أمريكا اللاتينية وعمالقة آسيا

أمريكا اللاتينية وعمالقة آسيا

%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%84%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%b9%d9%85%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a9-%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7

تحرير: ريوردان رويت وغوادالوبي باز

كيف يمكن لتطور علاقات الصين والهند مع أمريكا اللاتينية أن يغير الديناميات السياسية والاقتصادية في هذه القارة المضطربة، وخاصة داخل أربع دول فيها هي: الأرجنتين، البرازيل، تشيلي، والمكسيك، التي يتناول هذا الكتاب القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحرجة فيها، وكيفية تفاعل هذين العملاقين الآسيويين معها، وفي الوقت نفسه عواقب التأثير فيها.
يحاول هذا العمل البحثي الذي شارك فيه 23 خبيراً وأستاذاً جامعياً أن يسلط الضوء على جوانب هذه العلاقة المتغيرة والمتنامية كافة، ويقدم تحليلاً عميقاً للدوافع التي تقف خلفها، وما تشكله من تهديد على قضايا سياسية واجتماعية، وحتى أمنية وعسكرية، فضلاً عن تخفيفها النفوذ الأمريكي في المنطقة.

الكتاب صادر حديثاً عن «معهد بروكينغز» في العاصمة الأمريكية واشنطن في 326 صفحة من القطع المتوسط.
يشير كل من البروفيسور ريوردان رويت مدير برنامج الدراسات الأمريكية اللاتينية في «كلية بول إتش. نيتز» للدراسات الدولية المتقدمة (SAIS) التابعة لجامعة جونز هوبكنز بالعاصمة الأمريكية واشنطن، و غوادالوبي باز التي تشغل منصب أستاذ أبحاث مساعد ومدير مشارك في برنامج الدراسات الأمريكية اللاتينية في الكلية نفسها، إلى أنه في السنوات التي تلت تبني الصين استراتيجية «التوجه إلى العالمية» لتعزيز استثماراتها في الخارج، وتوسيع أسواق التصدير، والوصول المطلوب جداً إلى الموارد الطبيعية في الخارج، أصبحت العلاقات بين الصين وأمريكا اللاتينية تتعمق وتتوسع بوتيرة سريعة، على حد سواء، وبشكل غير متوقع. وكان الدافع الرئيسي وراء موجة التغيير هذه في العلاقات الثنائية، هو التكامل الاقتصادي مع الدول الغنية بالموارد الطبيعية في أمريكا اللاتينية، والمصدرة للسلع الأولية إلى الأسواق المتنامية للعملاقين الآسيويين، ثم تقوم الصين بتصدير السلع المصنعة مرة أخرى إلى المنطقة. وفي السنوات الأخيرة، نضجت العلاقات بين الصين وأمريكا اللاتينية إلى حد كبير، وأصبحت أكثر دقة ومتعددة الأوجه أكثر من أي وقت مضى.
وبالنسبة للهند – يوضح محررا الكتاب – أنها لاعب جديد نسبياً في أمريكا اللاتينية، ولكنها عززت ببطء علاقاتها. وباعتبارها واحدة من أكبر الأسواق في آسيا، فإنها توفر تشابهاً مثيراً للاهتمام بالنسبة للحالة الصينية. ويتساءلان: «هل العلاقات بين الهند وأمريكا اللاتينية تتبع مساراً مشابهاً؟ وتشمل المجالات الرئيسية لنمو التجارة والاستثمار، والتعدين، والطاقة، وتكنولوجيا المعلومات، وإنتاج السيارات، والمواد الصيدلانية. كما يقفان عند مسألة أهمية إعادة الديناميات المتغيرة، تعريف العلاقات الأمريكية اللاتينية مع الهند بالنسبة لواضعي السياسات.

العلاقة المتنامية

يستعرض هذا الكتاب الاتجاهات الرئيسية على الصعيد الإقليمي والقضايا السياسية الحرجة التي تنطوي على العلاقة المتغيرة بين هذين العملاقين الآسيويين وأمريكا اللاتينية. وقد اختار المؤلفان الأرجنتين، البرازيل، تشيلي، والمكسيك، كدراسات حالة توفر تحليلاً عميقاً للآثار المترتبة على التفاعل المتنامي للصين والهند مع المنطقة.. ويستكشفان المخاوف السياسية من ناحية العلاقة المتنامية لأمريكا اللاتينية مع العملاقين الآسيويين في أربعة أجزاء رئيسية، يتألف الجزء الأول من أربعة فصول يقدم فيها المؤلفان وجهات نظر متنوعة عن الدور المتنامي الذي تلعبه كل من الصين والهند في أمريكا اللاتينية، من بينها تقييم الأولويات العالمية والجيوسياسية المتغيرة، وتحليل جنوبي – جنوبي للعلاقات بين الهند وأمريكا اللاتينية، ومجموعة من التعليقات القصيرة من قبل الخبراء البارزين والعاملين في حقل العلاقات الأمريكية اللاتينية – الصينية، والروابط المتنامية بين الهند وأمريكا اللاتينية، والفرص والمخاطر التي تواجهها المنطقة من أجل التقدم.
أما الجزء الثاني، فيحتوي على خمسة فصول، يأخذ المؤلفان فيها نظرة أقرب على أسئلة السياسة الحرجة من بينها الطاقة، والأمن الغذائي، والتجارة، والهجرة، والاعتبارات الأمنية الخارجية. ويتألف الجزء الثالث بعنوان «تفاعل الصين والهند مع اللاعبين الرئيسيين في أمريكا اللاتينية» من ثلاثة فصول هي: تشيلي: جسر إلى آسيا؟، وعلاقة المكسيك مع الهند والصين، والأرجنتين والبرازيل: نحو استراتيجية أطلسية؟ أما الجزء الختامي فهو بعنوان «السيناريوهات المستقبلية لعلاقات أمريكا اللاتينية مع الهند والصين».

البعد الأمني والعسكري

يعالج البروفيسور آ.إيفان إيليس ارتباط الهند والصين الأمني والعسكري مع دول أمريكا اللاتينية خلال الفصل التاسع، إذ يشير إلى أنه كما في مجالات أخرى من العلاقات الثنائية، طورت الصين حضوراً كبيراً جداً لها في المنطقة أكثر من الهند، لكن في كلتا الحالتين، النشاطات العسكرية من قبل العملاقين الآسيويين في أمريكا اللاتينية أكثر مما يعلمه معظم الناس، خاصة في السنوات الأخيرة. ويوضح أن مبيعات الأسلحة والارتباطات العسكرية – العسكرية، المقترنة مع قضايا أوسع مرتبطة بالروابط التجارية، خففت التأثير الأمريكي في المنطقة، وأن مثل هذا الارتباط العسكري أساساً يغير الديناميات الأمنية للنصف الغربي من الكرة الأرضية.
ويضيف أن شركات الأسلحة الصينية باعت أنظمة عسكرية متطورة إلى فنزويلا وأعضاء متعاطفين سياسياً من التحالف البوليفاري لشعوب قارتنا الأمريكية (ألبا)، وهما بوليفيا والإكوادور. وتضمنت المبيعات أنظمة الرادار، وطائرات مقاتلة، وطائرات نقل عسكري، مركبات هجومية برمائية، قاذفات صواريخ، وقاذفات قنابل فردية، بالإضافة إلى منتجات غير قاتلة أقل تطوراً. أما بالنسبة لمحاولات توسيع مبيعات الأسلحة إلى الدول الأخرى، مثل الأرجنتين وبيرو، فقد كانت أقل نجاحاً نتيجة للعوائق المتعددة والإلغاءات في آخر دقيقة، لكن ازدادت في المناطق التي يظهر أنها تسعى إلى التحرك نحو الأمام. ويعلق الكاتب: «وفي هذا الجانب، لم تقم الصين فقط بتوسيع خيارات مشتريات الأسلحة بالنسبة لدول مارقة مثل فنزويلا، التي لا يمكن أن تشتري الأسلحة من الولايات المتحدة، بل قامت أيضاً بعرض أسعار أرخص بشكل عام من المنافسين، إلى جانب تمويل من البنوك الصينية».
أما بالنسبة لمبيعات الأسلحة الهندية إلى المنطقة، يشير الكاتب إلى أنها كانت متواضعة من حيث المقارنة، وقد كانت مقتصرة بشكل رئيسي على طائرات الهليكوبتر الخفيفة والشاحنات العسكرية الخفيفة. وعلى العموم، دفعت الجهود المشتركة بين مؤسسة التنمية وأبحاث الدفاع الهندية ووزارة الدفاع البرازيلية والشركة الجوية البرازيلية «إمبراير» إلى إنتاج منصة رادار محمولة جواً. وأيضاً في أوائل 2014، رخصت وزارة الدفاع الهندية بيع صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، إذ أبدت فنزويلا اهتماماً بها.
ويعلق: «من بين المخاوف التي أثارها بيع الأسلحة المتطورة هو وصولها إلى أيدي رجال الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية. علاوة على ذلك، في الوقت الذي تقود فيه المصالح التجارية الجهود لتحسين شبكات النقل والبنية التحتية الأخرى ضمن أمريكا اللاتينية، فإن النشاطات غير القانونية سوف تجد أيضاً وصولاً أسهل إلى المناطق المعزولة في السابق. والمزيد من الحضور المادي المتأسس للشركات الآسيوية والجهات الفاعلة الأخرى في أمريكا اللاتينية يمكن أن تترجم إلى قوة اقتصادية أكبر و«قوة ناعمة» في المنطقة. تثير الجريمة المنظمة عبر المحيط الهادي أيضاً قلقاً متنامياً. كما أن حدوث تهريب البشر والمخدرات، وبيع السلع المهربة والسلائف الكيمياوية، وغسل الأموال والتجارة غير الشرعية في المعادن واضحة، والحكومات على طرفي المحيط الهادي أثبتت ضعف التجهيز لديها في التعامل مع هذه التحديات».
ويوضح إيليس في النهاية أن التأثير المتنامي للعملاقين الآسيويين في المنطقة لم يتمكن فقط بشكل غير مباشر في المساعدة على إطالة حياة الأنظمة الشعبوية المعادية للولايات المتحدة (بشكل خاص في حالة ارتباط الصين مع فنزويلا والإكوادور)، بل أيضاً في إعادة تشكيل السيناريوهات العسكرية المستقبلية، خاصة بين الولايات المتحدة والصين، حيث يمكن أن تختار بعض حكومات أمريكا اللاتينية الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، وتسمح للصين في الوقت ذاته بالوصول إلى الموانئ الاستراتيجية والمطارات والبنية التحتية الأخرى.

سيناريوهات مستقبلية

من بين المواضيع المهمة التي يركز عليها العمل هو الوعي المتزايد لدى حكومات أمريكا اللاتينية بالمخاطر المرتبطة بأنماط التجارة والبضائع المتأسسة التي تستخدم للتصنيع بين أمريكا اللاتينية والصين منذ سنوات التسعينات، وبشكل متزايد بين أمريكا اللاتينية والهند. ويبين المؤلفان أن إحدى الأولويات الطويلة المدى الأكثر أهمية في المنطقة هي تطوير استراتيجيات مؤثرة لتنويع التجارة وتحسين سلسلة الإنتاج ذات القيمة المضافة لتكون أكثر تنافسية في الاقتصاد العالمي المعقد بشكل متزايد. وسيكون الاستثمار في الأبحاث والتنمية ورأس المال البشري والبنية التحتية مطلوباً. كما يتضح أيضاً أنه في الوقت الذي تتعمق فيه الروابط مع العملاقين الآسيويين، تظهر تحديات وفرص جديدة في جوانب مثل الهجرة والأمن. وينبغي على حكومات أمريكا اللاتينية أن تبتكر خططاً وسياسات شاملة طويلة المدى لمعالجة الجوانب التي تتسم بالأهمية الاستراتيجية المتزايدة، وتدعم على نحو أكثر القطاعات التي تعود عليها بالفائدة التنافسية، وتفتح قنوات لموارد مؤثرة من شأنها أن تزيد في النمو.
في الفصل الختامي، يقدم الأستاذان الجامعيان موريشيو ميسكيتا و ثيودر خان مجموعة من الخيارات لأمريكا الشمالية من شأنها أن تزيد من الفوائد وتقلل من المخاطر الناجمة عن الروابط المتنامية لهذه الدول مع الصين والهند. ولتوضيح السيناريوهات المستقبلية المتعلقة بارتباط أمريكا اللاتينية مع الهند والصين التي ربما تتكشف مع الأيام، يقدم المؤلفان «سيناريو»الحلم و«سيناريو»الكابوس«فيما يتعلق بعلاقات المنطقة مع كل من العملاقين الآسيويين، أسوأ سيناريو للعلاقات الأمريكية اللاتينية – الصينية هو الذي تلجأ فيه الصين إلى استخدام قوتها الاقتصادية والجيوسياسية لتملي شروطها في العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية، وأبعد من ذلك هو الذهاب في إخضاعهم لمصالحها.
أما السيناريو الحلم على صعيد العلاقات الأمريكية اللاتينية – الصينية فهو الذي يدعم فيه التعاون الاقتصادي والدبلوماسي مجموعة من الخطط والسياسات التي تهدف إلى خلق فرص متزايدة لتنويع التجارة نحو صادرات أكثر، ذات قيمة مضافة وجذب الاستثمارات الصينية في الجوانب التي تدعم النمو والتنافسية المتنامية.
وبالنسبة للعلاقات الأمريكية اللاتينية – الهندية، فلن يبدو السيناريو«الكابوس» مختلفاً كثيراً عن الوضع الراهن – فالحمائية على الجانبين سوف تستمر لتحدد فرص الاستثمار والتجارة.
أما السيناريو الحلم، فيتكون من استثمارات وتجارة متنامية بشكل مستقر، والحكومات تعمل معاً لإزالة الرسوم الجمركية العالية والمشكلات في الاتصال، مع إفساح المجال أمام القطاع الخاص ليلعب دوراً مهماً.

إصلاحات مهمة

يجد كاتبا هذا الفصل أن الديناميات التي تشكل مستقبل العلاقة مع العملاقين الآسيويين مرتبطة بشكل رئيسي مع مسألة كيف يمكن توسيع حجم الاستثمارات والتجارة بطريقة تمضي فيه المنطقة على مسار النمو المستدام عبر تقوية تنافسيتها على المستوى العالمي، وفي الوقت نفسه تعالج أيضاً القلاقل الاجتماعية والبيئية المستمرة. في حالة علاقات أمريكا اللاتينية مع الصين، فإن الاتجاه الذي يقرر الجيل الخامس من القيادة حالياً تحت رئاسة شي جين بينغ، أن يأخذه من ناحية استراتيجية البلاد الاقتصادية سيكون عاملاً حاسماً.
أما مستقبل العلاقة مع الهند، فسيكون مرتبطاً بشكل كبير مع نجاح حكومة مودي في تنفيذ الإصلاحات المهمة مثل: إزالة رسوم التعريفة الجمركية والعوائق الأخرى أمام التجارة والاستثمار. ويؤكد المؤلفان أن الخطوة الأولى والأهم لحكومات أمريكا اللاتينية هي القيام بإصلاحات داخلية تدفعها إلى المشاركة في طاولة التفاوض من موقع قوة أكبر، وعدم الاكتفاء بإصلاحات صورية بعيدة عن روح المواطن في أمريكا اللاتينية التي من الممكن أن تشهد اضطرابات سياسية في أي وقت، بسبب العوامل المساعدة سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو الديمقراطي.

 

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

 

حرب الدعاية العالمية في جنوب إفريقيا

حرب الدعاية العالمية في جنوب إفريقيا

%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%b9%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d9%86%d9%88%d8%a8-%d8%a5%d9%81%d8%b1%d9%8a%d9%82%d9%8a%d8%a7

على مدى خمسين عاماً، أنفقت حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا ما يقدر ب 100 مليون دولار سنوياً على حملات التضليل والتشويه الإعلامي، للتغطية على ممارساتها البشعة بحق السود، فكانت موجّهة بشكل خاص إلى الرأي العام البريطاني والأمريكي. يسعى الصحفي رون نيكسون في عمله هذا، إلى تقديم صورة تفصيلية لهذه الحملات الدعائية التي زورت الحقائق من خلال كشف شبكة معقدة من جماعات الضغط موضحاً فيه المؤامرة الكبرى على السود في جنوب إفريقيا ودور الإعلام الخطر عند توجيهه لخدمة الأنظمة العنصرية.
يسلط الصحفي رون نيكسون الضوء على أحد الجوانب المنسية تقريباً من معركة طويلة على الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وهي الحملة الدعائية العالمية التي شنتها حكومة جنوب إفريقيا ضد السود، في محاولة منها لحشد التأييد للنظام العنصري، وذلك من خلال إجراء مقابلات مع العديد من السياسيين والإعلاميين، والاطلاع على آلاف الوثائق التي لم تكن متاحة سابقاً من الأرشيف الجنوب إفريقي، والأمريكي والبريطاني، والنتيجة من وراء عمل الكاتب البحثي هي إلقاء نظرة مهمة على كيفية إدارة صورة الفصل العنصري، ودعم النظام، خلال خمسين عاماً من النضال والاحتجاج ضد العنصرية.

وهذا الكتاب لرون نيكسون – وهو أمريكي من أصل إفريقي، مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» من واشنطن، وزميل زائر في قسم الإعلام والدراسات الصحافية في جامعة ويتواترسراند – صدر حديثاً عن دار «بلوتو برس» البريطانية في 238 صفحة من القطع المتوسط، في 15 فصلاً بعد المقدمة، وهي: الفصل العنصري جيد للسود، في الدفاع عن الفصل العنصري، اتخاذ موقف هجومي، عملية «بلاكووش»، «مولدرغيت»، المشاركة البنّاءة، جنوب إفريقيا حرة، وقف حركة مناهضة الفصل العنصري، العقوبات تؤذي فقط السود، المثبّت، عملية «هاردبريك»، فيديو مكافحة العقوبات، رجل الفصل العنصري في أنغولا، الرمق الأخير للفصل العنصري، نهاية الفصل العنصري.

سود سعداء!

عندما كان الصحفي رون نيكسون طفلاً صغيراً في الولايات المتحدة، أعطته جدته مجلة عن جنوب إفريقيا، ظهرت له في صفحات المجلة صور للحيوانات البرية الرائعة، وغروب الشمس والسود السعداء على الشاطئ.
لكن بعد عقود، يدرك نيكسون أن المجلة كانت جزءاً من الدعاية التي كان قسم الاستخبارات في حكومة الفصل العنصري ينتجها بشكل ممنهج، وهي واحدة من المنشورات التي لا تعد ولا تحصى، والموزعة دولياً تحت ستار أنها من المجلات «العادية».
ويشير نيكسون إلى أنه لفهم نطاق وتأثير الحرب الدعائية حينها، أجرت شركة علاقات عامة في نيويورك عام 1970 مسحاً مكلفاً عن جنوب إفريقيا، لمعرفة ما يفكر الناس به حيال الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على المستوى الدولي. فكانت النتائج أنه بلد غير جميل، وهو ثاني أكثر دولة غير شعبية في العالم، بعد أوغندا زمن عيدي أمين، حتى إنها كانت تعتبر «أقل تفضيلاً» من الاتحاد السوفييتي والصين.
عند هذه النقطة يوضح نيكسون أن الحرب الدعائية كانت في ذروتها، واستطاعت أن تزوّر الكثير من الحقائق المتعلقة بحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويبين أنه منذ الأيام الأولى من الفصل العنصري في أواخر سنوات الأربعينات من القرن الماضي، حينما كان دانيال فرانسوا مالان يشغل رئاسة الوزراء من 1948 إلى 1954، سعت حكومته إلى كسب دعم الولايات المتحدة، من خلال إقناع الأمريكيين بأن حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا كانت حصناً منيعاً في وجه تمدد الشيوعية داخل القارة السمراء.
كما يذكر أنه زمن خليفة مالان، يوهانس غيرهاردوس ستريجدوم الذي بقي على رأس الحكومة من 1954 إلى 1958، كانت آلة دعاية الفصل العنصري وصلت إلى مستوى عالٍ واحترافية كبيرة، لكن وسط انتقادات دولية متزايدة وبسبب الاستياء والاشمئزاز العام مما حصل في مذبحة شاربفيل 21 مارس / آذار 1960، حيث قتلت شرطة الفصل العنصري 69 من المتظاهرين السود، ارتأت حكومته ضرورة إنتاج مواد إعلامية مؤيدة للفصل العنصري على وجه السرعة. فكلفت منظمة رايت هاملتون، وهي شركة علاقات عامة لها خبرة في تمثيل الحكومات التي لا تحظى بشعبية في العالم، فأنتجت مقالات وأفلام تتحدث عن السود المبتهجين في جنوب إفريقيا والحياة البرية ذات المناظر الخلابة، وتوزعها في جميع أنحاء العالم.

شراء الذمم والرشى

كان وزير الإعلام حينها هو كوني مولدر الذي شغل الوزارة من 1968 إلى 1977. اكتسبت جهود الدعاية في جنوب إفريقيا زخماً قوياً وخطراً في عهده. بلّغ مولدر الحكومة حينها أن ما يتعين على حكومة جنوب إفريقيا أن تقوم به هو حملة من شراء الذمم، وإعطاء الرشى، واستخدام أسلوب الخداع للوصول إلى قلوب وعقول العالم.
واستعان حينها مولدر بصحفي سابق يدعى إيشيل رودي لمواجهة النظرة السلبية المتشكلة عن حكومة جنوب إفريقيا والمنتشرة في جميع أنحاء العالم، وتم تقديم تمويل سري له بالملايين حسبما يعلق مؤلف الكتاب نيكسون.
ويضيف أن الصحفي إيشيل رودي كان هو نفسه من اتفق مع شركة العلاقات العامة المكلفة في نيويورك، لإجراء المسح الذي خرج بنتائج مدمرة للشعبية العالمية لجنوب إفريقيا. ومن هذا الإدراك جاءت خطة العمل التي أسست «ذا سيتزن»، وهي صحيفة كانت تهدف إلى مواجهة وسائل الإعلام ذات التوجهات اليسارية مثل صحيفة «ديلي ميل راند».
ويشير الكاتب إلى أنه في نهاية المطاف سقط مولدر، ورودي وجون فورستر رئيس الوزراء في جنوب إفريقيا من 1968 إلى 1978، في فضيحة عرفت باسم «مولدرغيت» التي تورط فيها الثلاثي مع أجهزة المخابرات في تحريك الملايين من ميزانية الدفاع لإجراء سلسلة من المشاريع الدعائية.
لكن – يشير نيكسون – إلى أن الإطاحة بفورستر لم تكن نهاية الحرب الدعائية. على الرغم من أن خلفه بيتر بوتا حل وزارة الإعلام وأنشأ بديلاً عنها، ولكنه احتفظ بما يصل إلى 60 من المشاريع السرية التي أدارها إيشيل رودي.
كان تمدد إعلام حكومة الفصل العنصري كبيراً، ومخالبها تصل إلى كل مكان مؤثر. في المملكة المتحدة، كان هناك نائبان في حزب العمال الحاكم يحصلان على رواتب من حكومة الفصل العنصري، بحسب نيكسون. فقد كانا مكلفين بدعم حكومة الفصل العنصري في مجلس العموم، والتجسس على الجماعات المناهضة للفصل العنصري. كما كان هناك صحفيون ألمان يقومون برحلات سنوية إلى جنوب إفريقيا يتقاضون فيها أموالاً لتجميل صورة حكومة الفصل العنصري في بلادهم، وتم تشكيل فريق في اليابان لإقامة روابط مع النقابات اليابانية. كما تم التعاقد مع خبير دعاية أرجنتيني لوضع مقالات مؤيدة لحكومة جنوب إفريقيا العنصرية في صحف أمريكا الجنوبية. وكانت هناك خطط – تم التخلي عنها لاحقاً – لإنشاء تمويل حزب سياسي نرويجي موالٍ للفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
ويشير إلى أنه في سنوات الثمانينات، قامت شركة علاقات عامة في المملكة المتحدة تدعى «استراتيجي نيتورك إنترناشينال»، بتنظيم حملة لمنع فرض عقوبات على جنوب إفريقيا، وقد أجرت محادثات مع السياسيين في المملكة المتحدة (بما فيهم ديفيد كاميرون) للقيام برحلات إلى جنوب إفريقيا لإقناعهم بأن الأمور ليست كلها سيئة.

أبواق متفانية

يذكر نيكسون أن الجزء الأكبر من جهود حكومة الفصل العنصري كانت موجّهة – رغم تحركاتها في العديد من الدول – إلى الولايات المتحدة. ويتحدث عن شخصيات استثنائية، خاصة من أولئك الأمريكيين السود الذين أصبحوا أبواقاً إعلامية متفانية لحكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
وقد تناول نيكسون في عمله هذا بوضوح، وفي كتاب إلكتروني سابق بعنوان «عملية بلاكووش»، محاولات نظام الفصل العنصري للفوز بتأييد الأمريكيين الأفارقة، وهو ما يعتبره جانباً سريالياً من الحرب الدعائية العالمية لحكومة الفصل العنصري. ومن هذه الشخصيات ماكس يرغان، وهو أمريكي من أصل إفريقي عاش في جنوب إفريقيا لسنوات عديدة، وأصبح من المقربين لأعضاء بارزين في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، مثل غوفان مبيكي وأي بي إكسوما.
عاد يرغان إلى الولايات المتحدة لدعم حقوق السود في جنوب إفريقيا جنباً إلى جنب مع ناشطين وسياسيين آخرين، لكن فجأة أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي عن رفاقه السياسيين، وكان يقوم بجولات في جنوب إفريقيا محذراً من شرور الشيوعية، حسبما يكتب نيكسون. وفي عام 1953، أجرت مجلة أمريكية مقابلة مع يرغان أشار فيها إلى أن «حكومة جنوب إفريقيا، بدلاً من ازدرائها، تستحق فهم العالم لسياستها المتعلقة بالفصل العنصري».
ثم يتحدث عن جورج شويلر، وهو أمريكي من أصل إفريقي، كان يدافع بشكل صريح عن حقوق السود في جنوب إفريقيا إلى أن صار مثل يرغان يناهض بشدة الشيوعية. ويعلق نيكسون على ذلك: «في أواخر سنوات الأربعينات، بدأ شويلر بتغيير آرائه السياسية، ربما لإدراكه بأنه أصبح في موقع الاشتباه من قبل وكالات الاستخبارات الأمريكية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي». وبدءاً من سنوات الستينات كان شويلر يجري مقابلات إذاعية يعبّر فيها عن وجهة نظره، فيقول مثلاً: «لا أعتقد أنه من شأن الناس تغيير المجتمع»، قاصداً بذلك نظام الفصل العنصري.
ويتحدث نيسكون أيضاً عن أندرو تي هاتشر، نائب السكرتير الصحفي لريتشارد نيكسون و«أحد أكثر الشخصيات الأمريكية من أصل إفريقي رفيعة المستوى في العالم». كان هاتشر يعدّ رحلات إلى جنوب إفريقيا للصحفيين والمشرعين الأمريكيين السود، حيث كانت تحركاتهم تحت التحكم بشكل دقيق.
ويشير نيكسون إلى أن هاتشر كان يتلقى الأموال أيضاً من نظام الفصل العنصري للخروج في التلفزيون الأمريكي ليقول للولايات المتحدة إن الوضع «مشجع» في جنوب إفريقيا.
كما يتطرق إلى شخصية ويليام كيز، وهو أمريكي من أصل إفريقي، كان يحصل على 400 ألف دولار في السنة من حكومة الفصل العنصري لكتابة الافتتاحيات في الصحف المحافظة لمهاجمة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي «الشيوعي» كما يقول نيكسون.
وفي مقابلة مع شبكة «سي إن إن» الأمريكية في 1985، تحدث عن ضرورة الاعتراف ب «حقيقة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كمنظمة إرهابية خارجة على القانون ارتكبت العنف بشكل أساسي ضد السود الأبرياء».

ما وراء الكواليس

يحتوي كتاب نيكسون أيضاً على شذرات لافتة تتعلق بالجدل الدائر ما وراء الكواليس بشأن فرض عقوبات على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ويشير نيكسون إلى أن صمود مارغريت تاتشر لتجنب العقوبات ضد نظام الفصل العنصري لم يحركه حتى التماس الملكة نفسها. ويكتب معلقاً: «أخذ المستشارون الملكيون على عاتقهم خطوة غير عادية من تسريب وجهات النظر السياسية للملكة والمسافة المتزايدة بينها وبين رئيسة الوزراء على جنوب إفريقيا إلى صحيفة (صنداي تايمز)».
كما حصلت حكومة الفصل العنصري على «الدعم غير المحدود» من الدعاة في الولايات المتحدة مثل جيمي سواجارت وجيري فالويل، حتى إن فالويل شجّع الملايين من المسيحيين في الولايات المتحدة لشراء العملة الذهبية التي صكت لأول مرة في 1967 لدعم سوق الذهب في جنوب إفريقيا واقتصادها بشكل عام. واستند جزء كبير من معارضة الولايات المتحدة لفرض العقوبات على ركيزتين: الأولى هي أن العقوبات ستضر السود في جنوب إفريقيا أكثر من البيض، والثانية هي ضرورة الحفاظ على قوة جنوب إفريقيا لمنع الشيوعية من اجتياح القارة السمراء.
ويستشهد نيكسون بقول أحد المحافظين وهو وزير أمريكي أسود. «أنا أكره الشيوعية أكثر مما أكره الفصل العنصري».
ويخلص نيكسون في نهاية عمله إلى أنه إذا كانت الحرب الدعائية حققت أي شيء في الواقع، فهو تأخير ما لا يمكن الفرار منه، وهو إعطاء السود حقوقهم على أكمل وجه.

 

تأليف: رون نيسكون

الدور الأمريكي في الصراع الفلسطيني

الدور الأمريكي في الصراع الفلسطيني

%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%b1%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a

تأليف: جيرمي آر. هاموند عرض وترجمة: نضال إبراهيم
 
لماذا ظل السلام في الشرق الأوسط صعب المنال ومراوغاً إلى هذا الحد الكبير؟ ما العقبات الحقيقية أمام إنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»؟ لماذا يبدو الدور الأمريكي ملتبساً، وسلبياً في كثير من الأحيان؟ لا يقدّم هذا العمل الأجوبة عن هذه الأسئلة فقط، بل يوضّح أيضاً الأسباب التي تمنع المسؤولين الحكوميين الأمريكيين من الإدلاء بآرائهم على وسائل الإعلام الرئيسية التي يجدها مؤلف العمل متواطئة مع الاحتلال «الإسرائيلي». كما يوجه الكاتب جيرمي نداء إلى الأمريكيين للوقوف في وجه تغطية حكومتهم على جرائم ««إسرائيل»» بحق الفلسطينيين.
يوضح جيرمي هاموند في عمله هذا الأحداث الراهنة والعلاقات بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، مبيناً أن العائق الأكبر لعميلة السلام في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» هو الولايات المتحدة. ويركز هاموند على العديد من القضايا بشكل مفصل، خاصة ما يتعلق باللغة المستخدمة والأفعال المنافية لها فيما يتعلق بالدور الأمريكي الداعم ل«إسرائيل»، ويذهب في تحليل عالم اللغة المستخدم في الاتفاقيات المكتوبة أو غيرها، عبر وسائل الإعلام، والخطابات، والأحاديث العامة، كما يتوقف عند بنود القانون الدولي، حيث كل من الولايات المتحدة و«إسرائيل» تبرر أفعالها من خلال القانون الدولي، لكنهما في الحقيقة تفعلان ذلك، من خلال محاولة «إدارة التصورات»، وخلق «روايتهما» الزائفة.

الكتاب صادر حديثاً عن دار نشر «ورلد فيو بابليكيشن» في 538 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على عشرة أقسام، بعد تمهيد بقلم ريتشارد فولك ومقدمة بقلم جين إيبستين، وهي: صعود حماس في غزة، عملية الرصاص المصبوب، عملية السلام، بداية جديدة لأوباما، تقرير غولدستون، الالتزام بالجدية في عملية السلام، قتل في البحار العالية، العلاقة الخاصة، خدعة الدولة، مسألة فلسطين. خاتمة.

أكاذيب وانتهاكات مستمرة

مهد لهذا العمل ريتشارد فولك الذي شغل موقع المقرر الأممي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويقول: «هناك إدراك عام كبير على مستوى العالم أن الدبلوماسية كما تمت ممارستها من ناحية حل الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني لأكثر من عقدين من الزمن، قد فشلت، على الرغم من أن المسألة كانت مشروعاً كبيراً للحكومة الأمريكية على مدى عقدين من الزمن. في الواقع، ما هو أسوأ من الفشل، أن هذه الدبلوماسية القائمة على المماطلة سمحت ل«إسرائيل»، من خلال المواجهة والسرية، أن تسعى من دون هوادة إلى تحقيق رؤيتها في «إسرائيل» الكبرى «تحت غطاء واقٍ وقاس من الدعم الأمريكي. خلال هذه الفترة، أصبح الموقف المحلي الفلسطيني على نحو مستمر يسير نحو الأسوأ. والمحنة الإنسانية للشعب الفلسطيني باتت أسوأ وأكثر حدة من أي وقت مضى».
ويضيف فولك: «إن الاعتراف بهذا الواقع غير المرضي دفع الحكومات الأوروبية بشكل متأخر إلى الشك بإذعانهم للقيادة الأمريكية في حل الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، وأقنع المزيد من الناشطين الاجتماعيين في المجتمع المدني بالولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم إلى الاعتماد على تكتيكات التضامن غير العنيفة مع المقاومة الفلسطينية، وخاصة عن طريق حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي حققت زخماً كبيراً في السنة الماضية، وهي تقترب من نقطة مفصلية يبدو أنها تجعل القادة «الإسرائيليين» في حالة من الانفعال بشكل ملاحظ. كلا التحديين المذكورين للنهج الدبلوماسي لاتفاقية أوسلو مبني على اعتقاد أن «إسرائيل» أظهرت عدم رغبتها في التوصل إلى تسوية سياسية مع فلسطين على أساس تسوية تفاوضية حتى ضمن «عملية سلام» متحيّزة تشرف عليها الولايات المتحدة كوسيط مناصر ل«إسرائيل». في الواقع، لن يكون هناك حل للصراع من دون ممارسة ضغوط دولية أكبر على «إسرائيل» لتقليص طموحاتها في الأراضي الفلسطينية.
مثل هذا المشهد يعكس النظرة المؤثرة التي من شأنها استعادة الوسائل القسرية لحث الصهاينة والقادة «الإسرائيليين» في كل مكان على إعادة التفكير في خياراتهم السياسية إلى جوانب خطوط أكثر تنويراً».
يرى فولك أيضاً في تمهيده أن جيرمي هاموند يقدم في عمله هذا نهجاً مختلفاً، ويجده مصراً على أنه ليس فقط «عملية السلام» في أوسلو ظهرت أنها تشكل جسراً للاشيء، بل إن الحكومة الأمريكية تقف في تواطؤ إجرامي مع ««إسرائيل»»، حيث عارضت عن قصد وبشدة أي خطوة من شأنها أن تقود إلى تأسيس دولة فلسطينية مستقلة. ومثل هذا التقييم يفرض تحدياً مباشراً للهدف المفترض لهذه المفاوضات، وهو حل الدولتين المؤكد بشكل عالمي. حتى أن بنيامين نتنياهو، في وقت ما، اقرّ بشكل ما الموافقة على إقامة دولة فلسطينية، على الرغم من أنه في حرارة حملة انتخابية في مارس/آذار 2015، أظهر وجهه الحقيقي لل«إسرائيليين» من خلال وعده أنه لا دولة فلسطينية يمكن أن تتحقق طالما أنه يشغل موقع رئاسة الوزراء.
وما عزز نفاق نتنياهو هو تعيين داني دانون المعارض المتطرف لإقامة دولة فلسطينية منذ فترة طويلة، كسفير «إسرائيلي» في الأمم المتحدة، ما شكل صفعة أخرى في وجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما. في هذا الجانب، كانت الولايات المتحدة هي التي سعت لإبقاء الوعد المعطوب لعملية السلام في أوسلو على قيد الحياة من خلال الإصرار على أنه الطريق الوحيد والأخير لإنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي».

علاقة خاصة

يشير الكتاب إلى أن الرؤساء الأمريكيين في العقود الأخيرة سعوا بكل جهدهم إلى وضع عوائق أمام عملية إنهاء الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، والحكومة الأمريكية انضمت إلى «إسرائيل» في جهودها لنبذ كل أشكال الضغوط الدولية لتغيير الواقع الحالي للاحتلال، من بينها المبادرات الفلسطينية للاعتراف بها كدولة كاملة العضوية في نظام الأمم المتحدة أو من خلال السعي إلى حلول لمظالمهم من خلال اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية.
ويبين الكتاب أن الولايات المتحدة ساعدت «إسرائيل» على استخدام عملية السلام في أوسلو كعملية تأخير من شأنها أن تعطي «تل أبيب» الوقت لتقويض كل التوقعات الفلسطينية بالانسحاب «الإسرائيلي» ونيل الحقوق السيادية الفلسطينية. ويوضح أن الفكرة «الإسرائيلية» هي أن ترمي بكل الحقائق جانباً سواء في مسألة المستوطنات أو شبكة الطرق الخاصة لليهود أو جدار الفصل العنصري وغيرها، لفرض حل الدولة «الإسرائيلية» المفروضة من جانب واحد يكون فيها الفلسطيني مواطناً من درجة ثالثة.
يؤكد هاموند في عمله أن «إسرائيل» لا يمكن أن تنفذ هذه المخططات في الاستيلاء على الأراضي المحتلة من الضفة الغربية والقدس الشرقية من دون الفوائد التي تتلقاها من «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة. ويفضح الواقع الشنيع والغادر الذي تلعب فيه الولايات المتحدة دوراً كبيراً، ففي الوقت الذي تدعي فيه واشنطن أنها تفاوض لإنشاء دولة فلسطينية، تقوم بكل شيء في إطار نفوذها لضمان أن «إسرائيل» تملك ما يكفي من الوقت لجعل الأمر أقرب ما يكون من المستحيل على الصعيد العملي. ويبين أن الدور الأمريكي يضمن الوقوف في وجه كل أشكال التوبيخ من الأمم المتحدة على انتهاكات «إسرائيل» المتكررة للقانون الدولي، خاصة مع تزايد الأدلة التي تبين بوضح سلسلة الجرائم التي ترتكبها بحق الإنسانية.

إعلام متواطئ

يوضح هاموند أن الإعلام في الولايات المتحدة يدعم الدور الأمريكي في مسألة الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، خاصة صحيفة «نيويورك تايمز» التي تنسجم مع آلة الدعاية «الإسرائيلية»، إذ تصور أن الولايات المتحدة تبذل كل شيء ممكن لتحقيق حل في وجه الرفض الفلسطيني المتصلب.
ويهدف هاموند، من خلال تحليله للإعلام الأمريكي وكيفية تداوله هذا الصراع، إلى إيقاظ الشعب الأمريكي على ما يحدث من تضليل، مطالباً إياهم ببذل ما يمكن لتحدي هذه العلاقة الخاصة، واستبدالها بقيم العدالة والمصالح المشتركة التي تنسجم مع القيم الأمريكية والإنسانية الأصيلة، خاصة أنه يقدم العديد من الأدلة والأمثلة المتعلقة بالممارسات «الإسرائيلية» بحق الفلسطينيين والموقف الأمريكي الملتبس إزاءها، من أبرزها ما حدث في غزة من جرائم خلال سلسلة حروب شنها الاحتلال «الإسرائيلي» وخلّف ضحايا من المدنيين، وتهديم لمنازلهم، وتشريد الآلاف منهم، وكل ذلك على أمل تعبئة الرأي العام لإنتاج مناخ سياسي جديد يضطر فيها الرؤساء المنتخبون للسير وفق إرادة الشعب، والقيام بما يجب العمل به على الطريقة الأنسب، من موقعها كقوة عظمى، وبناء على القيم الأمريكية التي تعزز مفاهيم العدالة والمساواة والحرية.
ويبين أنه عند الإخلال بهذه «العلاقة الخاصة»، لا يمكن ل«إسرائيل» بأي شكل من الأشكال أن تستمر في سياستها الإجرامية بحق الفلسطينيين، ولن يكون هناك ما يقف عقبة أمام السلام مع تغيير موازين القوى، ومواجهة «إسرائيل» لحقائق جديدة على أرض الواقع، ما يمهد لحصول الفلسطينيين على حقوقهم في دولة ذات سيادة.
يتجاوز الكتاب في كونه يتناول الصراع الدور الأمريكي في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، إلى مناقشة دمار الثقة في العلاقة بين الحكومة الأمريكية ومواطنيها، والفشل الكارثي للإعلام في عمله كوصي على الحقيقة في تنفيذ واجباته الصحفية بطريقة تناسب المجتمع الحر.

سياسات إجرامية

يقول هاموند في خاتمة الكتاب: «منذ أن تم الاعتراف بفلسطين كدولة من قبل الأمم المتحدة، لم يتوقف الحصار على غزة والعنف بحقها، من بينها هجمة عسكرية كاملة النطاق شنتها «إسرائيل» ضد قطاع غزة تجاوزت عملية الرصاص المصبوب في المدة وفي عدد الوفيات. قتل فيها 2192 فلسطينياً، على الأقل 1523 منهم – أكثر من الثلثين – كانوا من المدنيين، من بينهم 287 امرأة و512 طفلاً. العملية التي استمرت لخمسين يوماً سميت «الحافة الوقائية» شنتها «إسرائيل» في 8 يوليو/تموز 2014، وانتهت بوقف إطلاق النار في 26 أغسطس/آب. مرة أخرى، وجّه الإعلام الأمريكي باللائمة إلى الفلسطينيين، على الرغم من أن واشنطن أدركت قدرتها المحدودة هذه المرة لإدارة التصورات، وانضمت إلى بقية العالم لانتقاد «إسرائيل» على قصف مدارس تابعة للأمم المتحدة»
ويضيف: «في الوقت الراهن، هناك تقسيم لا حدود له بين داعمي الحقوق الفلسطينية حيال مسألة إذا ما كان حل الدولة الواحدة أو الدولتين هو المفضل. إذا ما كان الحل لدولة ديمقراطية واحدة هو المفضل، فالخطوة الأولى نحوها هي إدراك ضرورة تنفيذ حل الدولتين بالتوافق مع الإجماع الدولي. القبول بدولة مؤلفة من 22 في المئة من فلسطين السابقة تشمل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، يجب ألا يشكل تنازلاً عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين لإعادتهم إلى موطنهم، ومن غير الواقعي التركيز على تحقيق ممارسة ذلك الحق، طالما أن الاحتلال ونظام المستوطنات ما زال مستمراً. فقط حينما ينتهي الاحتلال وتتخلى الحكومات العالمية عن دعم العنصرية، ويتحقق استقلال فلسطين، من الممكن أن يأتي التركيز على تحقيق حل عادل لمشكلة اللاجئين بفرصة حقيقية مثمرة. فقط حينما يمارس الفلسطينيون سيادتهم، وتكون لديهم القوة السياسية المطلوبة، يجوز العمل على إعادة اللاجئين الذين لا يزالون يعيشون على أمل العودة، ومطالبة «إسرائيل» بتعويض ضحايا التطهير العرقي».
كما يشدد في نهاية كتابه على ضرورة أن يتحمل الأمريكيون المسؤولية حيال ما تقوم به حكومتهم إزاء هذا الصراع، وأن يوجهوا جهودهم بشكل جماعي للتركيز على فضح الأكاذيب التي ينادي بها الإعلام الأمريكي، ولا بد للحقيقة أن تظهر، وأن يدفعوا الحكومة الأمريكية لعدم التورط في إراقة المزيد من الدماء، ودعم الاحتلال، وإزالة كل العوائق التي يمكن أن تقف في وجه عملية السلام في الشرق الأوسط بشكل عام.
ويقول الكاتب في آخر سطرين موجهاً كلامه للقراء الأمريكيين: «إن الأمر يعود لكم في كيفية استخدام المعرفة وأي تصور رأيتموه بين دفتي هذا الكتاب للمساعدة على إزالة العائق الأكبر الوحيد أمام حل سلمي وهو: السياسات الإجرامية لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية».

 

صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

دروس مستقاة من تجربتيْ سان فرنسيسكو ولوس أنجليس

صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية..آليات جديدة وآفاق

the-rise-and-fall-off-urban-economies

شهد العالم منذ انطلاق الثورة الصناعية وما ترتب عليها من إنجازات في مختلف مجالات الحياة تحوّلاً كبيراً في البنية المجتمعية نتيجة موجات الهجرات التي تتالت من الأرياف إلى المدن.

وهناك اليوم للمرّة الأولى في التاريخ الإنساني أكثر من نصف سكان المعمورة يعيشون في مناطق مدينية. هكذا بلغ عدد سكان بعض المدن عدّة ملايين، الأمر الذي ترتب عليه بالتوازي بزوغ فرع من الاقتصاد يتركّز على دراسة آليات نمو المراكز المدينية الكبرى وانحطاطها.

وفي كتاب جماعي ساهم فيه فريق من أربعة أساتذة جامعيين بإشراف «مايكل ستوربر»،أستاذ المسائل العمرانية في جامعة لوس انجليس ومساهمة «توماس كيمني»، أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة «سوتامبتون» و«ناجي مكرم» أستاذ التخطيط والتنمية في جامعة لندن و«تانير اوسمان»، الباحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس.

يحمل الكتاب عنوان «صعود وانحطاط الاقتصادات المدينية، دروس من سان فرنسيسكو و لوس انجليس». ويحاول المساهمون في هذا العمل الإجابة على السؤال الجوهري التالي: لماذا تحظى بعض المناطق المدينية بدرجة عالية من النجاح وخلق الثروات الاقتصادية الكبيرة بينما تراوح مناطق أخرى في مكانها أو تتقهقر إلى الوراء؟.

إن المساهمين في هذا الكتاب يركزون على دراسة تأثير «الاقتصاد الحديث» على نمو المدن الكبرى وازدهارها أو تقهقرها وتراجع نمّوها الاقتصادي وما يتبع ذلك على الأصعدة الأخرى. والفترة الزمنية التي يدرسونها بالنسبة لمدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس تمتد من سنوات السبعينات في القرن الماضي، العشرين وحتى الوقت الراهن.

وفي حالة المدينتين المعنيتين تتم دراسة كيفية الانتقال التي عرفتها كل منهما من «الاقتصاد الصناعي» إلى «اقتصاد المعلوماتية». والفكرة التي يتفق عليها المساهمون في هذا العمل هي أن سان فرنسيسكو«تميزت» على لوس انجليس بوجود «مجموعة من أصحاب المشاريع الذين امتلكوا رؤية بعيدة ومتناسقة، حيث تمّ تبنّي سياسات عامّة ترمي إلى تحسين آليات العمل بالاعتماد على الاقتصاد الرقمي».

the-rise-and-fall-off-urban-economies22

 

إن الإجابات المقدّمة في معرض المقارنة بين مدينتي سان فرنيسكو ولوس انجليس تأخذ في اعتبارها النتائج المحققة في الواقع. وهناك نوع من الاتفاق على أن سان فرنسيسكو عرفت مسارا متقدّما اقتصاديا على مدى السنوات الخمسين المنصرمة بينما راوحت لوس انجليس بمكانها «بأفضل التقديرات». والإشارة في هذا السياق أن مدينة أميركية أخرى هي «ديترويت»آلت في الفترة نفسها إلى الخراب تقريبا.

والبحث في هذا المجال عن أسباب وعوامل عديدة للصعود أو الانحطاط فيما يخص مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس وما عرفتاه من «تباين في كبير وواضح من حيث الكفاءات على ضوء النتائج الاقتصادية المحققة». والتركيز على العوامل المتعلّقة بالتكنولوجيات الحديثة والتمركز الجغرافي لبعضها مثل «وادي السيليكون»، عرين الصناعات الرقمية.

ويتم الوصول في محصّلة التحليلات المقدّمة بهذا الصدد إلى نتيجة أساسية مفادها أن «سان فرنسيسكو نجحت اقتصاديا كون أنها تملك مرونة أكبر تجعلها قابلة للتأقلم مع العالم وللانفتاح على العالم مما هو الأمر بالنسبة لعالم الأعمال الأكثر انغلاقا في لوس انجليس».

وعلى خلفية مثل هذا الواقع المتباين لم تستطع الشركات في لوس انجليس أيضا أن تبدي المقاومة الكافية لـ«زيادة الضرائب والضغوط» الصادرة من الإدارة المحلّية للمدينة أو من حكومة ولاية «كاليفورنيا».

ويولي المساهمون في هذا الكتاب بمختلف تحليلاتهم أهميّة كبيرة لذهنيّة عمل المسؤولين عن النمو الاقتصادي في النجاح الذي حققته سان فرنسيسكو خلال العقود الأخيرة قياسا بالفشل «إلى هذه الدرجة أو تلك» بالنسبة للوس انجليس. بالمقابل يقللون من مصداقية الآراء التي تعيد ذلك «الفشل» إلى وزن المهاجرين المتعاظم أو إلى «انهيار الصناعات الفضائية» في سنوات التسعينات.

وهناك عامل الهجرة وتواجد أعداد كبيرة من الذين تعود اصولهم لمختلف بلدان أميركا اللاتينية، وخاصة المكسيك وما يثقلون به على النمو الاقتصادي للمراكز المدينية التي يتواجدون بها. والإشارة في هذا السياق إلى وجود عوامل خارجية عن إرادة البشر المعنيين مثل الظواهر الطبيعية كالعواصف والجفاف وغيرهما من التغيرات المناخية.. هذه العوامل كانت لها آثار «مختلفة» على مدينتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس.

ما يؤكّده المساهمون في هذا الكتاب بمحصّلة المقارنة بين المدينتين من أجل استخلاص «الدروس» من تجربتهما خلال العقود الأخيرة أن منطقة سان فرنسيسكو هي اليوم «موطن اقتصاد المعرفة بامتياز وأنها الأكثر نجاحا في الولايات المتحدة الأميركية، بينما أن لوس انجليس تراجعت كثيرا خلف جارتها الشمالية وأيضا خلف عدد من المناطق المدينية الأميركية الأخرى».

والإشارة أن لوس انجليس كانت في ستينات القرن الماضي بمثابة «منارة الصناعة الانتاجية الأميركية». وكان الخبراء قد توقعوا أنها على وشك أن تتفوق على سان فرنسيسكو على «الصعيد السكاني، الديموغرافي، وعلى مستوى الدخل والقوّة الاقتصادية وبالمحصّلة في النفوذ».

تجدر الإشارة أن المساهمين في هذا الكتاب لا يكتفون بتحليل أسباب الصعود والانحطاط بالنسبة للاقتصادات المدينية، لكنهم يقترحون سلسلة من «الإستراتيجيات الاقتصادية» و«خطط العمل» التي قد يمكن للمسؤولين عن القطاعات المدينية استخدامها. ولعلّ الأهمية الأكبر بالنسبة للخطط والإستراتيجيات المقترحة أنها تتركز على المعطيات الخاصّة والموارد المختلفة بالمناطق المعنية ولا تعتمد على المساعدات الخارجية.

إن المساهمين في هذا الكتاب يشرحون أن «العوامل الخاصّة بالازدهار الاقتصادي المديني» قد غيّرت كثيرا من مرتكزاتها، بحيث غدا اقتصاد المعرفة وآليات عمل المشاريع والمرونة في الانفتاح على العالم في ظل الثورة الرقمية بمثابة عوامل حاسمة في المسيرات الاقتصادية «ازدهارا أو تقهقرا». وهذا يصحّ على حالتي سان فرنسيسكو ولوس انجليس كما في مختلف المناطق المدينية في العالم أجمع.

المؤلفون في سطور

مايكل ستوربر، المشرف على هذا الكتاب الجماعي، هو أستاذ المسائل العمرانية وتطوير المدن في جامعة لوس انجليس بكاليفورنيا. وتوماس كيميني، يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة لوس انجليس. يعمل أستاذا فيها. وناجي مكرم استاذ التنمية الاقتصادية في جامعة لندن وتانير اوسمان باحث في قسم التخطيط المديني بجامعة لوس انجليس. أما الاخرون، فهم يعملون في عدد من المؤسسات الاقتصادية المتنوعة.

الكتاب: صعود الاقتصادات المدينية وانحطاطها.. دروس من سان فرنسيسكو ولوس انجليس

تأليف: مايكل ستوربر وآخرون.
الناشر: جامعة ستانفورد ــ 2015
The rise and fall off Urban Economies
Michael Storper and…
Stanford University Press – 2015

ظل كيسنجر.. التأثير الطويل لرجل الدولة الأكثر إثارة للجدل في أمريكا

ظل كيسنجر.. التأثير الطويل لرجل الدولة الأكثر إثارة للجدل في أمريكا

تأليف: غريغ غراندين

 

book-about-kesinger

لفهم الأزمة المعاصرة في الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بحروبها التي لا تنتهي في الخارج، وكذلك الاستقطاب السياسي في الداخل، فإنه يبدو علينا أن نفهم هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي السابق للولايات المتحدة في أواخر الستينات ووزير خارجيتها من 1973 إلى 1977، بحسب المؤرخ غريغ غراندين، الذي يسلط الضوء في كتابه هذا على كتابات كيسنجر وأفكاره، ويتطرق إلى فترة دراساته العليا في جامعة هارفارد، ونظرته إلى الفلسفة والتاريخ والسياسة. ويحلل تأثير كيسنجر في جيل من السياسيين، الذي أعلنوا سياسة الحروب المفتوحة للولايات المتحدة، من دون اكتراث بالعواقب والضحايا، ويقدم تفسيراً جديداً للتأثير المستمر لهذا الدبلوماسي، ويركز على كيف نظر وينظر إلى دور الولايات المتحدة في العالم خلال 288 صفحة من القطع المتوسط.
بعد دراسة الكتابات الخاصة لكيسنجر، ومجموعة كبيرة من الوثائق التي رفعت عنها السرية حديثاً، يكشف غراندين في عمله هذا كيف أن كبير مستشاري الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1969 – 1974) في السياسة الخارجية، ساعد على إحياء نسخة يضفي عليها طابع العسكرة من الاستثنائية الأمريكية محورها الرئاسة الإمبريالية، حتى أنه كان يشرف على الهزيمة الأمريكية في فييتنام، والحرب الكارثية السرية وغير المشروعة في كمبوديا، ورغم ذلك كان كيسنجر يصرّ على أن الحدس لديه هو أكثر أهمية في تحديد السياسة من الحقائق الثابتة، وتعهد بأن أخطاء الماضي يجب ألا تعيق الإقدام على أي عمل جريء في المستقبل حتى أنه توقع، بل ساعد في تمكين صعود المثاليين من المحافظين الجدد الذين أخذوا أمريكا إلى حروب مدمرة في أفغانستان والعراق.
يتناول المؤلف بالتحليل كتابات كيسنجر وأفكاره، ومراحله الحياتية خاصة دراسته الجامعية وفترة الدراسات العليا لديه في جامعة هارفارد، ونظرته في فلسفة التاريخ، وفن الحكم وإحساسه بدور الأخلاق في السياسة. ثم يحلل قرارات كيسنجر في وقت لاحق في المجالات السياسية وصنع القرار من خلال هذه العدسة. ويعتقد أن المنشورات الأكاديمية الأولى لكيسنجر توفر معلومات مهمة حول تطور الفكري الكيسنجري.

ويحتوي الكتاب على عشرة فصول بعد تمهيد بعنوان «عن عدم رؤية الوحش»، ومقدمة بعنوان «التكهن بسجل وفيات»، وهي «ضربة كونية»، «الغايات والوسائل»، «ابتسم كيسنجر»، «نمط نيسكون»، «في مواجهة كيسنجر»، «عكس الوحدة»، «السرية ومشهد مسرحي»، «ما لا يمكن تصوّره»، «السبب والأثر»، «نحو الخليج»، «ظلام في الضوء»، والخاتمة جاءت بعنوان «كيسنجرية من دون كيسنجر»، بالإضافة إلى ملاحظات وهوامش في النهاية.

حروب مفتوحة

لا يركز هذا الكتاب في مجمل الفصول التي ذكرناها على شخصية كيسنجر ذاتها، بل بالأحرى على الدور الكبير الذي كان لديه في خلق العالم الذي نعيش فيه اليوم بالشكل الراهن، والذي بات يقبل حرباً لا نهاية لها بطبيعة الحال.
ويشير الكاتب إلى أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة، كان هناك العديد من نسخ الدولة الأمنية الوطنية، أي مؤسسة حربية شبه سرية وصفها مؤخراً المنظر السياسي مايكل غلينون بأنها «حكومة مضاعفة». إلا أن اللحظة التحويلية في تطور تلك الدولة حدثت في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، عندما عجّلت سياسات هنري كيسنجر، خاصة حرب السنوات الأربع في كمبوديا، تفككها، وأضعفت الأسس التقليدية – تخطيط النخبة، إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والدعم العام – التي استندت إليها. ومع ذلك حتى حينما كان تفكك دولة الأمن القومي القديم يسير على قدم وساق، كان هنري كيسنجر يساعد على إعادة هيكلتها في شكل جديد، رئاسة إمبريالية مستعادة قادرة على التحرك نحو عالم ما بعد فييتنام. (قائمة على مشاهد عنف مذهلة أكثر، وسرية مكثفة أكثر، واستخدام متزايد للحرب والعسكرة لدعم المعارضة المحلية والاستقطاب لتحقيق الفائدة السياسية).
ويقول: «إن الحرب الأمريكية الفاشلة في جنوبي شرقي آسيا دمّرت قدرة العامة على تجاهل عواقب أفعال واشنطن في العالم». أزيحت الستارة إلى الخلف، وبدا أن علاقة السبب والأثر كانت تظهر إلى المشهد، في تغطية من قبل سيمور هيرش وصحفيين استقصائيين آخرين عن جرائم الحرب الأمريكية، وكذلك في منح دراسية لجيل من المؤرخين الشكاكين الجدد، وفي عمل مخرجي الأفلام الوثائقية إيميل دي أنطونيو «في سنة الخنزير» وفيلم «القلوب والعقول» للمخرج بيتر دافيس، وبين مؤمنين حقيقيين سابقين مرتدين، مثل دانيال إيلزبيرغ، وفي المنطق الشرعي للمثقفين المعارضين مثل نعوم تشومسكي. الأسوأ، هو أن الإحساس بأن الولايات المتحدة كانت مصدر الكثير من السوء كما الخير في العالم، بدأ يتسرّب إلى الثقافة الشعبية، والروايات، والأفلام، والكتب الكوميدية».

واقعية كيسنجر

لا تبدو صــورة هنري كيسنجــر في الكتاب جذابة، إذ نقرأ عنه صفات الغطرسة والأنا والغرور، خاصة أن الكاتب يتطرق إلى أغلب الذين كتبوا عن كيسنجر وحياته ومواقفه ودور السياسي مثل سيمور هيرش، كريستوفر هيتشنز، والتر إيزاكسون، ومؤخراً، غاري باس.. «وعلى الرغم من المحاولات العديدة من بعض الكتّاب لتغيير هذه الصورة، إلا أن الأدلة ضد كيسنجر قوية، ولم يحاول أن يقف ضدها، إذ إن الأمر عبء لا يمكن تحمّله» كما علق أحد النقاد في صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية.
يتحدى غراندين في عمله هذا الحكمة التقليدية التي تصنف كيسنجر بأنه ينبغي أن يكون «واقعياً»، أي كرجل دولة يسير وفق حساب واقعي للمصلحة الوطنية العليا ومعايرة موازين القوى. بدلاً من ذلك، يرى غراندين أنه يمكن فهم كيسنجر على نحو أفضل على أنه «وجودي» اعتقد أنه في عالم خال من حقيقة موضوعية أو أنماط تاريخية لا مفر منها، يميز رجال الدولة العظماء أنفسهم من خلال العفوية والإجراءات الحازمة المتجذرة في الحدس بدلاً من التفكير العقلاني. «فلسفة العمل» لدى كيسنجر كما يراها غراندين، عاملت «الواقعيّة» ليس كعائق بل كشيء يتم إنشاؤه من قبل أفراد شجعان بما فيه الكفاية للتغلب على الجمود، وكسر أغلال البيروقراطية الطائشة، والمعارضة السياسية والمفاهيم القانونية مثل حرمة السيادة الوطنية.
ويهاجم المؤلف من خلال هذا الوصف كيسنجر وينتقد قراراته في كمبوديا وتشيلي وغيرها كتعبير عن وجهة نظر عالمية مشوهة تجاهلت عمداً العواقب الإنسانية. ويوجّه غراندين الاتهام إلى كيسنجر أبعد من ذلك، إذ يعتبر أن فلسفته وضعت أنماطاً معينة اعتنقها واضعو السياسات اللاحقة، خاصة على صعيد تنظيم تدخلات مريبة في دول عديدة في العقود التالية. وبهذه الطريقة، يجد الكاتب أن كيسنجر، الذي لم يشغل أي منصب حكومي كبير خلال ما يقرب من أربعة عقود، له دور مركزي في السياسة الأمريكية، بدءاً من فضيحة إيران كونترا في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم، إلى الحرب الأخيرة في العراق وحملة الرئيس أوباما في إطلاق الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى القبول الضمني بين القادة الأمريكيين لـ «حرب لا نهاية لها كأمر مفروغ منه».
كما يتطرق غراندين أيضاً بعض الشيء للحديث عن الساحات التي استعرض فيها كيسنجر ميوله الواقعية الأكثر وضوحاً وهي: خلال العلاقات الأمريكية -السوفييتية والعلاقات الصينية -الأمريكية. ويشير إلى أن كيسنجر بذل جهوداً لتخفيف حدة التوتر مع الاتحاد السوفييتي وفتح العلاقات مع الصين، إلا أن الأمر كان يعكس الرغبة في تحقيق مبادرات أكبر جاءت على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

كيسنجرية من دون كيسنجر

ويشير الكاتب في الفصل الأخير بعنوان «كيسنجرية من دون كيسنجر» إلى كتابه الصادر أخيراً بعنوان «النظام العالمي»، حيث يناقش بعض النقاط الواردة فيه، وخاصة فيما يتعلق بمعنى التاريخ، حيث يجد كيسنجر أن التاريخ يجب أن يتم اكتشافه، وليس إعلانه، مشيراً إلى أنها مسألة ينبغي علينا أن نحاول الإجابة عنها، بكل جهودنا في اعتراف بأنها ستبقى مفتوحة للنقاش.
ويشير غراندين إلى أن كيسنجر يجد أنه «من الضروري التعلم من الماضي كطريقة لتصور المستقبل: ربما بعض المزج لمعاهدة وستفاليا للسلام في 1648 ومؤتمر فيينا 1815، سيكون نموذجاً انصهارياً جيداً لاحتواء الإسلام وتوازن القوى بين الحلفاء المتنافسين».
ويقول «منذ أن ترك كيسنجر منصبه كوزير خارجية في 1977، وسمعته تشهد تقلبات. فقد كانت أوائل التسعينات سنوات جيدة له، حيث احتضنه الديمقراطي بيل كلينتون. صحيح أنه كانت هناك اختلافات لدى الرجلين بشأن السياسة العسكرية، لكنهما اتفقا على الاقتصاد، خاصة الحاجة إلى التقدم عبر اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتي ساعدت كيسنجر، بشكل غير رسمي، على التفاوض فيها».
ويشير المؤلف إلى ما كتبه الاقتصادي جيف فوكس عنه قائلاً: «رجل الدولة السابق كان المعلّم المثالي لرئيس ديمقراطي جديد يحاول أن يقنع الجمهوريين وحلفاءهم التجاريين بحيث يعتمدون عليه لتأييد رؤية ريغان».
ويعلق هنا الكاتب: «لكن بعد ذلك بعقد، مع موت بول بوت واعتقال بينوشيه في لندن آثار الأشباح القديمة، ليتم التذكير بأفعال كيسنجر في كمبوديا وتشيلي. وبعد ذلك بوقت قصير، نشر كريستوفر هيتشنز كتاباً حقق أعلى المبيعات يتهم فيه كيسنجر بارتكاب أعمال إجرامية، إلى درجة المطالبة بمحاكمته كمجرم حرب».
وبعد التفجيرات الإرهابية التي ضربت برجي التجارة في نيويورك، أصبح كيسنجر مقرباً من بوش الابن، حتى أن بوش وضعه كرئيس التحقيق الرسمي في الهجمات، إلا أنه لقي اعتراضات بسبب تعاملاته التجارية السابقة. ويقول الكاتب في خاتمة الكتاب أنه ما من مستشار أمن قومي سابق أو وزير خارجية فرض سيطرته بهذا الشكل، بعد مغادرة المنصب، كما فعل كيسنجر.
كما يعود الكاتب ليذكّر أن بوش الأب عين العديد من حلفاء كيسنجر المقربين في مناصب السياسة الخارجية، وكيسنجر نفسه، عبر زملائه، أصبح صاحب نفوذ عالمي. ففي سنوات الثمانينات والتسعينات، تصرف كمبعوث في الظل للصين، وبدأ التنسيق مع الرئيس المكسيكي ليصلا إلى ما أصبح منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا».
كما قدم استشارات لحكومات أمريكا اللاتينية حول أفضل طريقة لخصخصة صناعاتهم.
ويذكر الكاتب أيضاً جملة من الانتقادات التي توجهت لكيسنجر، حيث كان يستخدم العقود بشكل خاص، في الوقت الذي كانت حكومية رسمية، وآخرون أشاروا إلى أن عمله الاستشاري هو صراع المصلحة، وأوضحوا أن زملاءه قد استفادوا من نتائج ساسة كيسنجر الخارجية حينما كان في منصبه وغيرها.
ويقول الكاتب عن كيسنجر الذي تجاوز العقد التاسع من عمره «إن كيسنجر يحرض على حرب مفتوحة لا نهاية لها اليوم، ليبرر ما فعله في كمبوديا وتشيلي و(أماكن أخرى) قبل ما يقارب نصف قرن من الزمن. إلا أن ما فعله قبل ما يقارب نصف قرن خلق الظروف الراهنة لحروب اليوم التي لا نجد نهاية لها».

نبذة عن المؤلف

الدكتور غريغ غراندين مؤلف لعدد من الكتب الحائزة جوائز مرموقة، من بينها «إمبراطورية الضرورة: العبودية، الحرية، والخداع في العالم الجديد»، والذي فاز بجائزة بانكروفت في التاريخ الأمريكي، وكان على قائمة الكتب المرشحة لنيل جائزة صمويل جونسون في المملكة المتحدة. وله أيضاً كتاب فوردلانديا: صعود وسقوط مدينة الغابة المنسية لهنري فورد (2009)، وصل إلى القائمة النهائية لجائزة بوليتزر في التاريخ، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الوطني وجائزة دائرة نقّاد الكتاب الوطني، واختارته العديد من الصحف الأمريكية كأفضل كتاب في التاريخ سنة إصداره.
غراندين أيضاً مؤلف «ورشة عمل الإمبراطورية: أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، وصعود الإمبراطورية الجديدة» (2005)، ومن كتبه أيضاً: «مجزرة المستعمرة الأخيرة: أمريكا اللاتينية خلال الحرب الباردة» (2004)، و«دم غواتيمالا: تاريخ العرق والأمة» (2000)، الذي فاز بجائزة مرموقة على مستوى أمريكا اللاتينية. يعمل حالياً أستاذ التاريخ في جامعة نيويورك، وعضو في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، ويكتب عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية، وأمريكا اللاتينية، والإبادة الجماعية، وحقوق الإنسان. وينشر في أبرز الصحف الأمريكية والبريطانية. كما عمل غراندين أيضاً كمستشار لجنة لتقصي الحقائق للأمم المتحدة في غواتيمالا.

تأليف: غريغ غراندين
عرض وترجمة: نضال إبراهيم

 

 

في الجحيم الأوروبي: 1914 ــ 1945

عودة إلى تاريخ دام قريب لإدراك طرق الحاضر

في الجحيم الأوروبي: 1914 ــ 1945

 

europe-hell-1

 

شهدت القارّة الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين انطلاق حربين عالميتين كان ضحيتهما عشرات الملايين من البشر وكثير من الخراب. ذلك بالتوازي مع خروج القوى الأوروبية الكبرى من مركز دائرة القرار على المستوى العالمي وصعود قوتين عظميين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق.

والمؤرّخ البريطاني الشهير ايان كيرشو، أستاذ التاريخ لسنوات طويلة في جامعة شيفلد، والذي قدّم سلسلة من الأعمال حول النازية وزعيمها هتلر، يكرّس كتابه الأخير لمحاولة إعادة قراءة التاريخ الأوروبي المضطرب الذي عرفته القارّة القديمة اعتبارا من اندلاع الحرب العالمي الأولى عام 1914 وحتى عام 1949.

 

europe-hell-2

 

يحمل الكتاب عنوان «في الجحيم الأوروبي، 1914 ــ 1949». ويحدد المؤلف ــ المؤرّخ هدفه منذ البداية بالتأكيد أنه من الهام معرفة ما عانت منه القارة في الأمس من أجل فهم أوروبا اليوم. الخطوة الأولى في التعرّف على الواقع الأوروبي المأساوي خلال الفترة المدروسة يتطلّب قبل كل شيء توضيح «العوامل التي قادت القارّة إلى الجحيم»، حسب التعبير المستخدم.

ويشرح المؤلف أن اختياره لعام 1949 وليس لعام 1945 عند نهاية الحرب العالمية الثانية يعود إلى رغبته في فهم «كيف استطاعت القارّة المدمّرة النهوض من رمادها، ذلك أن ملامح أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تظهر واضحة سوى في عام 1949».

كما يربط ذلك بالقول أن الطموحات الألمانية بالسيطرة «لم تخمد نهائياً» سوى في عام 1949 بينما كانت لا تزال تلك الطموحات قائمة في عام 1945. بالتوازي مع ذلك في عام 1949 امتلك الاتحاد السوفييتي قنبلته الذريّة وبرزت «الثنائية الدولية» ليسود بالوقت نفسه نوع من السلام في ظل التهديد بالدمار الشامل المتبادل. وما كان يعني قيام مرحلة عالمية، وأوروبية، جديدة.

ويركّز المؤلف تحليلاته على شرح العوامل الرئيسية التي يرى أنها كانت قائمة بقوّة خلال الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العامية الأولى عام 1914، «الحرب الكبرى»، حسب التوصيف المستخدم لها، وبقيت تلك العوامل فاعلة في فترة ما بين الحربين العالميتين وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939.

هذا مع تحديد القول إن ألمانيا كانت هي المسرح الذي عرف أكثر تعبيرات تلك العوامل قوّة ووضوحاً. من هنا بالتحديد غدت في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، حسب التحليلات المقدّمة، مركز «انطلاق الحروب والتدمير» على صعيد القارة الأوروبية. ومن العوامل التي ساعدت على ذلك، حسب المؤلف، وجود سلطة عسكرية قويّة فيها.

تلك العوامل التي كانت وراء نشوب النزاعات الكبرى في القارّة أو شكّلت التربة الخصبة لنشوبها يتم تحديدها في أربعة أمور أساسية تتمثّل في «تصاعد النزعات القومية المتشددة» و«تكاثر النزاعات الحدودية في القارّة» بالتوازي مع «تعاظم النزاعات الاجتماعية ذات الطبيعة الطبقية» مع انتشار الأنظمة الشمولية ــ التوتاليتارية ــ من شيوعية وفاشية ونازية، وأخيرا «الأزمة الكبيرة والمستمرّة للرأسمالية» وانفجارها في الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية عام 1929، الأكبر في التاريخ الحديث.

تلك الأزمة التي ترتب عليها وأعقبها ما عُرف بـ«الكساد الكبير». وكان من بين أكبر نتائجها على الصعيد الأوروبي السياسي، بالتوازي مع تفاقم أزمة المنظومة الرأسمالية العالمية حتى نهاية عقد الثلاثينات، الصعود الذي عرفه الحزب النازي ووصوله إلى السلطة في ألمانيا.

هنا يفتح المؤلف قوسين كي يشرح واقع الوضع الصعب الذي كانت تعرفه ألمانيا في بداية عقد الثلاثينات الماضي. هكذا يشير أن «15 بالمائة فقط من العاطلين عن العمل الألمان كانوا يحصلون على مستحقاتهم كاملة والضئيلة أصلاً، و25 بالمائة كانوا بحاجة لمساعدة ملحّة بينما كان 40 بالمائة يعيشون على المساعدات المقدّمة للفقراء والـ20 بالمئة الباقين لم يكونوا يحصلون على شيء»، كما نقرأ.

ذلك الوضع تلخصه جملة ينقلها المؤلف عن أحد المراقبين الألمان مفادها أن «البلاد برمّتها كانت تعيش حالة من الضنك والفقر (…). والناس يعيشون جحيما حقيقيا من البؤس والاضطهاد والمرض». ويشرح المؤلف أنه في مثل ذلك السياق صعد الحزب النازي ووصل هتلر إلى قمّة السلطة.

تجدر الإشارة أن مؤلف هذا الكتاب لا يدرس على مدى صفحاته صعود النازية في ألمانيا فحسب، لكنه يدرس أيضا «سلوكيات» مختلف القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي قادت أوروبا خلال الفترة المعنيّة 1914ــ 1949 نحو الفوضى والحروب.

إن المؤلف يعود طويلاً وبأشكال مختلفة إلى الحرب العالمية الأولى والمذبحة التي عرفتها، حيث دفعت أوروبا نحو «الجحيم». ويشرح أن الأوروبيين ساد لديهم الاعتقاد أن تلك المأساة لن تتكرر. لكن «حتى في الجحيم يمكن أن يقع ما هو أسوأ». ولعلّ ها هو الدرس الكبير الذي يريد المؤلف أن يخرج فيه.

ولا يتردد «كيرشو» في التأكيد أن أوروبا خرجت من الحرب العالمية الأولى «مدمّرة اقتصاديا» و«نظامها السياسي وقيمها» يعانيان من هزّة كبيرة. والتأكيد أيضا أن صدمة الجيل الأوروبي الذي خاض تلك الحرب وخرج منها حيّا كانت، أي الصدمة، مريعة. وأثار هلع أغلبية الأوروبيين أن حربا قاتلة أخرى انطلقت من القارّة وشكّل المدنيون هذه المرّة أحد أهدافها الرئيسية.

يصل أيان كيرشو في المحصّلة إلى أن ذلك «الجحيم الأوروبي»، كما يشير عنوان الكتاب، الذي شهد حربين كونيتين أظهر «إفلاس» النموذج ــ الموديل ــ الأوروبي وقدرته على اقتراف كل أنواع البربرية«.

وكانت نتيجة ذلك التدمير الذاتي هي بروز قوتين عظميين جديدتين على المسرح العالمي هما الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق. ودخول القارّة»المدمرة«في محصّلة ذلك بـ»حرب باردة«تقودها تلك القوتان العالميتان.

ويشرح المؤلف ــ المؤرّخ بالكثير من التفاصيل ومن الدقّة التاريخية الفترة المضطربة التي عاشتها القارّة الأوروبية خلال النصف الأول من القرن الماضي، العشرين.

وهو يحلل الأحداث ــ الحروب المأساوية لذلك»الجحيم الأوروبي” عبر التركيز على أربعة عوامل أساسية، وهي: تعاظم النزعات القومية على خلفية إثنية ونشوب النزاعات الحدودية وانفجار أشكال الصراع الطبقي والأزمة الكبيرة والمستمرّة لأزمة الرأسمالية التي كانت أزمة عام 1929 عنوانها الأكثر بلاغة.

المؤلف في سطور

ايان كيرشو. مؤرّخ بريطاني. يعمل أستاذاً للتاريخ الحديث في جامعة شيفلد. يحظى بشهرة عالمية كمؤرّخ للنظام النازي في ألمانيا عموماً ولسيرة حياة أدولف هتلر ولمساره السياسي خصوصاً. من مؤلفاته: سيرة حياة هتلر، عشرة قرارات غيّرت العالم، النهاية، ألمانيا 1944ــ 1945.

 

الكتاب: في الجحيم الأوروبي..

أوروبا، 1914 ــ 1949

تأليف: ايان كيرشو

الناشر: آلن لين ــ 2015

الصفحات:

592 صفحة

القطع: المتوسط

To Hell and Back

Ian Kershaw

Allen Lane– 2015

592 PP