بريس»، وهو صادر في ديسمبر 2019 ضمن 272 صفحة باللغة الإنجليزية.

تداخل الحدود

يقول الكاتب: «إن الأمثلة السابقة والحالية على تداخل الحدود كثيرة، بدءاً من قمع الرعايا المستعمرين الجزائريين في أوائل القرن العشرين إلى اضطهاد التيبتيين في الصين، والروهينجا في ميانمار، والأكراد في تركيا في الوقت الحالي».

ويضيف: «كما أن الوضع الحالي للفلسطينيين هو حالة معاصرة في هذا الصدد، مع ما نراه من تخفيض دائم لمساحة المعيشة في الأراضي المحتلة، من خلال توسيع المستوطنات، وتدمير الحقول، وبناء الجدران، وتزايد الحرمان من الحقوق المدنية لعرب 48 المقيمين منهم في«إسرائيل»، عن طريق التمييز الديني والعرقي، والذي يتم إدراجه بشكل متزايد في القانون».

يرى الكاتب أن «أزمة اللاجئين مؤخراً في أوروبا كشفت كيف أن السيطرة على الحدود بأي ثمن من حيث أرواح البشر (تم الإبلاغ عن أكثر من 15000 حالة وفاة في المتوسط بين عامي 2014 و2018) كانت مرتبطة بإعطاء الأولوية للاختلافات (الحدود) العنصرية والإثنية بدلاً من الحدود الوطنية، والتي عملت على تبرير السياسات».

ويعلق على ذلك: «لكن تاريخ الحدود المتداخلة (الوطنية) والحدود (الاختلافات العرقية) لحسن الحظ لا يتسم دائماً بصورة مأساوية، حتى لو كان لا يزال يمثل مشكلة كبيرة عندما يفكر المرء في كيفية تحرك سوق العمل والسياسات الإسكانية والمسائل القانونية، وحتى الرياضية».

احتجاج ضد التمييز

يقدم المؤلف العديد من الأمثلة، يبدأ من أوروبا قائلاً: «تتسم قضية شعوب الرّوما ( الغجر) في أوروبا بأهمية خاصة، على الرغم من أنهم مواطنون من رومانيا أو بلغاريا أو هنغاريا، أي ينتمون إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أنهم يعاملون كأجانب وحتى يتم ترحيلهم أيضاً.. يظهر هذا التداخل في الانتقال بين الأجيال اللاحقة من المهاجرين القادمين مما يسمّى الجنوب العالمي، حيث يعاني أطفالهم العرقيون أو الإثنيون المولودين في البلد المضيف، من جهة الدولة والمجتمع عموماً، الحدود التي يجدونها في وجوههم من خلال عدم الاعتراف بهم كمواطنين بشكل كامل أو، عندما تفعل الدول المضيفة ذلك، فلا يكون الأمر على قدم المساواة».

«ومن المثير للاهتمام، في جيل الآباء، كان هناك احتجاج قليل على التمييز الصارخ الذي وقعوا ضحية له، لأنهم، كأجانب، شعروا أنه ليس لديهم خيار آخر سوى أن يستسلموا لوضعهم غير الشرعي، بينما في جيل الأطفال، لم يعد هناك تسامح مع التمييز، لأن هؤلاء المواطنين الفرنسيين، مثلاً، الذين ولد أغلبهم في فرنسا، أصبح من غير المنصف معاملتهم على أنهم غير شرعيين»، كما يقول المؤلف.

ويجد أن «ربط الحدود الإقليمية الوطنية والحدود العرقية-الإثنية أمر حاسم لأسباب علمية (لفهم الانقسامات العميقة في المجتمعات المعاصرة) وكذلك السياسية (بسبب الشعور بالإلحاح الناتج عن الوضع الحالي). لكن في الواقع، هذا الاتصال أكثر تعقيداً مما هو مقترح في الكتاب. من ناحية، فإن الحدود الأكثر صلة ليست بالضرورة حدود الأراضي الوطنية. يمكن أن تكون الحدود دولية، كما كانت الحال مع الإمبراطورية البريطانية، وكما هي الحال مع الاتحاد الأوروبي اليوم، وخاصة في سياق تجسيد السيطرة على الهجرة خارج الحدود، في تركيا وليبيا، والمغرب. يمكن أن تكون أيضاً على المستوى الداخلي، كما هي الحال في أيرلندا أثناء ما يسمى بالمشكلات بين القوميين والنقابيين، أو برلين، مع تقسيم المدينة فعلياً إلى قسمين خلال الحرب الباردة بواسطة الجدار، حيث بقيت الآثار الرمزية لها لفترة طويلة بعد تدميره.

من ناحية أخرى، ليست الحدود هي في الصيغة الإثنية-العرقية فقط حتى لو كان هذا مكوناً رئيسياً من حدود الدول».

كما أنها (الحدود) تنطوي على الدين، كما يتضح من الأمثلة السابقة للولايات المتحدة وفرنسا، وكذلك الطبقة والجنس والميول الجنسية. يبدو أن الطبقة الاجتماعية عنصر مهم في التمييز بين المطلوبين وغير المرغوب فيهم، وكذلك في النقاش العام حول الهجرة الانتقائية من وجهة نظر المؤلف.

يلعب الجانب الاجتماعي دوراً أقل وضوحاً، ولكن ليس أقل أهمية في الشبكات العابرة للحدود الوطنية ومراقبة الحدود، بما في ذلك العمل في الجنس والعمالة المنزلية. كما يشير الكاتب إلى أنه تم تحليل الإعاقة كمصدر للتمييز على الحدود باسم ما يُنتقد ك «التحيّز ضد المعاقين». ولكن بدلاً من معاينة هذه الحدود بشكل فردي، من المنطقي أن يتم استيعابهم من منظور متعدد القطاعات يكشف التفاعلات بين الخصائص الإثنية أو العرقية، والدين، والطبقة، والجنس، والإعاقة.

بين السياسة والأخلاق

يتناول الجزء الأول من الكتاب، الاقتصاديات السياسية والأخلاقية في العمل في العلاقات بين الحدود على نطاق عالمي وداخل السياقات الوطنية. ويقول الكاتب هنا: «نعني بالاقتصاديات السياسية إنتاج السلع والخدمات وتداولها والاستحواذ عليها، في حين نعني بالاقتصادات الأخلاقية إنتاج القيم وتداولها والاستحواذ على قيمها وتأثيراتها. لكلا البعدين عواقب وخيمة على الطريقة التي يتم بها التعامل مع الهجرة ومعاملة المهاجرين من قبل الدول وكذلك المجتمعات».

ينتقل الجزء الثاني من الكتاب إلى التمييز العرقي والإثني الناتج عن النصوص القانونية والأعراف الاجتماعية. ويقوم المؤلف بذلك بشكل ملحوظ من خلال النظر في سوابق تاريخية إلى اللحظة الراهنة، محاولاً إتاحة الفرصة لتجنب عيوب الحاضر.

ويوضّح الكاتب ذلك بقوله: «في الولايات المتحدة، يقدم«الحظر الإسلامي» لإدارة ترامب أوجه تشابه مثيرة للاهتمام مع تدابير استبعاد سابقة تم تبنيها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. والأكثر شهرة هو قانون الاستبعاد الصيني لعام 1882، والذي كان الأول من نوعه ضد فئة من الأجانب. تم التصويت على هذا القانون من قبل الكونجرس، وعندما تم الطعن فيه بعد ذلك بفترة، قضت المحكمة العليا بأن الأمر يتعلق بالأمن القومي، وأن الحكومة، بالتالي، كان لها الحق السيادي في رفض الأجانب وترحيلهم. مهد هذا القرار الطريق لتدابير الإقصاء المستقبلية».

ويضيف على كلامه: «تم سن التشريع في سياق العنف العنصري ضد الصينيين، مما ساهم في إضفاء الشرعية. كما ألهم إقرار قانون الهجرة في عام 1917، والمعروف أيضاً باسم قانون المنطقة المحظورة الآسيوية، والذي، كما توضح شيرلي مونشي في مقالها ضمن هذا الجزء، كان وسيلة ملطفة لتسمية ما كان في الواقع«حظراً هندوسياً»، وهو التعريف الجغرافي لهؤلاء المستبعدين لتجنب لغة عنصرية حتى في الشكل المقنع للتخطيط الوطني. ومع ذلك، فقد تم التعبير بوضوح عن العنصرية الصارخة في مناقشات الكونجرس في ذلك الوقت. وهكذا، في استثناء كل من الصين والهندوس، فإن السيطرة المزعومة على الحدود الوطنية لم تكن أقل من تبني الحدود العرقية من قبل الدولة».

ادعاءات راديكالية

ينظر الجزء الثالث والأخير في الحدود من منظور مكاني، إما كخط يفصل بين إقليمين أو، على نحو غير محدد، كترسيم لمنطقة ملاذ، لأجل الأهداف العسكرية في المنطقة المحرمة، وأخيراً لأغراض اقتصادية في المناطق الحرة. توضح المقالات في هذا الجزء أن كلاً من الخطوط والمناطق هي نتيجة لعمليات وضع الحدود.

يقول الكاتب موضحاً: «هذه العمليات يمكن استخدامها للحماية». هذا ما توضحه الكاتبة ليندا بوسنك مع تطور ممارسات الملاذ في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى استجابة لسياسات الهجرة المتزايدة القسوة. وهكذا، تُعلن بعض المدن عن نفسها كملاذ آمن في أعراف وتقاليد مواقع اللجوء القديمة التي يمكن أن تجد فيها فئات مختلفة من الناس ملجأ، وبالتالي لا يمكن اليوم اعتقال المهاجرين غير الشرعيين.

تتنوع الحجج المستخدمة لتبرير هذه الممارسات، من المبادئ الإنسانية والمصلحة الذاتية العملية إلى الأفكار الأوسع للعدالة وحتى الادعاءات الراديكالية بحق الإقامة لأولئك الذين استقروا في بلدهم المضيف.

ويوضح قائلاً: في نفس الوقت الذي تنتج فيه هذه الحركات حدوداً داخلية تحدّد الملاذات التي لا تستطيع فيها الدولة الفيدرالية في الولايات المتحدة إنفاذ قانونها، فإنها تبني حدوداً قانونية بين أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى تدابير معينة، مثل قانون التنمية والإغاثة والتعليم للقاصرين الأجانب لعام 2001، المعروف اختصاراً باسم (دريم).

على النقيض من منطق الحماية هذا، يعلق الكاتب قائلاً:«فإن صنع الحدود السياسية والثقافية والاجتماعية يمكن أن ينطلق من منطق الاستلاب والقمع. ففي مقالها «الأرض المحرمة على الحافة الشمالية لقطاع غزة» ضمن الجزء الأخير، تصف إيلانا فيلدمان مصير بلدة صغيرة تأثرت باحتلال طويل الأمد من قبل الكيان «الإسرائيلي» والهجمات المميتة المتكررة من قبل جيشه. توضح فيلدمان أن حلقات التدمير تجاه الفلسطينيين وأرضهم تضاعفت منذ إنشاء «إسرائيل» في عام 1948».

يشير الكاتب إلى أن النكبة لم تؤسس حدوداً بين الدولة الجديدة والأراضي المحتلة فحسب، بل خلقت أيضاً حدوداً اجتماعية وثقافية بين الفلسطينيين، لا سيما بين السكان الأصليين واللاجئين، الذين طردوا من أراضيهم واعتمدوا على المساعدة من الأمم المتحدة.

ويقول: «مع مرور الوقت، تضاعفت محنة دورة الخراب وإعادة البناء بسبب الصعوبة المتزايدة في عبور الحدود، فضلاً عن وضع حدود جديدة بين أولئك الذين يستفيدون من التصاريح والذين لا يستفيدون منها. إن التاريخ المأساوي لمدينة غزة يجسد كيف تم صنع الحدود السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال سياسة الاستعمار، والتي لا تتضمن في هذه الحالة الأرض فحسب، بل أيضاً المياه حيث يُحرم الفلسطينيون من الوصول إلى البحر».

نبذة عن الكاتب

* ديدييه فاسين أستاذ العلوم الاجتماعية لكرسي البروفسور جيمس دي ولفنسون بمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون. وهو مؤلف للعديد من الكتب منها: «إرادة المعاقبة» (2018)، «الحياة: دليل للمستخدمين النقديين» (2018)، «عوالم السجون» (2016) وإنفاذ الأمر: إثنوغرافيا الشرطة الحضرية.

 

ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

إمبراطوريات الضعفاء

 

كيف كان صعود الغرب استثناءً مؤقتاً للنظام العالمي المهيمن؟ ما الذي يفسر نهوض الدولة، وإنشاء أول نظام عالمي، وهيمنة الغرب؟ تؤكد الإجابة التقليدية أن التكنولوجيا والتكتيكات والمؤسسات المتفوقة التي أقامتها المنافسة العسكرية أعطت الأوروبيين ميزة حاسمة في الحرب على الحضارات الأخرى من عام 1500م فصاعداً. يشير هذا الكتاب إلى أن الأوروبيين لم يكن لديهم في الواقع تفوق عسكري عام في أوائل العصر الحديث. لكن كيف؟

كان الأوروبيون يشعرون بالرهبة من الإمبراطوريات الشرقية العظيمة في ذلك اليوم، والتي كانت رائدة في الابتكارات العسكرية الرئيسية وكانت تقوم بالغزوات منذ فجر التاريخ. وعلى ضوء الرأي القائل بأن الأوروبيين حققوا فوزاً دائماً، يؤكد شارمان أن إمبريالية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت تطوراً عابراً وشاذّاً نسبياً في السياسة العالمية انتهت بخسائر غربية خلال تمردات مختلفة. وإذا كان للقرن الحادي والعشرين أن تهيمن عليه قوى غير غربية مثل الصين، فإن هذا يمثل عودة إلى القاعدة السائدة في العصر الحديث.

يتوقف الكتاب عند فكرة أن أوروبا حكمت العالم بسبب الهيمنة العسكرية، وأن صعود الغرب كان استثناءً في النظام العالمي السائد. يعلق الكاتب على ذلك قائلاً: «إن التوسع الأوروبي من نهاية القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر قد دفع العالم إلى إنشاء أول أنظمة سياسية واقتصادية عالمية حقيقية. وقد بدأ ذلك برحلات شبه متزامنة عبر المحيط الأطلسي إلى الأمريكتين، وجنوباً وشرقاً حول ساحل إفريقيا، عبر المحيط الهندي إلى آسيا بواسطة مستكشفين مثل كريستوفر كولومبوس وفاسكو دا جاما».

ويضيف: «غالباً ما يقال إن النمو اللاحق للوجود الأوروبي عبر المحيطات كان نتيجة لقوة عسكرية متفوقة: أسلحة أفضل، ومنظمات أفضل لاستخدامها، وهي تعرف باسم أطروحة الثورة العسكرية التي تفيد أن التوسع كان في المقام الأول نتيجة للجيوش والدول التي تفوقت على المعارضين في الخارج، لأن الأوروبيين كانوا أكثر تكيفاً مع متطلبات الحرب، بعد أن نجوا وتعلموا من المنافسة الشرسة في الداخل. يعتمد ذلك على افتراض أن المنافسة تنتج منظمات أكثر كفاءة تتكيف بشكل أفضل مع بيئتها، وذلك بفضل مزيج من التعلم العقلاني والاختيار الدارويني».

تشكيك في الرواية الغربية

في هذا الكتاب، يشكك المؤلف في كل عنصر من عناصر هذه الرواية، ويقترح شرحاً بديلاً، ويشير إلى أن الأوروبيين لم يتمتعوا بأي تفوق عسكري كبير في مواجهة المعارضين غير الغربيين في بداية العصر الحديث، حتى في أوروبا. كان التوسّع بمنزلة قصة عن الاحترام والتبعية الأوروبيين، بقدر ما كانت قصة الهيمنة. بدلاً من جيوش الدولة أو قوات البحرية، كان في طليعة التوسع عصابات صغيرة من المغامرين أو الشركات المأجورة التي اعتمدت على رعاية الحلفاء المحليين. وكان من العوامل الأساسية لنجاح الأوروبيين وبقائهم وجود استراتيجية بحرية تجنبت تحدي الأولويات البرية للسياسات المحلية، وحدوث الأوبئة في الأمريكتين تسبب في كارثة سكانية. «كان أعظم الغزاة وبناة الإمبراطورية في أوائل العصر الحديث في الواقع إمبراطوريات آسيوية، من العثمانيين في الشرق الأدنى، إلى المغول في جنوب آسيا، ومينغ ومانشو تشينغ في الصين. يساعد إبداء الاهتمام الواجب لهذه القوى العظمى في تصحيح مركزية أوروبا التي غالباً ما كانت متحيزة في الدراسات السابقة، وتثير تساؤلات حول قصص السبب والنتيجة التقليدية بشأن شن الحرب وصنع القوانين». يتناقض هذا المنظور البديل مع النظرة التقليدية للتوسع الأوروبي باعتباره مجهوداً موجهاً من قِبل الدولة، ويستند إلى استخدام نفس التكتيكات والتكنولوجيا كما في الحرب بين الأوروبيين. وهو يشكك في فكرة وجود صلات قوية بين السبب والنتيجة بين الأسلحة الجديدة والتكتيكات والجيوش الكبيرة الدائمة وصعود الدولة ذات السيادة. على نطاق أوسع، فإن الحجة المطروحة هنا تتناقض وتحل محل نموذج المنافسة العسكرية التي تنتج منظمات قتالية فعالة ومتكيفة من خلال مزيج من التعلم والإقصاء».

إن أهمية العملية التي تم بها إنشاء أول نظام عالمي واضحة من نواحٍ كثيرة. فقد كانت الحضارات القديمة والمعزولة في السابق على اتصال منتظم مع بقية العالم،؛حيث كانت هناك حركة للناس والبضائع والأفكار في جميع أنحاء العالم لأول مرة، مما أدى إلى تغيير المجتمعات والبيئة عقب ذلك.

نظام خارج السيطرة

«لقد كان لدينا نظام دولي مرتبط منذ حوالي 500 عام، وهي فترة غالباً ما تُعتبر مرادفة لعصر الهيمنة الغربية. والافتراضات التي دعمت دراسة النظام الدولي والنظريات التي تم تطويرها لتفسيرها تبدأ من فرضية الهيمنة العسكرية والسياسية الغربية. ولكن في الواقع، لأكثر من نصف الوقت كان هناك نظام عالمي، لم يسيطر عليه الغرب».

«على النقيض من ذلك، فإن الدول الأوروبية كانت ضعيفة مقارنة بالقوى العظمى الآسيوية مثل إمبراطوريات المغول أو مينغ وتشينغ الصينية من حيث عدد السكان والثروات والقوة العسكرية. وحقيقة أن هذا لم يتم الاعتراف به في كثير من الأحيان يوضح مدى تشويهنا العميق للتطور التاريخي للسياسة الدولية، وله انعكاسات كبيرة على فهمنا للماضي والحاضر والمستقبل. إن التحيزات في المكان والزمان لم تبالغ في تقدير أهمية القوى الأوروبية بشكل منهجي فقط، بل قللت من أهمية تلك الموجودة في مناطق أخرى، كما أنها حددت أيضاً طريقاً حاسماً واحداً لتطوير المؤسسات العسكرية باعتبارها تشكل القاعدة التاريخية».

«تاريخ الحرب أمر حاسم باعتباره المادة الخام لتوليد واختبار العديد من نظريات العلوم الاجتماعية. والقوة العسكرية هي المحدّد النهائي في السياسة العالمية. تشكّل أطروحة الثورة العسكرية التي تقول إن الحروب المتكررة بين القوة العظمى دفعت إلى الابتكار العسكري وبناء الدولة في أوروبا، والتي أعطت هذه الدول فيما بعد ميزة تنافسية استخدمتها للسيطرة على الأنظمة السياسية غير الأوروبية، حجر الأساس للكثير من العلوم الاجتماعية ذات التوجه التاريخي. فقد قدمت لنا فهماً لصعود الدولة ذات السيادة ونظام الدولة الحديثة. ولذلك نجد العلماء يهتمون بشكل متزايد بصعود وسقوط الأنظمة الدولية».

«المقدار الذي نعتقد أننا نعرفه عن الطريقة التي تعمل بها السياسة الدولية هو في الحقيقة منظور ضيق أوروبي مركزي حول الطريقة التي تعمل بها السياسة الدولية الغربية. ولدى أوائل العصر الحديث القدرة على الإجابة عن هذا السؤال بشكل فريد».

منظور تاريخي

«من المنظور التاريخي التقليدي لعصر «كولومبوس» أو «فاسكو دا جاما» للهيمنة الأوروبية التي يقودها الجيش، فإن احتمال وجود نظام عالمي لا يهيمن عليه الغرب، أثارته المخاوف بشأن القوى الناشئة مثل اليابان، أو الصين مؤخراً والهند، لم يسبق له مثيل تاريخياً، وهو قفزة في المجهول. كما أن وضع قوى آسيوية حديثة في سياقها الصحيح من شأنه أن يجعل هذا العالم المستقبلي يبدو أقل إثارة أو غرابة؛ وربما سيكون هناك عودة إلى القاعدة التاريخية بعد فترة قصيرة نسبياً من عدم التوازن. هذه هي إحدى الطرق التي يمكن من خلالها تغيير وجهات نظرنا حول الماضي، ويمكن أن تغير وجهات نظرنا عن الحاضر والمستقبل بشكل أساسي». عند النظر إلى الطريقة التي يروي بها التاريخ نظرياتنا عن كيفية عمل السياسة الدولية عبر الزمن، يقدّم الكاتب بعض الأفكار حول العلاقة بين تخصصات التاريخ والعلوم الاجتماعية. ويرى أن الخلاصة الرئيسية هي أن المؤرخين وعلماء الاجتماع يتشاركون في آراء متشابهة في الأغلب. ويؤكد أيضاً على ما يمكن للعاملين في العلوم الاجتماعية، وخاصة العلاقات الدولية والعلوم السياسية، أن يتعلموه من أعمال المؤرخين الأخيرة حول العلاقات بين الأوروبيين والحضارات الأخرى في إفريقيا وآسيا والأمريكتين لتحل محل أطروحة الثورة العسكرية. وأي جهد لفهم موضوع ضخم مثل إنشاء وعمل النظام العالمي الحديث يتطلب اطلاعاً على رؤى التخصصات المختلفة.

يشير الكاتب إلى أنه في كل النقاش الحاصل حول ذلك، قام عدد قليل من العلماء في وقت سابق باختبار الادّعاء بأن الثورة العسكرية ترتكز على الاستعمار الأوروبي. لكن إلى أي مدى وفرت الابتكارات العسكرية الأوروبية في الفترة ما بين 1450 و 1700 للأوروبيين بالفعل ميزة في الحرب؟

أطروحة الثورة العسكرية

يقدم المؤلف في الفصول الثلاثة من العمل أدلة توضح أن أطروحة الثورة العسكرية ببساطة لا تتلاءم مع أدلة الفتوحات الإسبانية في العالم الجديد، أو حتى البرتغالية والهولندية والإنجليزية في آسيا وإفريقيا. بادئ ذي بدء، كانت أساليب الحرب التي استخدمها الأوروبيون في الخارج مختلفة تماماً تقريباً عن الأساليب التي استخدموها في بلادهم. وباستثناء حالات نادرة، لم تتناسب التكتيكات ولا الجيوش ولا المنظمات مع أطروحات الثورة العسكرية وحرب القوة العظمى في أوروبا.

يقول الكاتب: «إن إطلاق النار على أيدي الفرسان الذين أصبحوا يسيطرون على الحرب في أوروبا الغربية والوسطى لم يستخدم في أي مكان آخر. فبدلاً من الجيوش الضخمة المنتشرة في أوروبا، تم التوسع في العالم الأوسع عبر قوات لحملات صغيرة. علاوة على ذلك، في معظم الحالات، كانت هذه القوات خاصة بشكل محدّد، حيث كانت عصابات من المغامرين أو «أصحاب الشركات المأجورة». وكانت الظروف المختلفة في المواقع المختلفة تستدعي ردوداً مختلفة، مما قوض فكرة وجود طريقة أوروبية واحدة للحرب».

والأهم من ذلك، بشكل عام، لم يكن هناك تفوق عسكري أوروبي عام على الحضارات الأخرى في هذه الفترة. حقق الغزاة انتصاراتهم الأكثر شهرة في الأمريكتين بفضل مزيج من حدوث الأوبئة والحلفاء المحليين ومواد الصلب البارد، بينما الهزائم الأقل شهرة تكذب أسطورة جيوشهم التي لا تقهر. وثبّت الأوروبيون أقدامهم في إفريقيا عن طريق الحكام الأفارقة. في مناسبات نادرة، تحدى البرتغاليون وغيرهم الحكومات الإفريقية في الحرب قبل عام 1800، فقد كانوا يتعرضون للخسارة عموماً. واعتمد الأوروبيون موقفاً عاماً من الاحترام والتبعية لإمبراطوريات آسيا الأكثر قوة بشكل واضح، من بلاد فارس، إلى المغول، إلى الصين واليابان.

مرة أخرى، كان البرتغاليون، والهولنديون، والإنجليز، والروس جميعهم على الطرف الذي يتلقى الهزائم الحادة في الحالات الاستثنائية التي اشتبكوا فيها مع هذه الإمبراطوريات. أخيراً، في أوروبا وفي البحر الأبيض المتوسط، قاتل الأوروبيون للصمود في وجه العثمانيين، لكنهم شعروا بخيبة أمل ثابتة في مشاريعهم العسكرية في شمال إفريقيا.

في ختام الكتاب يقول الكاتب: «إن النظام العالمي متعدد الأقطاب هو النمط السائد عبر التاريخ أكثر مما هو استثناء. وعلى الرغم من أن التوقعات صعبة، خاصة حول المستقبل، وتحديداً لعلماء الاجتماع، لكن إذا ما أصبحت الصين والهند من أعظم القوى في القرن الواحد والعشرين، فهذا يعني بأشكال عديدة العودة إلى الوضع القائم في فترة 1700 للميلاد. الأسئلة التي نسألها، ونفشل في طرحها، حول التاريخ لا تغيّر آراءنا فقط، بل تتساءل عن مكاننا، وعما يخفيه المستقبل لنا كذلك».

الكتاب صادر عن دار «برينستون» الجامعية في فبراير/‏ شباط 2019 باللغة الإنجليزية ضمن 216 صفحة. ويأتي في ثلاثة أقسام ما عدا المقدمة والخاتمة.

نبذة عن الكاتب

* أستاذ العلوم الدولية في جامعة باتريك شيهي في قسم السياسة والدراسات الدولية بجامعة كامبريدج وزميل بكلية كينغز من كتبه السابقة «دليل الطاغية لإدارة الثروات والنظام الدولي في التنوع». يعيش في لندن.

المدن المستدامة.. بيان للتغير الحقيقي

تشهد المناطق الحضرية في العالم مشكلات حقيقيّة بسبب جشع الشركات، وفقدان المساحات العامة، وأزمة عدم المساواة. ويسلط هذا الكتاب الضوء على كيفية دخول المدن في ممارسات غير مستدامة ومضرة، وإمكانية فتح طرق جديدة فعلية للتغيير الحقيقي نحو مستقبل أفضل. يستكشف بول تشاتيرتون تجارب المدن التي تسخّر القوة الإبداعية الجماعية، من خلال التركيز على خمسة محاور: التعاطف والخيال والتجريب والإنتاج المشترك والتحول؛ وأربعة أنظمة مدنية هي: التنقل والطاقة والمجتمع والطبيعة.

من المعروف أن أغلبية البشر على كوكبنا تعيش في المدن، وأنه خلال السنوات القليلة القادمة سوف يمثل المجتمع الحضري نحو ثلاثة أرباع إجمالي استخدام الطاقة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويرى الكاتب أن «وراء هذه العناوين، جدول أعمال واضح ومقلق؛ وهو دعوة إلى العمل لبقاء نوعنا والحفاظ على الأنظمة البيئية التي نعتمد عليها».

ويضيف: «بالنسبة لأي شخص يتدخل في كيفية تكشف المدن في المستقبل، نجد أن هناك مجموعة كاملة من المشكلات المعقدة والمستعصية التي تتطلب اهتماماً عاجلاً مثل: مواجهة آثار تغير المناخ، والتكيف معه؛ التنوع الحيوي وحماية النظم الإيكولوجية؛ خفض الاعتماد على استخدامات الوقود الأحفوري؛ تأمين مستويات لائقة من الرخاء والرفاهية؛ معالجة حالات ظهور البطالة والفقر، وبناء المؤسسات التي تعمل على تعزيز وتمكين وضمان المساواة من حيث النتائج والإجراءات؛ معرفة كيفية تحفيز التغييرات في الممارسات الاجتماعية؛ حماية الأطفال والبالغين المستضعفين وإعادة توجيه العمل والتعليم نحو تحديات المستقبل؛ وتطوير التحولات المالية والمؤسسية والثقافية اللازمة لدعم ذلك كله».

«والمحير في هذه المسألة، أنه لا يوجد رأي متفق عليه بشأن المهمة المقبلة. ويتم تأطير التدخلات في تحديات المستقبل من خلال الطريقة التي نراها، والموجودة في العالم. فعلى سبيل المثال، تختلف وجهة نظر التحول الحضري وأولويات العمل من بنجلادش بشكل جذري عن تلك الموجودة في برادفورد، أو بوسطن. وبالنسبة إلى البعض، قد تعني تحديات الاستدامة الحضرية تجنب الموت على يد جيش الاحتلال، أو البحث عن الطعام والموارد الأساسية. بالنسبة للآخرين، قد يعني ذلك تحسين سلامة الطرق أو الحد من تلوث الهواء، أو استخدام البيانات لجعل المواصلات العامة أكثر كفاءة».

ويبرز الكتاب حقيقة أن إحدى المشاكل الرئيسية هي الطريقة التي نتناول بها الفكرة الحقيقية للاستدامة. «لقد أصبح مفهوم التنمية المستدامة مبتذلاً، بحيث بات بلا معنى. ويتعلق الأمر إلى حد كبير باستدامة الوضع الراهن من خلال سلة من الإصلاحات، وإيمان ساذج بقوة الترتيبات الاجتماعية – التقنية الجديدة. ولا يمكن تحقيق الاستدامة الحقيقية إلا من خلال تقصّ وبحث عميق وشاق، وإعادة توجيه المشروع العمراني السائد للأنواع البشرية خلال الرأسمالية المتأخرة في عصر الأنثروبوسين». (حقبة زيادة تدخل وتعاظم دور الإنسان في طبيعة الأرض مع زيادة المصانع وزيادة نسب الانبعاثات الصادرة منها).

نماذج عالمية

يشير الباحث والكاتب والناشط البروفيسور بول تشاتيرتون في مقدمته إلى العديد من المدن التي يمكن أن تقدم نماذج مستدامة، وتحقيق تغيير فعلي على أرض الواقع، يقول «في ديترويت وفيلادلفيا ونيو أورلينز، أنشأت مجموعات من الناس مجالس حضرية، وهي شبكة من الصالات للمقيمين الذين يسعون إلى التبادل الحضري. وفي ليفربول نشأت ورشة «جرانبي» من إعادة بناء الأحياء التي يقودها المجتمع المحلي وتصنع المنتجات التجريبية المصنوعة يدوياً. وفي إنديانابوليس، يأخذ الناس من أجل التقدم الحضري سلعاً غير مرغوبة، ويعيدون تدويرها لتحويلها إلى مواد تسهم في الخير العام. وفي بيركلي، تعد «هكر موم» أول فضاء للقرصنة مخصص للنساء، وهو فضاء مشترك للعمل على تقاسم الأدوات مع الصديقات المقربات، إلى جانب تبادل المعلومات ومناقشة قضايا المجتمع. وفي ليدز، يقوم «بلاي فول أني وير» باحتضان وتطوير وتصميم مشاريع تشاركية تضع الناس والتسلية في قلب المشاركة العامة والمكان. وفي مكسيكو سيتي، قام مجلس المجتمع المحلي لميرافال بتحويل شكل الساحات العامة المهجورة في الشركات المهمشة من خلال إنشاء مكتبات وغرف غداء ذات ميزانية منخفضة ومراكز صحية وترفيهية ومرافق إعادة تدوير».

ويضيف: «في دالاس، تقوم مؤسسة بتر بلوك بتطوير حلول مفتوحة المصدر لمساعدة المدن والجماعات المحلية والقادة الناشئين على إنشاء نماذج أولية سريعة في خدمة إيجاد الأماكن الإبداعية، ودعم الحياة العامة. وفي روتردام، يطور «بورفليرت» ملتقيات مؤقتة وخلاقة في المواقع المنسية ضمن المدينة، حيث يجمع الناس معاً للعمل الاجتماعي. وفي بيونس آيرس، خلق مجتمع «الكارتونيروس» (أو جامعو القمامة غير الرسميين) فرص عمل تعاونية مستقرة لأكثر المدن تهميشاً. وفي أوريجون، يشجع مشروع «مدينتك» على المشي لمعالجة الاعتماد على السيارات، وقد غطى نشطاء المجتمع المحلي المدينة بإشارات تروج لمسارات المشي وركوب الدراجات. وطورت «شبكة فانكوفر للفراغ العام» مشاريع لمعالجة الخصخصة المتزايدة في مجال الفراغ وتشجيع بدائل لها، مثل الحدائق المجتمعية والمجتمعات التي يمكن التنزه فيها، وأنشطة اللوحات الإعلانية».

«يمكن أن تستمر هذه القائمة من الأمثلة الملهمة. يحدث شيء كبير من دون أن يلاحظه أحد عبر المدن في جميع أنحاء العالم؛ فهناك عدد لا يحصى من المشاريع التي ينشئها الناس تعكس جميع مناحي وقطاعات الحياة، ولكن يواجهون خلالها العقبات. وبالرغم من الثقل الكبير لسلطة الشركات، وفقدان الحيز العام، والتسلسل الهرمي البيروقراطي، والتباينات المتأصلة، وحتى وجود الحرب والعنف، سيقوم الناس بإنشاء مشاريع تضع مؤشرات لعقود مستقبلية مختلفة جداً في المناطق الحضرية. فهم يطلقون العنان للطاقات الضخمة غير المستغلة للمدن المستدامة. قد تكون هذه الطاقات جزئية، وصغيرة الحجم وسريعة الزوال. وقد لا تحل الجهود المبذولة مشكلة الفقر أو عدم المساواة في المناطق الحضرية، أو تغير المناخ، إلا أنها تمثل كمية من الابتكار المدني، ويسعى القائمون عليها إلى تسخير الإمكانات أينما وجدوها. وهم يمتلكون فهماً سليماً وجذرياً، ونقداً لأساليب الأعمال المعتادة في التخطيط الحضري التي تدفع المدن إلى حدودها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية. وهم متشككون في قدرة الإصلاحات التكنولوجية والحلول الرقمية الذكية بمفردها على إنقاذ المناطق الحضرية».

مدن بدون سيارات

يركز الكاتب في مناقشته على أربعة محاور تدور حول: المدن الخالية من السيارات، ومدن ما بعد الكربون، والمدن المدينة الحيوية، والمدينة المشتركة.

وفي الفصل الخاص بالمدن الخالية من السيارات، يستكشف الكثير من الأمثلة التي تشير إلى إطلاق نهج مختلف تماماً بخصوص التنقل، ويقول: «تزامناً مع وقف العمل بوسائط النقل التي تستخدم الوقود الأحفوري، نحتاج إلى فتح مدينة خالية من السيارات على نطاق واسع تحتوي على: ممرات للدراجات، طرق المشاة، وسائل النقل الجماعي السريع، وسهلة التوفر، وتصميم حضري للسيارات خفيفة الوزن وحياة الشوارع المتجددة. وعلاوة على ذلك، فإن الحاجة الحقيقية إلى مثل هذه الحركة الكثيفة تتطلب التقسيم والتخصيص.

 

وبمعزلٍ عن المركبات المزودة بالمحركات، فإن مجمل الفضاء الحضري الثمين بحاجة إلى إعادة التخصيص؛ لذلك لا يمكن فتح عقود النقل الآجلة البديلة إلا بالتزامن مع التحول في التخطيط، وتقسيم المناطق بحيث يؤدي ذلك إلى تضاؤل الحاجة إلى مجتمعٍ ضخم ومهدر؛ من الأحياء السكنية إلى مناطق العمل المركزية. وتحتاج المناطق الرئيسية إلى تقسيم، والعمل بدوره يحتاج إلى توزيع على نطاقٍ واسع، ثم المواد الغذائية، والترفيه، والبيع بالتجزئة بحاجة إلى إعادة البيع للسلع المستعملة وفصلها عن استخدام السيارات. وقد يبدو البدء بالسيارة محدوداً لكنه يشير إلى خطوات متعددة لإطلاق التغيير الحقيقي للمدن المستدامة».

ويضيف: «تعمل أنظمة المدن هذه معاً على وضع برنامج لفتح مدينة حيوية مبنية على أسس مشتركة، خالية من السيارات، وما بعد الكربون. ويعتبر هذا البرنامج خطة طموحة لكنها غير مكتملة تستكشف كيفية قيام المبتكرين بفتح المدن، بدءاً من الاعتماد على السيارات والشروع في التحول من المركبات التي تعمل على الوقود الأحفوري وصولاً إلى التمدن الخالي من الكربون، واستعادة الطبيعة الحضرية من خلال الابتعاد عن التصنيع المدمر للأنظمة البيئية، وإطلاق العنان للاقتصادات التي تلبي الحاجات المحلية للناس وتساهم في المشاركة الديمقراطية المتجددة».

مدن ما بعد الكربون

كما يتناول في الفصل الثاني، مدن ما بعد الكربون، ما بعد العصر الجيو سياسي للنفط والغاز والفحم، ويستكشف هذه الكتلة الجديدة من الطاقة الحضرية وكيفية البدء بالعمل في هذا الطريق الوعر؛ في ما يتعلق باتخاذ عمالقة الطاقة في الشركات إجراءات لضمان إزالة الكربنة بشكل جذري، وتحقيق المساواة، ويقول: «هذه ليست مجرد مرحلة انتقالية تخص التقنيات والبنية التحتية، بل هي عملية تتطلب إجراء تغيير واسع النطاق في الممارسات الاجتماعية والثقافية؛ فعملية خلق وتوفير الطاقة بحاجة إلى صياغة مجموعة مختلفة من القيم في مجتمعاتنا المملوءة بالطاقة وغير المتكافئة بشكل لا يصدق».

ويضيف على ما سبق: «ولذا فإن خفض وتقليص الطلب على الطاقة وإعادة توزيعها، وكذلك إعادة تنظيم هذه الطاقة تبقى من المواضيع الماثلة بقوة في جدول الأعمال في الوقت الذي تمهد فيه المدن الطريق أمام توفير الطاقة الخضراء لمواطنيها بأسعار معقولة».

المدن الحيوية والمشتركة

في الفصل الثالث الذي يتحدّث فيه عن المدينة الحيوية، يستكشف الكاتب إطلاق التوجهات الجديدة من خلال نهج جذري ناشئ للتعامل مع الطبيعة الحضرية، بما في ذلك استعادة الحياة البرية الحضرية، الزراعة المستدامة، حب الكائنات الحية، المحاكاة البيولوجية أو محاكاة الطبيعة، الزراعة الحضرية، المناظر الطبيعية الحضرية المنتجة باستمرار.

ويستكشف في الفصل الرابع فكرة المدينة المشتركة من خلال الابتكارات في مجال إيجاد الأماكن المجتمعية والاقتصادات والديمقراطية، معلقاً: «إن الأماكن المادية والأرض الفعلية والمناطق التي نعيش فيها ونشغلها تعطينا إحساساً بالمكان، وهي تحافظ علينا وتوفر لنا الرفاه والمأوى؛ ومع ذلك، فإن مسألة إيجاد المكان بقيت خاضعة لنظم التخطيط المجردة النافرة، والمشوهة بالسلوك البيروقراطي، وجشع الشركات وملكية الأراضي المركزة».

ويضيف: «علاوة على ذلك، فإن الاقتصادات الحضرية أصبحت، وبشكل متزايد، رهينة ل: كسب المال السريع، الاستثمار الداخلي المتقلب، هيمنة العلامات التجارية الكبرى، نظام عقود العمل الصفرية، تدني الأجور، وضعف المهارات وفرص التعليم. ومعظمها ليست موجهة نحو التحديات المقبلة، وبدلاً من ذلك تعمل وبشكل رئيسي على تغذية الاقتصادات والشركات غير المحلية عن طريق استغلال فائض القيمة من أماكنها الخاصة، وتجريد هذه الأماكن والاقتصادات من مواردها الأساسية خدمةً لاقتصادات أخرى. ولإبراز هذه النقيصة، نجد نماذج عدة من الحكومات والديمقراطيات الحضرية تتسم بعدم المساواة والتسلسل الهرمي في سلوكها بشكل كبير».

ويقول الكاتب في نهاية عمله: «على المستوى العملي، بالنسبة إلى المدن، هذه دعوة جادة لاتخاذ إجراءات جذرية، لفرض تغيير أساسي في السياسة الحضرية والمؤسسات والعمل. مدننا على مفترق طرق. وذلك يعني تحدياً للأجيال القادمة والفرص المتاحة أمامهم. لذا نحن بحاجة إلى أفكار وسياسات وإجراءات من شأنها إرساء قواعد مستقبل حضري مختلف عما هو عليه بصورة جذرية، أي تلك المبنية على المساواة والازدهار والاستدامة، وأيضاً تتصدى لحلول التحديات المعقدة المترابطة بشكل واقعي. مضيفاً: «لو تم إطلاق أي من هذه الإمكانات فعلينا أن نفكر بشكل كبير، ونعمل بهدوء، وننطلق فوراً. علينا ترتيب الأمور لمواجهة التحديات التي تعترضنا لتحقيق وتكرار هذا الإطلاق العظيم للاستدامة الحضرية الحقيقية».

كيف أنهت بكين عصر الهيمنة الغربية

تعرضت الصين للغزو والإذلال والنهب من قوى خارجية في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ لكنها اليوم تنظر إلى القرن الحادي والعشرين؛ من خلال عدسة الماضي. التاريخ له أهمية عميقة للحكام الحاليين في بكين، ويوضح هذا الكتاب الذي بين يدينا السبب؛ حيث يتناول ما يشكل رؤية الصين للعالم في القرن الراهن، ويبين طريقة الصينيين في التخلص من الهيمنة الغربية.

«القومية مهمة في الصين، وما يهم في الصين يهمّ الجميع» هكذا يرى مؤلف هذا الكتاب المعنون «خارج الصين: كيف أنهى الصينيون عصر الهيمنة الغربية؟» الوضع في الصين. ويجد أن القومية الصينية الجديدة ليست متجذرة في قوتها الحالية، ولكن في ذكريات مخجلة عن نقاط ضعفها السابقة.

يحلل روبيرت بيكرز بشكل مدروس وجذاب بشكل جيد، الحقائق، ويفصلها عن الأسطورة؛ عندما يتعلق الأمر بفهم طبيعة القومية الصينية. يعدّ كتابه معاينة بانورامية للتعبير القوي بشكل متزايد عن الهوية الوطنية للصين في القرن العشرين، ومواجهتها المؤلمة مع الإمبريالية الغربية، وكما قالت «نيويورك ريفيو أوف بوكس»: عن عمله بأنه«مدعوم بأبحاث واسعة في الأرشيف، كما أنه كُتِبَ بنثر دافئ، وغالباً لا يسعى إلى الإدانة أو الاحتفاء بالوجود الغربي في الصين. بدلاً من ذلك، إنه تذكير مهم حتى عندما يُنسى تاريخنا المشترك في الغرب، فإنه يتم تذكره كثيراً،- وفي بعض الأحيان بطريقة مثيرة للاستياء – في بكين وشنجهاي اليوم».

يعد الكتاب تاريخياً مكتوباً بشكل جميل عن تفاعلات الصين في القرن العشرين مع العالم الخارجي؛ لكن بدلاً من القصة الضيقة التي تعزز الشرعية والتي يروجها الحزب الشيوعي الصيني، يروي بيكرز حكاية أكثر تعقيداً بكثير لقوى الجذب والرفض والترابط التي حددت على الدوام تعاملاً متنوّعاً بين الصين والعالم. الروايات المفصلة لهذا الكتاب هي تصحيحات جوهرية للحكاية التي رواها الحكام الحاليون لبكين.

يأتي الكتاب في 12 فصلاً بعد قائمة الرسوم التوضيحية، وقائمة الخرائط، وقائمة الاختصارات، والمقدمة، والفصول هي: «الهدنة، صنع الثورة، الأرض الجيدة، مناقشة الأمر، الصين في العقل، القرود تركب الكلاب السلوقية، حلفاء من نفس النوع، الخبراء الأجانب، ضوء آسيا، الوحوش والشياطين، الأعمال غير المكتملة، مسكون بالتاريخ».

التخلص من الهيمنة

يتتبع بيكرز العملية الطويلة والمؤلمة في كثير من الأحيان، التي استعاد بها الصينيون سيطرتهم على بلدهم. ويصف الفاسدين، والحداثة المتوهجة في شنجهاي قبل الحرب، والرقع الصغيرة في كثير من الأحيان من الأراضي الخارجية التي تسيطر عليها القوى الأجنبية، ومؤسسات هونج كونج وماكاو، والوسائل التي لا تعد ولا تحصى من التهديدات المسلحة، والتكنولوجيا، والحيل القانونية التي كانت الصين خاضعة لها حتى، تدريجياً، خرجت من قبضة السيطرة الغربية. هذا الاستعباد التعددي والجزئي للصين هو قصة لا تشمل القوى الأوروبية واليابان فحسب؛ بل الولايات المتحدة أيضاً.

يقول الكاتب: يجب فهم هذا التاريخ المعقد ليس لأجل التكفير عن خطايا الماضي؛ بل لإدراك المناظر الدولية في الصين بكل تناقضاتها، وعنفها، و«كوزموبوليتانيتها»، وطموحاتها. إن قصة الوجود الأجنبي في الصين في القرنين التاسع عشر والعشرين مهمة للغاية؛ بحيث لا يمكن تركها في أيدي الدولة الحزبية الصينية ونصها المعتمد.

ويضيف: «الرواية المقررة لهذه القصة جزئية، وتخدم نفسها بنفسها، وهي محرضة في نهاية المطاف. إن النزعة القومية الجديدة في الصين، والتي سمعنا المتظاهرين الغاضبين مراراً وهم يطالبون بالحرب وقتل اليابانيين؛ بحيث يمكن أن تنذر باحتمالات كارثية. لكن هذه ليست مشكلة يابانية فقط، ولا توجد دولة متواطئة في تدهور الصين بعد ثلاثينات القرن التاسع عشر – والتي تشمل معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة».

تعقيدات صينية

ويوضح الكاتب موقفه في العمل: ولأن التزود بالحقائق على نحو فاعل قد يساعدنا على فهم جذور ذلك الغضب؛ لذا كان هدفي في هذا الكتاب هو إظهار ذلك العالم بكل تعقيداته وكل سياقاته، وكلمة «تعقيد» هذه ليست غطاءً خفياً للحنين إلى الماضي أو أسلوباً تبريرياً لأمر ما. كان للوجود الأجنبي في الصين خلال القرن العشرين الحصة الأكبر من التعصب الأعمى، العنصرية، العنف، الجشع، وعدم الاكتراث الفظ والوضيع. هذه المظاهر يمكن ملاحظتها بوفرة في متحف الصين الوطني.

ويشير إلى أنه «في هذا العالم أيضاً، يمكنك أن تجد التعاون، التعايش، الائتلاف، والتحالف. كما تحدثت أصوات أخرى كثيرة عن الصين ووقفت معها ضد أعدائها، وضد الجهل والإجحاف في الخارج، وفي شوارع الصين. وهذا كله لا يزال غائباً عن شاشات العرض في بكين. كان هناك أيضاً خداع الذات والغرور، فضلاً عن قلق إنساني حقيقي واهتمام فني مجرد من الهدف. لقد كان هذا عالماً تداخلت فيه ضرورات أو معايير العالم الذي تمارس فيه القوة الاستعمارية مع (وساعدت في تشكيل) أشكال جديدة من العولمة وحركة الناس والسلع والأفكار».

«لقد كان العالم الذي أدمج فيه الناس في الصين كل أنواع الابتكارات القادمة من الخارج في النواحي الحياتية العديدة، وبنفس القدر صنعت ثقافتهم الجديدة بشكل ممتزج، وغير منضبط، جميع أنواع المكونات الأجنبية والأصلية معاً. الصينيون ومن جميع الأشكال السياسية لم يعملوا مع أو ضد الممارسة غير المنصفة وغير العادلة للسلطة السياسية الأجنبية في الصين، ومعاملة الصين في المحافل والمنظمات الدولية. أما الحزب الشيوعي الصيني فلا يحتكر الفضيلة القومية، وكان هو نفسه متواطئاً في استمرار تدهور السيادة الصينية خلال خمسينات القرن العشرين».

وقال الرئيس الصيني شي جين بينج في نوفمبر 2012 في ختام زيارته للمتحف الوطني: «لقد عانت الأمة الصينية من مشقات وتضحيات غير طبيعية في تاريخ العالم الحديث». وهي أمة شعبها «لم يستسلم أبداً، ناضل بلا انقطاع، وفي النهاية قرّر مصيره».

يقول الكاتب: خطاب الرئيس الصيني هذا، ومنذ ذلك الحين، وعد ب «حلم الصين»؛ «التجديد العظيم للأمة الصينية» والطموح الفردي، على غرار آمال المغنية الصينية آي جينغ في أغنيتها «عامي 1997». إن حلم الصين يرتكز على قصة كابوسٍ صيني لا يهدأ. نحن بحاجة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة وفهمها، ولكن ليس بالضرورة تصديقها.

احتجاجات وتظاهرات

«خلال العقود الثلاثة الماضية كانت هناك سلسلة من التظاهرات الغاضبة والاحتجاجات، والمواجهات والإدانات الشديدة التي بدت أنها تؤذن بمرحلة جديدة وحازمة في علاقات الصين مع بقية دول العالم. وقد اندلعت هذه الأحداث؛ بسبب النزاعات الإقليمية، والقصف غير المتعمّد للسفارة الصينية في صربيا عام 1999 من قبل الطائرات الحربية لحلف شمال الأطلسي، والاحتجاجات على حمل الشعلة الأولمبية بالتتابع عام 2008، والمواجهات بين الطائرات العسكرية الأمريكية والصينية، وبسبب العديد من الخلافات الأخرى.

وقد انطوت هذه الأحداث على بيانات شديدة اللهجة صادرة عن زعماء ودبلوماسيين، كذلك إجراءات احتوتها الحكومة الصينية وخططت لها بدقة. كانت هناك تظاهرات سلمية فضلاً عن هجمات عنيفة على ممتلكات أجنبية في المدن الصينية. لقد رأينا أيضاً رواجاً للجدل القومي الفج الذي يحث الصين على قول»لا«؛»مرفوض«(أو ما هو أسوأ) للحكومات الأجنبية. ولكن إلى حدٍ كبير حالات كهذه هي استجابة الناس العاديين العفوية للأحداث، وليس خطاب الدولة بالذات.

«إن عمق الشعور وقوة اللغة المستخدمة فاجأت المراقبين الأجانب باستمرار، ولكن ما أثار حيرة الكثيرين هو حقيقة الحضور الكبير لإشارات العودة إلى الماضي في كل جولة من الاحتجاجات؛ الغضب شيء، ولكن هذا الوعي التاريخي بالتأكيد هو شيء آخر. فالبعض من هذه الأحداث التي اشتعل فتيلها؛ بسبب الماضي نفسه والاعتراض عليه، وعلى محتوى الكتب اليابانية، على سبيل المثال، أو بعض السلع الصينية المنشأ التي عرضت للبيع في مجمعات المزاد العالمية«.

»تعد النزاعات والحوادث والأحداث من الأشياء المعتادة في العلاقات بين الدول، ولكن لماذا يكون التعبير عن الردود تجاه هذه الوقائع في الصين عنيفاً للغاية في كثير من الأحيان، ولماذا يتم صياغتها بشكلٍ روتينيٍ على النحو الذي هي عليه؟ لماذا الاهتمام بالماضي؟ عصر خضعت فيه الصين لغزوٍ أجنبي، عندما وقعت أجزاء من البلاد تحت سيطرة يابانية أو بريطانية كمستعمرات، عندما كانت الزوارق الحربية البريطانية والأمريكية والفرنسية تقوم بدوريات في نهر اليانغزي، وحكم اليابانيون والبريطانيون والروس والألمان أجزاء من عشرات المدن الكبرى، وقد مضى أكثر من سبعين عاماً على ذلك، أليس ذلك مجرد تاريخ، مضى وانتهى تماماً الآن؟«

القومية الجديدة في الصين

»ينبغي فهم النزعة القومية الجديدة في الصين. هذه النزعة التي تكشفت بالتزامن مع التنمية الاقتصادية التي تهز عصر البلاد، وهي إلى حدٍ كبير، نتيجة منطقية لتلك القوة الجديدة المكتسبة بمشقة. يمكننا أن نتوقع بشكلٍ معقول أن تقوم الصين القوية اقتصادياً بتأكيد ذاتها في العالم، وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد يستغرق القليل من الوقت للتعود عليه، إلا أنه سيحدث.

لكننا لا نستطيع أن نفهم هذه الظاهرة بشكلٍ صحيح، أو نتعلم كيفية التعامل معها، ما لم نفهم مدى عمق جذورها ليس في قوة الصين الحالية، ولكن في ضعفها في الماضي. علماً أن هذه النزاعات قد تشكلت في سياق تاريخ البلاد الحديث وتجربتها على أيدي القوى الأجنبية منذ أربعينات القرن التاسع عشر.

«تنظر الصين إلى القرن الحادي والعشرين من خلال عدسة التاريخ؛ فهي تقدر أحداث الحاضر والتحديات التي تواجهها من خلال تلك التي جرت في القرنين التاسع عشر والعشرين. وإذا ما نظرنا نحن أيضاً من خلال هذه العدسة فيمكننا أن نرى مدى عمق وطرق تموضع جذور النزعة القومية الجديدة للصين في عواصم الإمبراطوريات الأجنبية، وفي مستعمراتها وغيرها من الفروع في الصين نفسها. لكن بدلاً من الاكتفاء بالاعتراف بذلك، فإن خلاف هذا الكتاب هو أنه يمكننا فهم الحاضر فقط، إذا ما فهمنا فعلاً هذا الماضي، وإذا ما عرفنا المزيد عنه. إن هذا ليس مجرد خطاب، إنه تاريخ باقٍ لا يموت!».

ولعل ما قاله صحفي في «فايننشال تايمز» عن الكتاب خير ختام لهذا الملخص: «سعى كل نظام تم تأريخه في هذا الكتاب إلى تقليد التاريخ ليخدم أغراضه، ونظام اليوم ليس استثناءً… ومع الفوارق الدقيقة في الوقت الذي تتم فيه مهاجمة الرواية القومية للحزب الشيوعي، فإن كتاب بيكرز يذكرنا بأهمية الكشف عن حقائق الماضي المتضاربة والمتناقضة».

نبذة عن الكاتب

* كاتب ومؤرخ، له العديد من المؤلفات منها: الإمبراطورية التي صنعتني: رجل إنجليزي محنك في شنجهاي (منشورات بينغوين)، والتزاحم على الصين: الشياطين الأجانب في إمبراطورية تشينغ 1832-1914 (منشورات بينغوين).

* ولد روبرت بيكرز في ويلتشير، وعاش في قواعد القوات الجوية الملكية في جميع أنحاء إنجلترا، وفي ألمانيا وهونج كونج. درس في لندن، وحصل على زمالات في أكسفورد وكامبريدج قبل أن يشغل منصباً في جامعة بريستول عام 1997؛ حيث أصبح الآن أستاذاً للتاريخ.

ترجمة: نضال إبراهيم

 

تاريخ راديكالي للعالم

منذ ملايين السنين، سادت وتلاشت إمبراطوريات عدة، وخلال هذه الفترات المختلفة، ناضل البشر دوماً؛ لإيجاد مجتمع أفضل مما كان عليه في السابق، إلا أنه في جميع أنحاء العالم؛ نجد ارتباطات مع الماضي، ربما أصبح من الضروري التوقف عندها، وإعادة التفكير فيها، هذا ما يتناوله نيل فولكنر في هذا الكتاب، متوقفاً عند تاريخ السلطة، وجشع المتحكمين فيها، ويناقش أيضاً جوانب التحرر والتقدم والتضامن، ويرى أنه إذا أنشأنا ماضينا على نحو جيد، يمكننا أيضاً أن نخلق مستقبلاً أفضل.
يعدّ عالم الآثار والمؤرخ والكاتب والناشط السياسي البريطاني نيل فولكنر من الأكاديميين الغربيين المنشغلين بمراجعة الأحداث التاريخية، وربط إسقاطاتها، من منظور ماركسي في الغالب، بالواقع المعيشي اليوم، في ظلّ الأزمة الرأسمالية العالمية، وهيمنة المؤسسات الكبرى.
يقول في مقدمته:
«يواجه العالم اليوم أزمة على مستوى ما حصل في ثلاثينات القرن الماضي؛ فالرأسمالية تعيش أزمة طويلة الأمد، بينما تعمل الأموَلة والتقشف على انكماش الطلب، وتعميق الكساد، وتوسيع نطاق اللامساواة الاجتماعية. النسيج الاجتماعي مفتت. والعلاقات الدولية تزداد حدّة، وتتخذ طابعاً عسكرياً. الحرب تهدد على عدة جبهات…والأحزاب الديمقراطية همّشت مع قبول الدوغما الموالية للسوق… ومع ذلك، فإن العقد الأخير قد شهد مستويات غير مسبوقة تاريخياً من المشاركة في الاحتجاجات الشعبية في الشوارع، منطوياً على حشودٍ شعبية عريضة للبدائل التقدمية».
لقد عدّ داعمو التدخل العسكري الغربي في العالم الإمبراطويات الماضية – كالإمبراطورية الرومانية والبريطانية كنماذج للحضارة. لقد أعيد تفسير «أوروبا القروسطية» كمثال للاقتصادات ال«نيو كلاسيكية»، التي يفضلها المصرفيون أصحاب الملايين. أما الثورات العظيمة، فقد أعاد المؤرخون التعديليون تفسيرها؛ لتظهر بما يشبه الانقلابات أو نزاعات الفصائل، في محاولة منهم لشطب الصراع الاجتماعي من التاريخ. أما المحاولات لتفسير الماضي- بحيث يمكننا فهم الحاضر وكفعل لتغيير المستقبل – فقد همشتها نظريات «ما بعد الحداثة»، التي تجادل بأن ليس للتاريخ أي بنية أو نمط أو معنى.
ويناقش فولكنر هذه النظريات فيقول: «إنها تظهر أحياناً بلبوس «الأبحاث الجديدة»؛ إذ إنه دأب المؤرخون على أن يبحثوا بين الأرشيفات؛ لجمع المعطيات والبيانات طوال الوقت، ربما يكون المؤرخون التعديليون الأفضل تزوداً بالمعلومات والمعطيات؛ لكن لا يبدو أنهم الأكثر حكمة».
ويشير إلى دور الفعل في حركة التاريخ، فيقول:»لقد علمنا الفيلسوف الألماني الكبير جورج (فيلهلم فريدريش) هيجل، أن الحقيقة هي الكل، إن سياق التاريخ غير محدد مسبقاً؛ ونتائجه غير حتمية؛ إذ يمكن أن يسير في اتجاهات مختلفة بحسب الأفعال الإنسانية«.
في التعريف بكتابه يقول فولكنر: بدأ هذا الكتاب كسلسلة من المقالات المنشورة بين عامي 2010 و 2012 على موقع يساري على شبكة الإنترنت. بعد ستة أعوام، نشر النص بشكل موسّع ككتاب. وقد فعلت هذا لثلاثة أسباب: أولاً؛ لأنني أدركت المواضيع الأساسية المغفلة، وأردت بذلك ملء الثغرات وتجاوزها. ثانياً؛ لأنني تلقيت الكثير من التعليقات النقدية، وأردت عمل التعديلات اللازمة، وثالثاً؛ بسبب أن التغيير الكبير في السياسات العالمية خلال الأعوام الستة الماضية يتطلب فصلاً أخيراً مفصلاً وموسعاً للتعامل مع الأزمة العالمية… لست، كما وصفني أحدهم، بالمؤرخ اللامبالي؛ لأنني أشارك كارل ماركس نظرته أن (تاريخ كل المجتمعات الموجودة حتى اليوم هو تاريخ الصراعات الطبقية). كما أتشارك معه بفكرة مفادها أن (الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، فيما المهم هو تغييره).
يأتي الكتاب الصادر عن منشورات«بلوتو برس» في أكتوبر/تشرين الأول 2018 في 512 صفحة موزعة على مقدمة وثمانية عشر فصلاً وخاتمة.
العالم بين أزمة الرأسمالية والفاشية
يقول فولكنر: الاقتصاد العالمي غارق في أزمة ركود طويلة الأمد. كما أن الإنسانية قادرة على إنتاج كميات غير مسبوقة من الثروة. نصف هذه الثروة تقريباً تحت سلطة البنوك، الشركات، الدول والأشخاص إضافة إلى مفرطي الثراء. هذه الكتلة من الفائض الهائل، التي ينتجها كدح القوة العاملة، لم تعد تستثمر بالشكل المنتج: إنها مستخدمة في تمويل نظام فاشل بعمق يقوم على الدين والمضاربة.
هذه «النيوليبرالية» المتطفلة هي جزء من أزمة أعرض للرأسمالية العالمية. تفتت اللامساواة وغياب العدالة في النسيج الاجتماعي. كما أن النظام العالمي في حالة انهيار. أما الفاشيون، العنصريون فيحصلون على المزيد من المساحة على الأرض، همشت الديمقراطية، وتقلصت الحريات المدنية. كما أن الاحتباس الحراري يهدد الكوكب والإنسانية كلها بكارثة مناخية.
يلاحظ محللو التيار السائد (الماينستريم) هذه المشاكل؛ لكنهم إما أن يلجأوا إلى التقليل من أهمية ذلك أو أنهم يتجاهلون الروابط بينها. «ويشير الكاتب للفكرة الماركسية، التي استقاها كارل ماركس من الفيلسوف الألماني هيجل، والتي مفادها أن (المجتمع كلٌّ معقد ومتناقض)؛ حيث كل شيء مرتبط بكل شيء آخر، وأن الخاص يمكن فهمه، فقط؛ عبر علاقته ضمن العام».
هذه كانت الفرضية الضمنية عبر هذا «التاريخ الراديكالي». ويتوجب علينا الآن تطبيق هذا النهج على الحقبة، التي نعيشها راهناً؛ إذ ليس باستطاعتنا فهم الأزمة المركبة، التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي في مطلع القرن الحادي والعشرين دون الإحالة إلى الفترة الطويلة، التي أوصلتنا إلى هذه النقطة».
في فقرة فرعية، بعنوان: «الفاشية الزاحفة» يقول فولكنر: «كانت واحدة من تلك اللحظات، التي تغير العالم فيها. ومثل انهيار جدار برلين عام 1989، وتفجير البرجين التوأم في 2001 والأزمة المالية في 2008، فإن انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2016 أرسل موجات صدمة خلال العالم».
لم يجد المحللون الكلمات المناسبة لوصف ما حدث.. ملياردير متهرب من الضرائب، كاره للنساء معترف بارتكاب إساءات، متنمر على المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة. فخور بتعصبه، كاره لمعظم البشرية. هذا الرجل بالتحديد انتخب؛ ليشغل أقوى منصب سياسي في العالم. 63 مليون أمريكي انتخبوا هذا الشخص.
لكن ترامب هو جزء من ظاهرة عالمية: صعود طبقة من الحكام اليمينيين المتطرفين المستبدين… وعبر العالم، باتت الديمقراطية مهمشة والحريات المدنية مهددة وحقوق الإنسان منتهكة. وفي أوروبا تحديداً، بات هناك ما يمكن تسميته «الموجة الثانية» من الفاشية، التي من مظاهرها وصول الحكومة اليمينية المتطرفة للسلطة في كل من بولندا وهنغاريا. وحصول زعيمة الجبهة الوطنية في فرنسا على 34 في المئة من الأصوات في حملتها الرئاسية الأخيرة.
يستخدم مصطلح «فاشي» أحياناً بشكل فضفاض؛ لوصف أي سلوك سلطوي مستبد؛ لكن ما يثير القلق أكثر هي النزعة لتعريف المصطلح في إطاره الضيق والمحدد، وإنكار أنه قابل للتطبيق على الحركات اليمينية المتطرفة الموجودة اليوم؛ عادة على أساس أنها لا تمثل بشكل كاف صورة النازيين الألمان في فترة ما بين الحربين. وهذا خطأ كبير؛ لأن التاريخ يعيد نفسه؛ لكن ليس بشكل حرفي. إن تجربة ما بين الحربين ترينا أنه يمكن للفاشية أن تتخذ أشكالاً مختلفة. إنها حركة تحمل المعنى الحرفي للعملية (السيرورة)، التي تتغير من مكان إلى آخر، وتتبدل من زمن لآخر، وتتطور عبر التفاعل مع قوى أخرى في ظروف تاريخية متينة.
الثورة النيوليبرالية المضادة
يركز الكاتب على دور النيوليبرالية في إضعاف الحركة العمالية، وتعزيز الآلة الرأسمالية المهيمنة. يقول: «لقد أضعفت الثورة النيوليبرالية المضادة، التي انطلقت أواخر السبعينات المجتمع المدني عموماً، والحركة العمالية خصوصاً. لقد ظهرت الطبقة الحاكمة الدولية في الثمانينات؛ بعد عدد من الهزائم الكبيرة والعميقة، التي تعرضت لها الطبقة العاملة، ثم شهدت العقود الأربعة التالية، توزيعاً على نطاق واسع للثروة والسلطة في مصلحة رأس المال. لهذا، ربما نكون اليوم شهوداً على مرحلة ثانية من تلك الثورة المضادة؛ تصاعد راديكالي، عدم التمكين وإزالة الصفة السياسية للطبقة العاملة».
ليست الفاشية «أداة» مصممة لغرض تاريخي معين. إنها غير «متحكم بها» من سادة ومحرّكين رأسماليين. إنها تعبير مركّز للنيوليبرالية، العنصرية، كراهية الأجانب (الزينوفوبيا)، التحيز الجنسي، العسكرة، التعصب الديني، عبادة السلطة، الانفعال الذهاني، الذي يفيض في المجتمع الرأسمالي في وقت الأزمات.
لا يمكن للنخبة العالمية الاستمرار بالحكم وفق الأسلوب القديم؛ لكن البديل الوحيد الممكن والقابل للتطبيق للفقر، الحرب، الاحتباس الحراري هو تجريد النظام المحدد، الذي ترتكز عليه ثروة وسلطة هذه النخبة. وهذا ما ليس بمقدورهم فعله. لا يمكن للطبقة الحاكمة حلّ هذه الأزمة إلا بالانحدار نحو الهمجية. إن دور سادة رأس المال يجعلهم، في مطلع القرن الحادي والعشرين، طبقة اجتماعية متطفلة دون وظيفة تاريخية.
لقد أخذ التقدم الإنساني بالاعتماد على إطاحة الطبقة النيوليبرالية الحاكمة، سلطة الدولة بأفراد الطبقة العاملة، والاعتراف بالحياة الاقتصادية والاجتماعية تحت الحكم الأهلي.
أما درس القرن ال21 فهو أنه لتحقيق النجاح؛ يتوجب تحقيق ذلك على المستوى العالمي. أما درس العقود الأربعة الماضية؛ فهو أن «الاشتراكية في دولة واحدة»؛ تعد وهماً مضللاً؛ لكن هل الثورة العالمية لا تزال ممكنة في القرن الحادي والعشرين؟
الثورات، بالعموم، غير متوقعة، ومعدية بشكل مؤثر. كما أنها آليات تغيير هائلة. انفجرت الثورة الفرنسية عام 1789، ثم بين أعوام 1789 و1794 بدأت تتشكل آليات عملية سياسية لقيادة الثورة… انحسرت الثورات بعد عام 1815؛ لكنها ما لبثت أن انطلقت مجدداً؛ أولاً في فرنسا عام 1830، ثم إثر موجة من العصيان عام 1848 في باريس، برلين، فيينا، بودابست، روما ومدن أوروبية أخرى. ومع أن الثوار قد هزموا، إلا أن الدافع للإصلاح الذي قدموه لم يكن ليتوقف. لقد عرف حكام أوروبا أنه كان عليهم إدارة التغيير من أعلى أو المخاطرة بمواجهة المزيد من الانفجارات من تحت. أصبحت فرنسا دولة، وتوحدت إيطاليا وتحولت ألمانيا إلى دولة-أمة حديثة. لقد أطلقت الثورة البلشفية (1917) سلسلة من ثورات رد الفعل من ألمانيا إلى الصين. أنهت الثورات في ألمانيا والنمسا-هنغاريا الحرب العالمية الأولى. وبدا أن الحركة الثورية ككل، بين 1917 و 1923 قد اقتربت من هدم النظام الرأسمالي العالمي برمته.
خطوات لفهم الثورة وحقيقتها الفعلية
في عام 1924، كتب المنظر الماركسي الهنغاري جورج لوكاش، في معرض تأملاته حول الحقبة العظيمة من الحرب والثورة، التي مرت للتو، في كتابه «حقيقة الثورة» ما يصلح لأن نستعيده في إطار عصر الأزمة،الذي نعيشه. كتب لوكاش، إن الماركسية «تفترض الحقيقة والفعلية العالمية للثورة البروليتارية. وبهذا المعنى، من ناحية الأساس الموضوعي للحقبة كلها ومفتاح فهمها، فإن الثورة البروليتارية تشكّل جوهر الماركسية…».
بالنسبة للوكاش، فإن ثورة الطبقة العاملة العالمية كانت إمكانية حيوية وحاضرة باستمرار. النقطة هنا، أن النظام القديم احتوى ضمنه الإمكانية المستمرة للثورة، وأن ذلك كان الحل الوحيد المرجح للمعاناة الإنسانية المتزايدة باستمرار.
ويورد فولكنر خمس نقاط يرى أنها ضرورية في سياق فهم أفضل لسيرورة الثورة ضد الرأسمالية والنيوليبرالية:
1) يتوجب علينا فهم ضرورة الحاجة لتغيير النظام. وعندما نتمكن من ربط الحملات، المحتجين والصراعات على تباينها ضمن هجوم عام على النظام الذي هو في الأساس مشاكل الإنسانية، حينها يمكننا أن نأمل بحل تلك الأزمات.
2) علينا أن نفهم الحاجة إلى الدولانيّة. وهذا يعني رفض كل أشكال العنصرية، النزعة القومية و«الشيوعية في دولة واحدة». وبناء شبكات عالمية للمقاومة والتضامن قادرة على تحدي السلطة العالمية للأثرياء.
3) كما أن علينا فهم مركزية الطبقة العاملة – المعرفة بنسبة ال 80 في المئة- لأي استراتيجية جدية لتغيير النظام.
4) يجب أن نبني شبكة من الحركات الاجتماعية الواسعة والجماعات الشعبية المشاركة لتنظيم، نشر وتعزيز صراعات الطبقة العالمية ضد النظام.
5) يتوجب علينا تنظيم أصحاب الرؤى الثورية ضمن شبكات من النشطاء القادرين على قيادة وتنظيم المقاومة العامة من الأسفل، وتحويل الغضب الشعبي إلى موجة من صراع الطبقة العاملة التي تتحول في النهاية إلى حركة ثورية عالمية جديدة يمكن مقارنتها، وإن كانت أكبر، من تلك في أعوام 1789، 1848، 1917، 1968 و 1989.
ويخلص الكاتب إلى فكرة مفادها: «بات العالم المختلف ضرورة تاريخية مطلقة. العالم الآخر ممكن. أما الثورة، بهذا المعنى، فهي «حقيقة فعلية». لكن هذا ليس يقيناً. يجب القتال لأجله. وإنجازاته تعتمد على ما سنفعله كلنا. لم تكن الرهانات التاريخية بأعلى مما هي عليه الآن».
نبذة عن الكاتب
** نيل فولكنر (1958) أكاديمي وعالم آثار ومؤرخ بريطاني. له الكثير من الأبحاث والمحاضرات المنشورة في دوريات ومواقع يسارية. من أحدث كتبه:«تاريخ ماركسي للعالم»(2013)، حرب لورانس العرب (2016)، تاريخ شعبي للثورة الروسية (2017) وآخر كتبه«تاريخ راديكالي للعالم» (2018).