هل يهدد الذكاء الاصطناعي الصحافة أم أن التكنولوجيا ستأكل نفسها؟

 

قبل أن نبدأ، أريد أن أخبركم أن هذا المقال كتبه بشريّ، لكنني لا أستطيع أن أؤكد ذلك بالنسبة لمقالات “News Corp”، فهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي لإنتاج نحو 3000 قصة إخبارية في أستراليا كل أسبوع، وهم ليسوا الوحيدين في ذلك، فالكثير من الشركات الإعلامية حول العالم بدأت في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج المحتوى.

حتى الآن، آمل أن يكون معلومًا لدى الجميع أن النماذج اللغوية الكبيرة مثل “GPT-4” لا تنتج الحقائق، لكنها تتنبأ باللغة، يمكننا أن نتصور “ChatGPT” كجهاز شرح آلي، غالبًا ما يُخطئ لكنه واثق دائمًا.

ورغم التأكيد على الإشراف البشري، فيجب أن نشعر بالقلق عند تقديم المواد التي أُنتجت بتلك الطريقة كصحافة، وبغض النظر عن قضايا انعدام الدقة والمعلومات الخاطئة، فإن قراءتها تكون مروعة حقًا.

لم تكن مزارع المحتوى بالشيء الجديد، فوسائل الإعلام تنشر الهراء منذ فترة طويلة وقبل وصول الذكاء الاصطناعي، ما تغير هو السرعة والحجم وانتشار هذا الهراء.

تنتشر شركة “News Corp” بشكل واسع في أستراليا، لذا فإن استخدامها الذكاء الاصطناعي أمر يستدعي الانتباه، حتى الآن يبدو أن إنتاج تلك المواد مقصور على إنتاج معلومات عن الخدمات المحلية بشكل جماعي، مثل مواد عن كيفية الحصول على أرخص بنزين أو تحديثات حركة المرور، لكن لا ينبغي علينا الوثوق في ذلك لأنه إشارة إلى أين تتجه الأمور.

في شهر يناير/كانون الثاني، ضُبط موقع “CNET” وهو ينشر مواد مُنتجة عن طريق الذكاء الاصطناعي ومليئة بالأخطاء، منذ ذلك الحين، استعد الكثير من القرّاء لهجمة المواد المُنتجة عن طريق الذكاء الاصطناعي.

في الوقت نفسه، اتحد موظفو “CNET” وكتاب هوليوود وأضربوا احتجاجًا على كتابات الذكاء الاصطناعي (وأشياء أخرى) وطالبوا بحماية أفضل ومساءلة فيما يتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي، فهل حان الوقت لكي ينضم بقية الصحفيين لدعوات تنظيم الذكاء الاصطناعي؟

يعد استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي جزءًا من تحول أوسع لمؤسسات الإعلام السائدة تجاه العمل كمنصات رقمية متعطشة للبيانات ذات خوارزميات فعالة تتوق لجذب الانتباه، لكن معارضة شركات الإعلام للإصلاحات الحاسمة لقانون الخصوصية الذي سيساعد في الحد من هذا السلوك وحمايتنا عبر الإنترنت، يجعل هذه الإستراتيجية واضحة تمامًا.

دفعت مشكلة تناقص الربح الأزلية لدى وسائل الإعلام التقليدية بالاقتصاد الرقمي، إلى تبني بعضهم المنصات الرقمية لنموذج أعمال رأسمالية المراقبة، فبعد كل شيء، إن لم تستطع مكافحتهم، انضم إليهم، لكن إضافة محتوى الذكاء الاصطناعي إلى هذا المزيج لن يحسن الأمور بل سيجعلها تتجه إلى الأسوأ.

ماذا سيحدث عندما يهيمن محتوى الذكاء الاصطناعي على الإنترنت، فتصبح النماذج الجديدة مُدربة على مخرجات الذكاء الاصطناعي وليس مواد من صنع البشر؟ هل يتركنا ذلك مع نوع من الأوروبورس الرقمي الملعون الذي يأكل ذيله؟ (الأوروبورس: رمز من مصر القديمة يصور ثعبانًا أو تنينًا يأكل ذيله).

هذا ما أطلق عليه الباحث جاثان سادوفسكي اسم “Habsburg AI” في إشارة إلى السلالة الملكية الأوروبية سيئة السمعة، يمثل “Habsburg AI” نظامًا مدربًا على مخرجات لنماذج أخرى مولدة عن طريق الذكاء الاصطناعي، ليصبح متحولًا فطريًا مليئًا بالمبالغات والسمات المتنافرة.

وكما اتضح لنا، فإن الأبحاث تعتقد أن النماذج اللغوية الكبرى مثل هذه التي تشغل “ChatGPT” ستنهار سريعًا عندما تصبح البيانات قادمة عن طريق الذكاء الاصطناعي وليس مواد أصلية أنتجها البشر.

وجدت أبحاث أخرى أنه من دون بيانات حديثة، فإننا نخلق حلقة تلقائية محكومًا عليها بالتدهور التدريجي في جودة المحتوى، قال أحد الباحثين: “إننا على وشك أن نملأ الإنترنت بالهراء”، والمؤسسات الإعلامية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإنتاج قدر كبير من المحتوى تساهم في التعجيل بتلك المشكلة، لكن ربما يكون ذلك سببًا للتفاؤل المظلم، فهذا المحتوى قد يدمر نفسه بنفسه.

إن وجود الذكاء الاصطناعي في الإعلام ليس أمرًا سيئًا دائمًا، فهناك تطبيقات أخرى له قد تفيد العامة، على سبيل المثال، قد يساعد الذكاء الاصطناعي في تسهيل الوصول وذلك بالمساعدة في مهام مثل نسخ المحتوى الصوتي وإنتاج وصف للصور وتسهيل تحويل النص إلى حديث، هذه حقًا تطبيقات مثيرة.

إن ربط صناعة الإعلام المتعثرة بعربة الذكاء الاصطناعي التوليدي ورأسمالية المراقبة لن يخدم مصالحنا على المدى البعيد، فالناس في المناطق الإقليمية يستحقون تقارير محلية أفضل، والصحفيون يستحقون حماية من انتهاك الذكاء الاصطناعي لوظائفهم.

إننا بحاجة إلى إعلام قوي ومتنوع ومستدام يبقي الناس على اطلاع ويحاسب المخطئين ممن هم في موقع السلطة، بدلًا من نظام يستورد مشكلات وادي السيليكون.

المصدر: الغارديان

كيف انقلب مخترع روبوت الدردشة الأول ضد الذكاء الاصطناعي؟

 

 

 

 

 

في سنة 1966، أنشأ أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يُدعى جوزيف فايزنباوم أوّل روبوت دردشة، واستخدمه في دور معالج نفسي حيث يكتب المستخدم رسالةً على آلة كاتبة كهربائية متصلة بإطار مركزي وبعد لحظة يجيبه “المعالج النفسي”.

المستخدم: جميع الرجّال متشابهون.

روبوت الدردشة: من أيّ ناحية؟

المستخدم: إنهم دائمًا ما يزعجوننا بشيء أو آخر.

روبوت الدردشة: هل يمكنك التفكير في مثال محدّد

المستخدم: حسنًا، لقد أجبرني صديقي على القدوم إلى هنا.

روبوت دردشة: أجبركِ صديقكِ على القدوم إلى هنا؟

المستخدم: يقول إنني أعاني من الاكتئاب في معظم الأوقات.

روبوت الدردشة: أنا آسف لسماع أنك تعانين من الاكتئاب.

نشر فايزنباوم هذه المحادثة النموذجية في مقال شرح فيه كيفية عمل روبوت الدردشة. كان البرنامج بسيطًا نسبيًا، وكل ما يفعله هو النظر في مُدخلات المستخدم وتطبيق مجموعة من القواعد لتوليد استجابة معقولة. سُمي البرنامج بـ “إليزا” على اسم إليزا دوليتل في مسرحية بيغماليون. تستخدم هذه الفتاة التي تشبّه بزهرة كوكني في مسرحية جورج برنارد شو اللغة لتخلق الوهم: فهي ترفع مستوى خطابها إلى الحد الذي يمكنها من التظاهر بأنها دوقة. وبالمثل، كان البرنامج “إليزا” يتحدث بطريقة تخلق الوهم بأنه يفهم الشخص الجالس أمام الآلة الكاتبة.

كتب فايزنباوم “كان من الصعب للغاية إقناع بعض المشاركين بأن إليزا (بشكلها الحالي) ليست بشريّة”. وفي مقال لاحق نشره في السنة التالية، كان أكثر تحديدًا: طلبت سكرتيرته في أحد الأيام قضاء بعض الوقت مع إليزا. وبعد لحظات قليلة، طلبت من فايزنباوم مغادرة الغرفة. وأشار “أعتقد أن هذه الحكاية خير دليلٍ على نجاح البرنامج في الحفاظ على وهم الفهم”.

لا يعتبر برنامج إليزا غامضًا تمامًا، إذ أحدث ضجّة في ذلك الوقت – أرسلت صحيفة “بوسطن غلوب” مراسلًا ليجرّب الآلة الكاتبة ويدير مقتطفًا من المحادثة – التي لا تزال أحد أشهر التطورات في تاريخ الحوسبة. وفي الآونة الأخيرة، جدّد إطلاق روبوت الدردشة تشات جي بي تي الاهتمام بهذا البرنامج. في السنة الماضية، تطرّقت كل من صحيفة الغارديان ونيويورك تايمز وأتلانتيك وبعض المنافذ الأخرى إلى برنامج إليزا. والسبب الذي يجعل الناس لا يزالون يفكّرون في برنامج يناهز عمره 60 سنة لا علاقة له بجوانبه التقنية التي لم تكن متطورة كثيرًا حتى بمعايير عصرها. بدلاً من ذلك، سلطت إليزا الضوء على آلية عمل العقل البشري التي تؤثر بشدة على طريقة اتصالنا بأجهزة الحاسوب.

في بداية حياته المهنية، لاحظ سيغموند فرويد أن مرضاه يقعون في حبّه باستمرار فخلص إلى أن السبب لم يكن سحره أو وسامته الاستثنائية، وإنما كان شيئا أكثر إثارةً للاهتمام: وهو التحويل أو ما يُعرف بالانتقال. باختصار، يشير التحويل إلى ميلنا إلى إظهار مشاعر كنا نكنّها لشخص من ماضينا إلى شخص في حاضرنا. وبينما يُعتبر التحويل عنصرًا مُهمًا في علم التحليل النفسي، فإنه أيضًا من السمات التي تشوب جميع العلاقات. فعندما نتفاعل مع أشخاص آخرين، نستحضر دائمًا مجموعة من الأشباح إلى ذلك اللقاء. وتعتبر بقايا حياتنا السابقة وقبل كل شيء طفولتنا الشاشة التي نرى من خلالها بعضنا البعض.

يساعد هذا المفهوم في فهم ردود أفعال الناس تجاه برنامج “إليزا”. صادف فايزنباوم النسخة المحوسبة من ظاهرة التحويل، ولاحظ كيف يسقط الناس الفهم والتعاطف والخصائص الإنسانية الأخرى على البرمجيات. ومع أنه لم يستخدم هذا المصطلح أبدًا، إلا أنه كان له تاريخ طويل مع التحليل النفسي الذي أظهر بوضوح كيف فسّر ما يمكن أن يسمى “تأثير إليزا”.

مع اكتساب أجهزة الحاسوب قدرات أكبر، بات تأثير إليزا أقوى ويبدو ذلك جليًا من خلال الطريقة التي يتعامل بها العديد من الأشخاص مع “تشات جي بي تي”. يعمل روبوت المحادثة بواسطة “نموذج لغة كبير”، وهو نظام رياضي تم تدريبه على التنبؤ بالسلسلة التالية من الأحرف أو الكلمات أو الجمل في تسلسل. وما يميّز “تشات جي بي تي” ليس فقط درجة تعقيد نموذج اللغة الطبيعي الذي يكمن وراءه، وإنما أيضًا مستوى سلاسة المحادثة. وعلى حد تعبير كولين فريزر، عالم البيانات في ميتا، فإن التطبيق “مصمم لخداعك وجعلك تعتقد أنك تتحدث إلى شخص ليس موجودًا فعليًا”.

لكن تأثير إليزا ليس السبب الوحيد لتذكّر فايزنباوم. مثّلت تجربته مع البرنامج بداية رحلة رائعة. وبصفته أستاذًا موقرًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فقد كان – على حد تعبيره – “رئيس كهنة، إن لم يكن أسقفًا، في كاتدرائية العلوم الحديثة”. لكن بحلول سبعينيات القرن الماضي، ارتدّ جوزيف فايزنباوم بنشر مقالات وكتب تدين النظرة العالمية لزملائه وتحذّر من المخاطر التي يشكّلها عملهم، إذ بات يعتقد أن الذكاء الاصطناعي كان “مؤشرًا لجنون عالمنا”.

اليوم، لم تعد وجهة النظر القائلة إن الذكاء الاصطناعي يمثّل تهديدًا من أفكار أقلية بين صفوف أولئك الذين يعملون في هذا المجال. وتختلف الآراء حول المخاطر التي ينبغي أن نكون أكثر قلقًا بشأنها، لكن العديد من الباحثين البارزين، من تيمنيت غيبرو إلى جيوفري هينتون – وكلاهما من علماء الحاسوب السابقين في غوغل – يشاركون الرأي الأساسي القائل إن التكنولوجيا قد تكون سامة. وتشاؤم فايزنباوم جعل منه شخصية منعزلة بين علماء الحاسوب خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، لكن كان يمكن يكون أقلّ وحدة لو عاش في سنة 2023.

أصبحت الكثير من أفكار فايزنباوم ذات أهمية مُلحّة في الوقت الحالي. وربما كانت بدعته الأساسية الاعتقاد أن ثورة الحاسوب، التي لم يعشها فايزنباوم فحسب بل شارك فيها بشكل أساسي، كانت في الواقع ثورةً مضادة. لقد عزّزت هياكل السلطة القمعية بدلاً من قلبها رأسًا على عقب، وأدّت إلى تقييد إنسانيتنا بدلاً من توسيعها مما دفع الناس إلى النظر إلى أنفسهم على أنهم ليسوا أكثر من مجرّد آلات. وكان يعتقد أنه من خلال التنازل عن العديد من القرارات لأجهزة الحاسوب، نكون قد خلقنا عالمًا أكثر تفاوتا وأقل عقلانية، حيث تم تهميش ثراء العقل البشري في الإجراءات الروتينية غير المنطقية للتشفير.

ما أراد فايزنباوم قوله هو أن كل شخص نتاج تاريخ معين. تحمل أفكاره بصمات تاريخه الخاص الذي تشكل من خلال فظائع القرن العشرين ومطالبه الشخصية الشيطانية. وصلت إليه أجهزة الحاسوب بشكل طبيعي. لكن الأصعب حسب فايزنباوم كان الحياة.

ما يعنيه أن تكون إنسانًا – وكيف يختلف الإنسان عن الحاسوب – سؤال قضى فايزنباوم الكثير من الوقت في التفكير فيه. من الواضح أن إنسانيته كانت موضع نقاش منذ البداية. عانت والدته من مخاض صعب، وشعرت ببعض الإحباط نتيجة لذلك. يتذكّر فايزنباوم في وقت لاحق: “عندما قُدّمت إليها أخيرًا، اعتقدت أنني كنت غريب الشكل وبالكاد أبدو إنسانًا. لم تصدق أن هذا كان من المفترض أن يكون طفلها”.

وُلد فايزنباوم في سنة 1923، وهو الابن الأصغر لعائلة يهودية من الطبقة المتوسّطة العليا في برلين. كان والده جيشيل، الذي هاجر إلى ألمانيا من غاليسيا التي امتدت على ما يعرف الآن بجنوب شرق بولندا وغرب أوكرانيا، في سن الثانية عشرة تاجر فراء بارع يتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع، ويملك شقة جميلة، وزوجة نمساوية فتيّة. منذ البداية، عامل جيشيل ابنه فايزنباوم بازدراء أثّر على بقية حياته. قال فايزنباوم لاحقًا لمخرجيْ الأفلام الوثائقية بيتر هاس وسيلفيا هولزينجر: “كان والدي مقتنعًا تمامًا بأنني كنت معتوهًا لا قيمة له، وغبيًا تمامًا، وأنني لن أصبح شخصًا ذا قيمة في المجتمع”.

بحلول الوقت الذي وصل فيه إلى سنّ يسمح بتكوين الذكريات، كان النازيون في كل مكان. عاشت عائلته بالقرب من حانة ترتادها الجماعات شبه العسكرية التابعة لهتلر، “كتيبة العاصفة”، وفي بعض الأحيان كان يرى الناس يُجرّون إلى الداخل ليُضربوا في الغرف الخلفية. ذات مرة، بينما كان في الخارج مع مربية الأطفال، اصطفت طوابير من الشيوعيين والنازيين المسلحين وبدأوا في إطلاق النار على بعضهم البعض. فدفعته المربية تحت سيارة متوقفة حتى توقف إطلاق النار.

بعد فترة وجيزة من تولّي هتلر منصب المستشار في سنة 1933، أصدرت الحكومة قانونًا يقيد بشدة عدد اليهود في المدارس العامة. اضطر فايزنباوم إلى الانتقال إلى مدرسة يهودية للذكور. في ذلك المكان، تعرف لأول مرة على يهود أوروبا الشرقية الذين كانون فقراء يرتدون الخرق ويتحدثون اللغة اليديشية. بالنسبة إلى فايزنباوم، كان هؤلاء الأشخاص يبدون كأنّهم من المريخ. مع ذلك، منَحه الوقت الذي أمضاه معهم ما وصفه لاحقًا بأنه “شعور جديد بالرفقة”، فضلاً عن أنه ولّد لديه “الحساسية تجاه الاستبداد”. وقد تعلّق بشدة بأحد زملائه في الفصل على وجه الخصوص. قال لاحقًا: “لو كان قدري مختلفًا، لكنت قد طوّرت حبًا مثليًا لهذا الصبي. قادني الصبي إلى عالمه في حي يهودي يقع حول شارع غرينادير في برلين. كانوا مُعدمين، لكنهم كانوا يدعمون بعضهم البعض بطريقة ما”.

ذات يوم، استدعى فايزنباوم ذلك الصبي إلى شقة عائلته. كان والده، الذي كان في صباه يهوديًا فقيرًا من أوروبا الشرقية، يشعر بالاشمئزاز والغضب منه. كان جيشيل فخورًا جدًا بالمكانة المرموقة التي وصل إليها – حسب ما يتذكر فايزنباوم – وكان محقًا في ذلك نظرًا للمسافات الحرفية والمجازية التي قطعها للهروب من “الشتيل”، إلا أن ابنه أحضر أحد متساكني الشتيل إلى منزله.

بعيدًا عن والديه وبصفته أكثر ثراءً من زملائه ويهوديًا في ألمانيا النازية لم يشعر فايزنباوم بالراحة في أي مكان. قال إن غريزته كانت دائمًا “عض اليد التي تمتد إليه”، لإثارة شخصية الأب، ليكون مثل شوكة في الخاصرة. ومن المفترض أن هذه الغريزة انبثقت من الدرس الذي تعلمه من عداء والده تجاه الصبي الذي يُحبّه وتعصّبه الأعمى، وهو خطر يمكن أن يكون موجودا في أي منزل، بين الناس، وحتى القبيلة.

في سنة 1936، غادرت الأسرة ألمانيا بشكل مفاجئ ربما لأن جيشيل أقام علاقة مع صديقة أحد عناصر كتيبة العاصفة. كانت عمة فايزنباوم تمتلك مخبزًا في ديترويت، فذهبوا إلى هناك. في سن الـ 13، وجد نفسه على بعد أميال عن كل ما عهده. يتذكر قائلاً: “كنت وحيدًا جدًا”. أصبحت المدرسة ملاذًا من الواقع – وتحديداً الجبر، الذي لم يتطلب اللغة الإنجليزية التي لم يكن يتحدثها في البداية. وأضاف لاحقًا: “من بين كل الأشياء التي يمكن للمرء أن يدرسها، بدت الرياضيات أسهل بكثير. كانت مادة الرياضيات مثل اللعبة بالنسبة لي فهي علم مجرّد”.

في فصل الحدادة في مدرسته، تعلم كيفية تشغيل مخرطة. جعلته هذه التجربة يتجرد من عقله ويدخل جسده. وبعد حوالي 70 سنة، نظر إلى حالة الوعي التي حفزتها هذه المهارة الجديدة: أن الذكاء “ليس فقط في الرأس وإنما أيضًا في الذراع، في المعصم، وفي اليد”. وهكذا، في سن مبكرة، تشكّل لديه مفهومان وجّها مسيرته المهنية فيما بعد كممارس وناقد للذكاء الاصطناعي: أحدهما تقدير ملذات الأفكار التجريدية، والآخر التشكيك في أن هذه الملذات كانت بمثابة هروب من الواقع، وإدراك أن الذكاء البشري موجود في الشخص بأكمله وليس في جزء منه فقط.

في سنة 1941، التحق فايزنباوم بالجامعة العامة المحليّة. كانت جامعة واين مكانًا للطبقة العاملة: رخيصة الرسوم ومليئة بالطلاب الذين يشغلون وظائف بدوام كامل. بدأت بذور الوعي الاجتماعي الذي زُرعت لديه في برلين تنمو. أدرك فايزنباوم أوجه تشابه بين اضطهاد السود في ديترويت واضطهاد اليهود تحت حكم هتلر. كان هذا أيضًا وقت النضال الطبقي المتّقد في المدينة – حيث فازت نقابة عمال السيارات المتحدة بأول عقد لها مع شركة فورد في نفس السنة التي دخل فيها فايزنباوم الكلية.

أثرت الالتزامات السياسية اليسارية المتزايدة لفايزنباوم على حبّه للرياضيات. أوضح قائلا “أردت أن أفعل شيئًا للعالم أو للمجتمع. ودراسة الرياضيات البسيطة، كما لو كان العالم بخير، أو حتى غير موجود على الإطلاق – هذا ليس ما أردت”. سرعان ما أتيحت له فرصة أخرى. في سنة 1941، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. في السنة التالية، تم تجنيد فايزنباوم. أمضى السنوات الخمس التالية في العمل كخبير أرصاد في سلاح الجو في الجيش، المتمركز في قواعد مختلفة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. وحسب فايزنباوم، مثّل الجيش “خلاصًا” بالنسبة له. يا له من متعة أن يتحرّر من عائلته ويقاتل هتلر في الوقت ذاته.

أثناء عودته إلى المنزل في إجازة، وقع في حب سلمى غودي، وهي ناشطة يهودية في مجال الحقوق المدنية ومن أوائل الأعضاء الاشتراكيين الديمقراطيين في الولايات المتحدة. سرعان ما تزوجا، وأنجبا طفلا، وبعد الحرب عاد فايزنباوم إلى ديترويت. هناك، استأنف دراسته في واين بتمويل من الحكومة الفيدرالية بموجب قانون الجنود الأمريكيين.

وفي أواخر الأربعينيات، انفصل الزوجان وتولت غودي حضانة ابنهما. قال فايزنباوم لاحقًا: “كان ذلك مأساويًا للغاية بالنسبة لي. لقد استغرق تجاوز الانفصال وقتًا طويلاً”. كانت حالته النفسية غير مستقرة: أخبرتني ابنته بيم – وقد سميت على اسم صحيفة نيويورك اليومية اليسارية “بي إم” – أنه تم نقله إلى المستشفى بسبب فقدان الشهية خلال فترة دراسته الجامعية. وكان يشعر أن كل ما فعله في حياته كان سيئًا. تمت ترقيته في الجيش إلى رتبة رقيب وتسريحه بشرف؛ ومع ذلك غادر مقتنعا أنه بطريقة ما أعاق المجهود الحربي. وعزا لاحقًا عدم تقديره لذاته إلى أن والده كان يخبره باستمرار أنه لا قيمة له. أوضح قائلا” إذا قيل لك شيء من هذا القبيل بشكل متكرر خلال طفولتك، فقد ينتهي بك الأمر إلى تصديقه”. وفي أعقاب الأزمة التي نتجت عن رحيل سلمى، كان في مواجهة عالمين متتالين وهما التحليل النفسي والحوسبة.

في تلك الأيام، كان الحاسوب، مثل العقل، عبارة عن تصميم داخلي. قال فايزنباوم في فيلم وثائقي سنة 2010: “أنت لم تذهب إلى الحاسوب. بل وَلجت إلى داخله”. لقد قدّمت الحرب الزخم لبناء آلات عملاقة يمكنها ميكنة العمل الشاق للحسابات الرياضية. وقد ساعدت أجهزة الحاسوب في كسر التشفير النازي وإيجاد أفضل الزوايا لتوجيه المدفعية. وأدى دمج المجمّع الصناعي العسكري في فترة ما بعد الحرب في بداية الحرب الباردة إلى جذب مبالغ كبيرة من أموال الحكومة الأمريكية لتطوير التكنولوجيا. وبحلول أواخر الأربعينات من القرن الماضي، كانت أساسيات الحاسوب الحديث موجودة.

لكن لم يكن من السهل الحصول على حاسوب. لذلك قرر أحد أساتذة فايزنباوم إنشاء حاسوبه الخاص. قام بتجميع فريق صغير من الطلاب ودعا فايزنباوم للانضمام إليه. وعند إنشاء الحاسوب، أصبح فايزنباوم سعيدًا وبات لوجوده هدف. ويتذكر قائلا “كنت مفعما بالحياة ومتحمسًا لعملي”. في هذا العمل، واجه بعض قوى التجريد التي تعامل معها لأول مرة في الجبر في المدرسة الإعدادية. ومثل الجبر، يقوم الحاسوب على نمذجة الواقع وبالتالي تبسيطه – ومع ذلك يمكن أن يفعل ذلك بإخلاص بحيث يمكن للمرء بسهولة أن ينسى أنه كان مجرد تَمثّل. أضفى البرنامج أيضًا إحساسًا بالإتقان. قال لاحقًا في الفيلم الوثائقي بعنوان “متمرد في العمل” الصادر سنة 2007، إن “المبرمج يمتلك نوعًا من السلطة على مسرح أكبر لا يقاس بما يتمتع به المخرج المسرحي. أكبر حتى من مسرح شكسبير”.

في هذا الوقت تقريبًا، التقى فايزنباوم بمُدرّسة تدعى روث مانيس. وفي سنة 1952 تزوجا وانتقلا للعيش شقة صغيرة بالقرب من الجامعة. أخبرتني ابنتهما ميريام أنها “كانت بعيدة عنه ثقافيًا”. لم تكن اشتراكية يهودية مثل زوجته الأولى – فقد كانت عائلتها من أقصى الجنوب. وقالت ميريام إن زواجهما مثّل “وصولاً إلى الحياة الطبيعية والاستقرار” من جانبه. كما اندثرت انتماءاته السياسية.

في مطلع الستينات، كان فايزنباوم يعمل مبرمجًا في شركة “جنرال إلكتريك” في وادي السيليكون. وقد رُزق هو وروث بثلاث بنات وكانا على وشك أن ما يُرزقا بالرابعة. وفي شركة “جنرال إلكتريك”، قام بإنشاء جهاز حاسوب للبحرية لإطلاق الصواريخ وجهاز حاسوب لبنك أمريكا لمعالجة الشيكات. وقال لاحقًا: “لم يخطر ببالي أبدًا في ذلك الوقت أنني أشارك في مشروع تكنولوجي سيكون له بعض الآثار الجانبية الاجتماعية التي قد أندم عليها”.

في سنة 1963، استدعاه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المرموق. هل كان يرغب في الالتحاق بالكلية كأستاذ مشارك زائر؟ يتذكر فايزنباوم قائلا “كان ذلك بمثابة إتاحة الفرصة لصبي صغير للعمل في مصنع للألعاب يصنع قطارات لعب الأطفال”. كان الحاسوب الذي ساعد فايزنباوم في إنشائه في ديترويت عملاقا، يضاهي حجمه حجم قاعة محاضرات بأكملها ويصدر ما يكفي من الحرارة لإبقاء المكتبة دافئة في الشتاء. تضمن التفاعل معه مجموعة من القواعد شديدة التنظيم: كتابة برنامج يدويًا، وترميزه كنمط من الثقوب على البطاقات المثقبة، ثم تشغيل البطاقات عبر الحاسوب. وكان هذا إجراء تشغيل قياسي في الأيام الأولى للتكنولوجيا، مما جعل البرمجة شاقة ومرهقة.

سعى علماء الحاسوب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى إيجاد بديل. وفي سنة 1963، أطلقت الجامعة مشروع “ماك” بمنحة قدرها 2.2 مليون دولار من البنتاغون – وهو اختصار له العديد من المعاني، بما في ذلك “الإدراك بمساعدة الآلة”. وكانت الخطة تتمثل في إنشاء نظام حاسوب يمكن الوصول إليه ومسؤولا بشكل أكبر عن الاحتياجات الفردية.

من أجل تحقيق هذه الغاية، أتقن علماء الحاسوب تقنية تسمى “مشاركة الوقت” وهي التي مكّنت هذا النوع من الحوسبة التي نأخذها كأمر مسلم به اليوم. وبدلاً من تحميل كومة من البطاقات المثقبة والعودة في اليوم التالي لرؤية النتيجة، يمكن كتابة أمر والحصول على استجابة فورية. علاوة على ذلك، يمكن للعديد من الأشخاص استخدام إطار مركزي واحد في وقت واحد من محطات فردية، مما يجعل الأجهزة تبدو أكثر شخصية.

مع مشاركة الوقت، ظهر نوع جديد من البرامج. وتضّمنت البرامج التي يتم تشغيلها على نظام معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تلك الخاصة بإرسال الرسائل من مستخدم إلى آخر (مقدمة للبريد الإلكتروني)، وتحرير النصوص (معالجة النصوص الأولية) والبحث في قاعدة بيانات تحتوي على 15 ألف مقالة دورية (مكتبة جايستور البدائية).

غيّرت مشاركة الوقت طريقة كتابة الأشخاص للبرامج. وقال فايزنباوم لاحقًا إن هذه التكنولوجيا جعلت من الممكن “التفاعل مع الحاسوب من خلال المحادثة” وتجلى ذلك في تطوير برمجيات في شكل حوار بين المبرمج والآلة: يمكنك تجربة القليل من التعليمات البرمجية، ومعرفة النتيجة، ثم التجربة مرة أخرى.

أراد فايزنباوم الذهاب إلى أبعد من ذلك. ماذا لو كنت تستطيع التحدث مع جهاز حاسوب فيما يسمى بلغة طبيعية، مثل اللغة الإنجليزية؟ كان هذا هو السؤال الذي وجّه عملية إنشاء برنامج إليزا، وهو النجاح الذي لمع بفضله اسمه في الجامعة وساعده في الحصول على منصب مرموق في سنة 1967. كما أدخل فايزنباوم في مدار مشروع الذكاء الاصطناعي التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي تم إنشاؤه في سنة 1958 من قبل جون مكارثي ومارفن مينسكي.

صاغ مكارثي عبارة “الذكاء الاصطناعي” قبل سنوات قليلة عندما كان يبحث عن عنوان لورشة عمل أكاديمية. كانت هذه العبارة محايدة بما يكفي لتجنّب التداخل مع مجالات البحث الحالية مثل علم التحكم الآلي، وغير مصقولة بما يكفي لجذب مساهمات متعددة التخصصات، وجريئً بقدر يكفي للتعبير عن جانبه الراديكالي (أو غطرسته، إن صح التعبير) حول ما يمكن للآلات فعله. وتم تأكيد هذه الراديكالية في المقترح الأصلي لورشة العمل: “كل جانب من جوانب التعلم أو أي سمة أخرى من سمات الذكاء يمكن من حيث المبدأ وصفها بدقة بحيث يمكن صنع آلة لمحاكاتها”.

كان  مينسكي متفائلاً واستفزازيًا. كانت إحدى مناوراته المفضلة هي التصريح بأن الدماغ البشري ليس سوى “آلة من اللحم” يمكن إعادة إنتاج وظائفها أو حتى تجاوزها بواسطة آلات من صنع الإنسان. ولم يكن فايزنباوم معجبا به منذ البداية. لكن لم يكن إيمانه بقدرات التكنولوجيا هو ما أزعج فايزنباوم، فقد رأى هو نفسه أجهزة الحاسوب تتقدم بشكل هائل بحلول منتصف الستينات. وبدلاً من ذلك، تسببت مشكلة فايزنباوم مع مينسكي ومع مجتمع الذكاء الاصطناعي ككل في الخلاف الأساسي حول طبيعة الحالة البشرية.

وفي تكملة لمقاله الأول عن “برنامج إليزا”، جادل فايزنباوم في سنة 1967 بأنه لا يوجد جهاز حاسوب يمكن أن يفهم الإنسان بشكل كامل. ثم ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إنه لا يمكن لأي إنسان أن يفهم تمامًا إنسانًا آخر. وقال إن كل شخص يتكوّن من مجموعة فريدة من التجارب الحياتية التي نحملها معنا، وهذا الميراث يضع قيودًا على قدرتنا على فهم بعضنا البعض. يمكننا استخدام اللغة للتواصل، لكن الكلمات نفسها تستحضر ارتباطات مختلفة لأشخاص مختلفين – وبعض الأشياء لا يمكن التعبير عنها على الإطلاق. كتب فايزنباوم أن “هناك خصوصية مطلقة حول كل واحد منا تمنع تمامًا الاتصال الكامل لأي من أفكارنا بالكون الخارجي”.

كان هذا المنظور مختلفًا تمامًا عن منظور مينسكي أو مكارثي. ومن الواضح أنه يحمل تأثير التحليل النفسي. وهنا برز العقل ليس باعتباره آلةً من اللحم وإنما روحًا – شيء عميق وغريب. إذا كنا غالبًا غير شفافين تجاه بعضنا البعض وحتى تجاه أنفسنا، فما هو الأمل في أن يعرفنا الحاسوب؟

مع ذلك، كما أوضح برنامج إليزا، كان من السهل بشكل مفاجئ خداع الناس ليشعروا أن الحاسوب يفهمهم – ورؤية هذا الحاسوب كأنه إنسان. وحتى في مقاله الأصلي لسنة 1966، كان فايزنباوم قلقًا بشأن عواقب هذه الظاهرة، وحذّر من أنها قد تدفع الناس إلى الاعتقاد أن أجهزة الحاسوب تمتلك صلاحيات “الحكم” التي “تستحق المصداقية”. وكتب “هناك خطر معين يتربص بنا”.

في منتصف الستينات، كان أبعد من أن يكون على استعداد للانطلاق. أشار إلى الخطر، لكنه لم يسهب في الحديث عنه. وبعد كل شيء، لقد كان طفلًا مكتئبًا هرب من الهولوكوست، وشعر دائمًا بأنه دجّال، لكنه وجد المكانة والقيمة وتقدير الذار في المعبد العالي للتكنولوجيا. وقد يكون من الصعب الاعتراف بأن ما تجيده أو ما تستمتع به هو أمر سيء للعالم – بل ويصعب التصرف بناءً على تلك المعرفة. وبالنسبة إلى فايزنباوم، سيستغرق الأمر حربًا لمعرفة ما يجب القيام به بعد ذلك.

في الرابع من شهر آذار/ مارس 1969، نظّم طلاب معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “توقفًا بحثيًا” ليوم واحد للاحتجاج على حرب فيتنام ودور جامعتهم فيها. وتحدّى الناس الثلج والبرد للاحتشاد في قاعة “كريسجي” في قلب الحرم الجامعي من أجل سلسلة من المحادثات واللجان التي كانت قد بدأت في الليلة السابقة. وتحدث نعوم تشومسكي وكذلك السيناتور المناهض للحرب جورج ماكغفرن.

كان النشاط الطلابي ينمو في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لكن هذه كانت أكبر مظاهرة حتى الآن، وحظيت بتغطية واسعة في الصحافة الوطنية. كتب أحد المنظمين الرئيسيين في وقت لاحق: “كان الشعور السائد في سنة 1969 أن العلماء كانوا متواطئين في شرّ عظيم، وكان الهدف من احتجاج الرابع من آذار/ مارس هو كيفية تغيير ذلك”.

أيّد فايزنباوم النشاط وأصبح متأثرًا بشدة بالديناميكية السياسية في ذلك الوقت. وأوضح لاحقًا في مقابلة: “لم يكن الأمر حاسمًا حتى اندماج حركة الحقوق المدنية، والحرب في فيتنام، ودور معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تطوير الأسلحة. وبمجرد أن بدأت التفكير على هذا المنوال، لم أستطع التوقف”. وفي السنوات الأخيرة من حياته، كان يفكّر في تسيّسه خلال الستينات كعودة إلى الوعي الاجتماعي لأيامه اليسارية في ديترويت وتجاربه في ألمانيا النازية، وقال للكاتبة الألمانية جونا فيندت “لقد بقيت وفيًا لمعتقداتي”. بدأ يفكر في العلماء الألمان الذين قدموا خبراتهم للنظام النازي. وتذكر في سنة 1995 قائلا “كان علي أن أسأل نفسي: هل أريد أن ألعب هذا الدور؟” وكان أمامه خياران: “إمّا تجاهل كل هذا النوع من التفكير” وكبته، أو “النظر إلى الأمر بجدية”.

ولكن النظر إلى الأمر بجدية تطلب فحص العلاقات الوثيقة بين مجاله وآلة الحرب التي كانت تسقط النابالم على الأطفال الفيتناميين. وقد دافع وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا، عن فكرة الحاسوب.

بحلول سنة 1969، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يتلقى تمويلا من البنتاغون أكثر من أي جامعة أخرى في البلاد. تابعت مختبراته عددًا من المشاريع المصممة لفيتنام، مثل نظام لتحقيق الاستقرار في طائرات الهليكوبتر من أجل تسهيل قيام مدفع رشاش بمحو الأهداف في الغابة. وقد تم تمويل مشروع “ماك- الذي أنشأ فايزنباوم تحت رعايته برنامج إليزا – منذ إنشائه من قبل البنتاغون.

عندما كان فايزنباوم يصارع هذا التواطؤ وجد أن زملاءه في الغالب غير مهتمين بالأغراض التي قد تُستخدم من أجلها أبحاثهم. وقالوا له إن لم نفعل ذلك سيفعله شخص آخر أو العلماء لا يصنعون السياسة، اتركوا ذلك للسياسيين. وتم تذكير فايزنباوم مرة أخرى بالعلماء في ألمانيا النازية الذين أصروا على أن عملهم لا علاقة له بالسياسة.

بسبب استحواذ الإحساس بالمسؤولية عليه، كرّس فايزنباوم نفسه للحركة المناهضة للحرب. وأخبرتني ابنته إمبي “لقد أصبح متطرفًا لدرجة أنه لم يجر الكثير من أبحاث الحاسوب في تلك المرحلة”. وبدلاً من ذلك، انضم إلى مظاهرات الشوارع والتقى بطلاب مناهضين للحرب. حيثما أمكن، استخدم وضعه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتقويض معارضة الجامعة للنشاط الطلابي. وبعد أن شغل الطلاب مكتب الرئيس في سنة 1970، عمل فايزنباوم في اللجنة التأديبية. ووفقًا لابنته ميريام، فقد أصرّ على التقيّد الصارم بالإجراءات القانونية، مما أدى إلى تأخير الإجراءات لأطول فترة ممكنة حتى يتمكن الطلاب من التخرج بشهاداتهم.

خلال هذه الفترة، بدأت بعض الأسئلة التي لم يتم حلها بشأن برنامج إليزا تزعجه بشكل أكثر حدة. لماذا كان رد فعل الناس بهذه الحماسة والوهم تجاه روبوت الدردشة، خاصة أولئك الخبراء الذين يجب أن يعرفوا بشكل أفضل؟ وقد أشاد بعض الأطباء النفسيين بإليزا كخطوة أولى نحو العلاج النفسي الآلي. وقد احتفى به بعض علماء الحاسوب كحلّ لمشكلة كتابة البرامج التي تفهم اللغة. وأصبح فايزنباوم مقتنعًا بأن هذه الردود كانت “أعراض مشاكل أعمق” مرتبطةٍ بطريقة ما بالحرب في فيتنام. وإذا لم يكن قادرًا على معرفة حقيقتها، فلن يكون قادرًا على الاستمرار في العمل بشكل احترافي.

في سنة 1976، نشر فايزنباوم أعظم كتبه بعنوان “قوة الحاسوب والعقل البشري: من الحكم إلى الحساب”. وكتب الناشط التحرري كارل هيس “لقد أذهلني الكتاب”. لقد كان الكتاب دامغًا. إنه وابل فوضوي من الأفكار الرائعة في كثير من الأحيان حول أجهزة الحاسوب. ولم يعجب الكتاب على زملاء مثل مينسكي ومكارثي فحسب وإنما أيضًا الفيلسوفة السياسية هانا أرندت، والمنظّر النقدي ماكس هوركهايمر، والكاتب المسرحي التجريبي يوجين أيونسكو.

بدأ فايزنباوم العمل على الكتاب بعد أن أكمل منحة في جامعة ستانفورد، في كاليفورنيا، حيث لم يكن يتمتع بأي مسؤوليات، مع مكتب كبير والكثير من المناقشات المحفزة مع النقاد الأدبيين والفلاسفة والأطباء النفسيين. ومع قوة الحاسوب والعقل البشري، لم يكن يتخلى عن علوم الحاسوب بقدر ما كان يحاول كسرها والسماح للتقاليد البديلة بالتدفق.

كان للكتاب حجتان رئيسيتان: أولاً، هناك فرق بين الإنسان والآلة؛ ثانيًا،: هناك مهام معينة لا يجب على أجهزة الحاسوب القيام بها بغض النظر عما إذا كان يمكن تصميم أجهزة الحاسوب قادرة على ذلك. ويقدم العنوان الفرعي للكتاب – من الحكم إلى الحساب – دليلًا على كيفية توافق هاتين الحجتين معًا.

بالنسبة إلى فايزنباوم، يتضمّن الحكم اختيارات تسترشد بالقيم. ويتم الحصول على هذه القيم من خلال مسار تجربتنا الحياتية وهي بالضرورة نوعيّة: ولا يمكن التعبير عنها في رموز. على النقيض من ذلك، يعتبر الحساب كميًا ويستخدم حسابًا تقنيًا للوصول إلى قرار. وأجهزة الحاسوب قادرة فقط على الحساب، وليس الحكم. وهذا لأنها ليست بشرًا، أي ليس لديها تاريخ بشري – لم تلدها أمهات، ولم يكن لديها طفولة، ولا تسكن أجسادًا بشرية أو تملك روحًا بشرية مع وعي بشري – وبالتالي ليس لديها الأساس الذي يتم من خلاله تكوين القيم.

وسيكون ذلك جيدًا إذا قصرنا أجهزة الكمبيوتر على المهام التي تتطلب عمليات حسابية فقط، ولكن بفضل جزء كبير من الحملة الأيديولوجية الناجحة التي شنها من يسمون “المثقفون الاصطناعيون”؛ رأى الناس بشكل متزايد أن البشر وأجهزة الكمبيوتر قابلين للتبادل، ونتيجة لذلك تم منح أجهزة الكمبيوتر سلطة على الأمور التي ليس لديهم اختصاص فيها. (كتب فايزنباوم أن السماح لجهاز الكمبيوتر بأداء وظائف مثل قاضٍ في بيئة قانونية أو طبيب نفسي في بيئة إكلينيكية سيكون “عملا فاحشًا وقذرًا”). إن رؤية البشر وأجهزة الكمبيوتر على أنهما قابليْن للتبادل يعني أيضًا أن البشر قد بدأوا في تصور أنفسهم كأجهزة كمبيوتر، وبالتالي يتصرفون مثلهم؛ لقد مكنوا كلياتهم العقلانية من خلال التخلي عن الحكم من أجل الحساب، وعكسوا الآلة التي رأوا أنفسهم في انعكاسها.

كان لهذا عواقب سياسية مدمرة بشكل خاص؛ إذ يمكن للشخصيات القوية في الحكومة والشركات الاستعانة بمصادر خارجية في اتخاذ القرارات لأنظمة الكمبيوتر كطريقة لإدامة ممارسات معينة مع إعفاء أنفسهم من المسؤولية. أو كما كتب فايزنباوم، أن هذا مثلما أن قائد القاذفة “غير مسؤول عن الأطفال المحروقين لأنه لا يرى قريتهم أبدًا”، فإن البرمجيات توفر للجنرالات والمديرين التنفيذيين درجة مماثلة من المسافة النفسية عن المعاناة التي تسببوا فيها.

إضافة إلى أن السماح لأجهزة الكمبيوتر باتخاذ المزيد من القرارات يقلل أيضًا من نطاق القرارات المحتملة التي يمكن اتخاذها، ولأنها مقيدة بمنطق حسابي، لذلك تفتقر البرامج إلى المرونة وحرية الحكم البشري، وهو ما يفسر دوافع المحافظين ويضعها في الحسبان. وقد كتب فايزنباوم أن الكمبيوتر وصل تاريخيًا “في الوقت المناسب تمامًا”، لكن لماذا في الوقت المناسب؟، يجيب فايزنباوم: “في الوقت المناسب للتخزين – والتخزين بشكل سليم تقريبًا، في الواقع، لترسيخ واستقرار الهياكل الاجتماعية والسياسية التي كان من الممكن أن يتم تجديدها بشكل جذري أو السماح لها بالترنح في ظل المطالب التي كان من المؤكد أنها ستُفرض عليها”.

أصبحت أجهزة الكمبيوتر هي السائدة في الستينيات، ونمت جذورها العميقة داخل المؤسسات الأمريكية تمامًا كما واجهت تلك المؤسسات تحديات خطيرة على جبهات متعددة. إن حركة الحقوق المدنية والحركة المناهضة للحرب واليسار الجديد ليست سوى عدد قليل من القنوات التي تم التعبير من خلالها عن طاقات العصر المناهضة للمؤسسة، واستهدف المحتجون بشكل متكرر تكنولوجيا المعلومات، ليس فقط بسبب دورها في حرب فيتنام ولكن أيضًا بسبب ارتباطها بقوى الرأسمالية المسجونة. في سنة 1970، دمر نشطاء في جامعة ويسكونسن حاسوبًا مركزيًا أثناء احتلال أحد المباني، وفي العام نفسه، كاد المتظاهرون يفجرون قنبلة نابالم واحدة في جامعة نيويورك.

وكان هذا هو المناخ الذي ظهر فيه كتاب “قوة الكمبيوتر والعقل البشري”؛ حيث أصبحت الحوسبة مسيسة بشكل مكثف. ولا يزال هناك سؤال مفتوح حول المسار الذي يجب أن تسلكها، فعلى أحد الجوانب وقف أولئك الذين “يؤمنون بوجود حدود لما يجب أن تقوم به أجهزة الكمبيوتر” كما كتب فايزنباوم في مقدمة الكتاب. وفي جانب آخر؛ كان أولئك الذين “يعتقدون أن أجهزة الكمبيوتر يمكنها، وينبغي، وسوف تفعل كل شيء”، وهم المثقفون الاصطناعيون.

وصف ماركس عمله “رأس المال” ذات مرة بأنه “أفظع صاروخ تم إلقاؤه حتى الآن على رؤوس البرجوازية”، بينما يبدو أن كتاب “قوة الكمبيوتر والعقل البشري” يضرب المثقفين المصطنعين بقوة مماثلة. وكان مكارثي، المعلم الأصلي للذكاء الاصطناعي، قد كتب في مراجعة رأى: أنه “أخلاقي وغير متماسك”، وعمل من “الشعارات اليسارية الجديدة”. كما اشتكى بنجامين كويبرز من مختبر الذكاء الاصطناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا – طالب دكتوراه في مدرسة مينسكي – من اتهامات فايزنباوم “القاسية والحادة أحيانًا ضد مجتمع أبحاث الذكاء الاصطناعي”. ولقد ألقى فايزنباوم بنفسه في المعركة؛ حيث كتب ردًا على مراجعة مكارثي نقطة بنقطة، مما أدى إلى رد من سي شانك، عالم الذكاء الاصطناعي في جامعة ييل روجر – والذي رد عليه أيضًا فايزنباوم، ومن الواضح أنه استمتع بالقتال.

في ربيع سنة 1977؛ امتد الجدل إلى الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز؛ حيث كتب الصحفي لي ديمبارت عالم الكمبيوتر في خضم نزاع أساسي حول هذه الأسئلة: “هل يمكن للآلات أن تفكر؟ هل يجب عليهم ذلك؟”، فيما أجرى فايزنباوم مقابلة من مكتبه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعنوان: “لقد أعلنت بدعة وأنا زنديق”.

تسبب كتاب “قوة الكمبيوتر والعقل البشري” في حدوث مثل هذه الضجة لأن مؤلفه جاء من عالم علوم الكمبيوتر، ولكن كان هناك عامل آخر وهو الحالة المحاصرة للذكاء الاصطناعي نفسه. فبحلول منتصف السبعينيات من القرن الماضي، أدى مزيج من تقليص الميزانية والإحباط المتزايد داخل الدوائر الحكومية بشأن فشل مجال الذكاء الاصطناعي في الارتقاء إلى مستوى الضجيج المثار حوله إلى ظهور أول “شتاء للذكاء الاصطناعي”؛ حيث أصبح الباحثون يكافحون للحصول على التمويل، من المحتمل أن تكون درجة حرارة النقاش المرتفعة لاستجابتهم لفايزنباوم ترجع جزئيًا على الأقل إلى تصور أنه كان يهاجمهم بشراسة.

لم يكن الذكاء الاصطناعي هو المجال الوحيد للحوسبة الذي أعيد تقييمه بشكل نقدي في هذه السنوات؛ إذ كان الكونجرس يفكر مؤخرًا في طرق لتنظيم “معالجة البيانات الإلكترونية” من قبل الحكومات والشركات من أجل حماية خصوصية الناس والتخفيف من الأضرار المحتملة لعملية صنع القرار باستخدام الكمبيوتر. (تم تمرير قانون الخصوصية المخفف في سنة 1974). بين الراديكاليين الذين يهاجمون مراكز الكمبيوتر في الحرم الجامعي ومبنى الكابيتول هيل الذي يبحث عن كثب في تنظيم البيانات، حدث أول “تكلاش techlash” – وهو مصطلح يعني العداء المتزايد تجاه عمالقة التكنولوجيا – ولقد كان توقيتًا جيدًا لفايزنباوم.

منحه كتاب “قوة الكمبيوتر والعقل البشري” سمعة وطنية، وهو ما جعله مسرورًا؛ حيث قالت لي ابنته ميريام: “كان الاعتراف مهمًا جدًا بالنسبة له”، وبصفته “المتشائم في منزل مختبر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (بحسب صحيفة بوسطن غلوب)، أصبح مصدرًا مفضلًا للصحفيين الذين يكتبون عن الذكاء الاصطناعي وأجهزة الكمبيوتر، والذي يمكن الاعتماد عليه دائمًا للحصول على اقتباس لا يُنسى.

لكن الشك والقلق الذي كان يعاني منه منذ الطفولة لم يرحل أبدًا، فلقد أخبرتني ميريام: “أتذكره وهو يقول إنه شعر وكأنه محتال. لم يكن يعتقد أنه كان ذكيًا بالقدر الذي كان يعتقده الناس. لم يشعر أبدًا أنه جيد بما فيه الكفاية”. ومع تلاشي الإثارة حول الكتاب، نمت هذه المشاعر بشكل ساحق؛ حيث أخبرتني ابنته بي إم أن فايزنباوم حاول الانتحار في أوائل الثمانينيات؛ حيث تم نقله إلى المستشفى في وقت ما، وقام طبيب نفسي بتشخيصه باضطراب الشخصية النرجسية، وكان للتقلبات الحادة بين العظمة والكآبة أثرها على أحبائه، وقالت ابنته بي إم: “لقد كان شخصًا متضررًا للغاية ولم يكن هناك سوى الكثير الذي يمكنه امتصاصه من الحب والعائلة”.

في سنة 1988، تقاعد من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأخبرتني ميريام: “أعتقد أنه انتهى به الأمر إلى الشعور بالغربة”. في أوائل التسعينيات، تركته زوجته الثانية روث، وفي سنة 1996، عاد إلى برلين، المدينة التي فر منها قبل 60 عامًا؛ حيث قات بي إم: “بمجرد عودته إلى ألمانيا، بدا أكثر رضا وانخراطًا في الحياة”، فلقد وجد الحياة أسهل هناك. زمع تلاشي شهرته في الولايات المتحدة، زادت في ألمانيا؛ حيث أصبح متحدثًا شهيرًا، وأكثر من إلقاء المحاضرات وإجراء المقابلات باللغة الألمانية.

كان فايزنباوم في نسخته الأخيرة متشائمًا بشكل متزايد بشأن المستقبل، أكثر بكثير مما كان عليه في السبعينيات، فلقد أرعبه تغير المناخ. ومع ذلك؛ كان يأمل في إمكانية حدوث تغيير جذري، كما قال في مقال نشر في كانون الثاني/ يناير 2008 لـ”زود دويتشه تسايتونج”: “الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا سينقذان الأرض من آثار الانهيار المناخي هو اعتقاد مضلل. لا شيء سينقذ أطفالنا وأحفادنا من جحيم أرضي؛ إلا إذا نظمنا المقاومة ضد جشع الرأسمالية العالمية”.

بعد شهرين، في 5 أذار/مارس 2008، توفي فايزنباوم بسرطان المعدة، وكان عمره 85 سنة.

بحلول الوقت الذي توفي فيه فايزنباوم، كان للذكاء الاصطناعي سمعة سيئة؛ حيث أصبح المصطلح مرادفًا للفشل. بينما تلاشت أطماع مكارثي، التي صيغت في ذروة القرن الأمريكي، تدريجيًّا في العقود اللاحقة؛ حيث تبين أن الحصول على أجهزة كمبيوتر لأداء المهام المرتبطة بالذكاء، مثل تحويل الكلام إلى نص، أو الترجمة من لغة إلى أخرى، كان أصعب بكثير مما كان متوقعًا.

اليوم، يبدو الوضع مختلفًا نوعًا ما؛ حيث أصبح لدينا برنامج يمكنه التعرف على الكلام وترجمة اللغة بشكل جيد. وأصبح لدينا أيضًا برنامج يمكنه التعرف على الوجوه ووصف الأشياء التي تظهر في الصورة، وهو ما يعتبر أساس طفرة الذكاء الاصطناعي الجديدة التي حدثت منذ وفاة فايزنباوم. وتتمحور أحدث إصداراته حول تطبيقات “الذكاء الاصطناعي التوليدية” مثل شات جي بي تي، والذي يمكنه توليف النصوص والصوت والصور بمزيد من التعقيد.

على المستوى التقني؛ تعتبر مجموعة التقنيات التي نسميها الذكاء الاصطناعي ليست هي نفسها التي كان يفكر فيها فايزنباوم عندما بدأ نقده للمجال قبل نصف قرن؛ حيث يعتمد الذكاء الاصطناعي المعاصر على “الشبكات العصبية”، وهي بنية لمعالجة البيانات مستوحاة بشكل فضفاض من الدماغ البشري، ولقد تراجعت الشبكات العصبية إلى حد كبير عن الموضة في دوائر الذكاء الاصطناعي بحلول الوقت الذي ظهر فيه كتاب “قوة الكمبيوتر والسبب البشري”، ولن تخضع لإحياء خطير إلا بعد عدة سنوات من وفاة فايزنباوم.

لكن فايزنباوم كان دائمًا أقل اهتمامًا بالذكاء الاصطناعي كتقنية منه بالذكاء الاصطناعي كأيديولوجية، أي الاعتقاد بأن الكمبيوتر يمكن ويجب أن يصنع للقيام بكل ما يمكن للإنسان القيام به، فهذه الأيديولوجية حية وبصحة جيدة. وقد يكون أقوى مما كان عليه في زمن فايزنباوم.

لقد تحققت بعض كوابيس فايزنباوم: يستخدم القضاة في جميع أنحاء الولايات المتحدة ما يسمى بأدوات تقييم المخاطر لاتخاذ قرارات حاسمة بشأن الكفالة وإصدار الأحكام والإفراج المشروط والمراقبة، في حين يتم وصف روبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل روتيني كبديل آلي لرؤية معالج بشري، وقد تكون العواقب بشعة كما توقع. فوفقًا لتقارير صدرت في وقت سابق من هذه السنة، انتحر أب بلجيكي لطفلين بعد أن أمضى أسابيع في التحدث مع شخصية رمزية للذكاء الاصطناعي تُدعى إليزا، حيث أظهرت سجلات الدردشة التي شاركتها أرملته مع صحيفة لا ليبر ومقرها بروكسل أن إليزا كانت تشجع الرجل بنشاط على قتل نفسه.

من ناحية أخرى؛ من المحتمل أن يسعد فايزنباوم أن يعلم أن قدرة الذكاء الاصطناعي على التدمير أصبحت الآن مصدر قلق كبير؛ فهي لا تشغل بال صانعي السياسة فحسب – فالاتحاد الأوروبي يضع اللمسات الأخيرة على أول لائحة شاملة للذكاء الاصطناعي في العالم، بينما أطلقت إدارة بايدن عددًا من المبادرات حول الذكاء الاصطناعي “المسؤول” – ولكنها تشمل ممارسي الذكاء الاصطناعي أنفسهم.

على نطاق واسع، هناك مدرستان فكريتان اليوم حول مخاطر الذكاء الاصطناعي. الأولى – متأثرة بفايزنباوم – تركز على المخاطر الموجودة الآن، فعلى سبيل المثال؛ يلفت الخبراء مثل اللغوي إميلي إم بندر الانتباه إلى كيف يمكن لنماذج اللغة الكبيرة من النوع الموجود أسفل شات جي بي تي أن تردد وجهات النظر الرجعية، مثل العنصرية والتمييز على أساس الجنس، لأنهم مدربون على البيانات المستمدة من الإنترنت. ويجب أن تُفهم مثل هذه النماذج على أنها نوع من “الببغاء”، كما كتبت هي ومؤلفوها المشاركون في بحث مؤثر سنة 2021، “يجمعون بشكل عشوائي تسلسلات من الأشكال اللغوية التي لاحظتها في بيانات التدريب الواسعة، وفقًا للمعلومات الاحتمالية حول كيفية الجمع بينهما”.

في حين تفضل المدرسة الفكرية الثانية التفكير بمصطلحات تأملية؛ حيث يعتبر أتباعها أقل اهتمامًا بالأضرار الموجودة بالفعل هنا مقارنة بالأضرار التي قد تنشأ يومًا ما/ ولا سيما “الخطر الوجودي” للذكاء الاصطناعي الذي يصبح “ذكيًا فائق الذكاء” ويمحو الجنس البشري. هنا فإن الاستعارة السائدة ليست ببغاء ولكن سكاينيت، وهو نظام الكمبيوتر للإبادة الجماعية من أفلام تيرمنيتور. ويحظى هذا المنظور بالدعم القوي من العديد من المليارديرات في مجال التكنولوجيا، بما في ذلك إيلون ماسك، الذين مولوا شبكة من المؤسسات الفكرية والمنح والمنح الدراسية ذات التفكير المتشابه. كما أنها اجتذبت انتقادات من أعضاء المدرسة الأولى، الذين لاحظوا أن مثل هذا التشهير مفيد للصناعة لأنه يصرف الانتباه عن المشاكل الحقيقية الحالية التي تكون منتجاتها مسؤولة عنها؛ حيث تلاحظ ميريديث ويتاكر أنه إذا “عرضت كل شيء في المستقبل البعيد”، فإنك تترك “الوضع الراهن كما هو”.

ربما يوافق فايزنباوم، الذي كان دائمًا منتبهًا للطرق التي يمكن أن تخدم بها التخيلات حول أجهزة الكمبيوتر مصالح قوية، ولكن هناك مع ذلك خيطًا من التفكير بالمخاطر الوجودية الذي يتداخل بعض الشيء مع فكره: فكرة الذكاء الاصطناعي على أنه كائن فضائي؛ حيث يقول الفيلسوف نيك بوستروم: “إن الآلة فائقة الذكاء ستكون غريبة على البشر مثل عمليات التفكير البشري بالنسبة للصراصير”، بينما يشبه الكاتب إليعازر يودكوسكي الذكاء الاصطناعي المتقدم بـ”حضارة غريبة كاملة”.

سيضيف فايزنباوم التحذير التالي: الذكاء الاصطناعي كائنٌ فضائيٌّ بالفعل، حتى بدون أن يكون “فائق الذكاء”. وينتمي البشر وأجهزة الكمبيوتر إلى عوالم منفصلة وغير قابلة للقياس؛ حيث لا توجد طريقة لتضييق المسافة بينهما، كما يأمل حشد الخطر الوجودي القيام بذلك من خلال “محاذاة” الذكاء الاصطناعي، وهي مجموعة من الممارسات “لمواءمة” الذكاء الاصطناعي مع الأهداف والقيم البشرية لمنعه من أن يصبح سكاينت. بالنسبة إلى فايزنباوم، لا يمكننا إضفاء الطابع الإنساني على الذكاء الاصطناعي لأن الذكاء الاصطناعي ليس بشريًا بشكل غير قابل للاختزال. ما يمكنك فعله، مع ذلك، ليس جعل أجهزة الكمبيوتر تفعل (أو تعني) الكثير، فقد كتب في كتابه “قوة الكمبيوتر والعقل البشري” أنه لا ينبغي أبدًا “استبدال نظام كمبيوتر بوظيفة بشرية تنطوي على الاحترام والتفاهم والحب بين الأشخاص”. إن العيش بشكل جيد مع أجهزة الكمبيوتر يعني وضعها في مكانها الصحيح: كمساعدين للحوسبة، لا للحكم مطلقًا.

لم يستبعد فايزنباوم أبدًا إمكانية تطور الذكاء يومًا ما في الكمبيوتر. ولكن إذا حدث ذلك، كما أخبر الكاتب دانيال كريفير في سنة 1991، فإنه “سيكون على الأقل مختلفًا عن ذكاء الإنسان وسيصبح مثل ذكاء الدلفين”. هناك مستقبل محتمل يختبئ هنا ولن يكون غرفة صدى مليئة بببغاوات عنصرية ولا ديستوبيا هوليوود في سكاينت، وهو ما يُعتبر مستقبل نشكل فيه علاقة مع الذكاء الاصطناعي كما نفعل مع الأنواع الأخرى: بشكل محرج، عبر مسافات بعيدة، ولكن مع إمكانية حدوث بعض اللحظات المجزية. قد تصدر الدلافين أحكامًا سيئة ومشاكل رهيبة، لكنهم قد يصنعون أصدقاء مثيرين للاهتمام.

المصدر: الغارديان

بعد الجدل الواسع.. هل محلي الأسبارتام يسبب السرطان؟

 

ظهرت في الأسبوع الماضي أنباء تفيد بأن الأسبارتام، وهو مُحلي صناعي شائع موجود في المشروبات الغازية، سيُصنف على أنه “من المحتمل” أن يسبب السرطان، ما طرح تساؤلات عن مخاطره وهل يجب علينا وقف تناوله نهائياً؟

ما هو الاسبارتام؟

فالأسبارتام هو مُحلي صناعي غير سكري، والذي يمكنك العثور عليه في مشروبات الدايت، والعديد من الحلويات منخفضة السعرات الحرارية وبعض الزبادي.

وفي هذا الإطار أوضح البروفيسور أوليفر جونز، أستاذ الكيمياء في جامعة RMIT، أن “الأسبارتام يستخدم في الطعام منذ الثمانينات، وهو واحد من أكثر المحليات

شيوعاً ويستخدم في حوالي 6000 منتج حول العالم”.

وأوضح أنه يضاف عادة إلى الطعام والشراب ليحل محل سكر المائدة (السكروز) لأنه أحلى بحوالي 200 مرة من السكروز، بحسب موقع “mamamia”.

 

هل يجب أن نتوقف عن شرب الدايت كولا؟

وللإجابة عن التساؤل الشائع عما إذا كان ينبغي علينا التوقف عن شرب المشروبات الغازية المفضلة الخالية من السكر، يعتقد أستاذ الكيمياء جونز أنه لا ينبغي علينا ذلك.

وتابع قائلاً “لم نر تقرير الوكالة الدولية لبحوث السرطان الفعلي حتى الآن ولكن بافتراض صحة التقارير الصحفية وأنها تصنف الأسبارتام على أنه” ربما يكون مادة مسرطنة “، فهذا لا يعني أنك ستصاب بالسرطان إذا شربت مشروباً غازياً يحتوي على الأسبارتام.

وأضاف أن “الوكالة تصنف الأشياء وفقاً لأربع فئات رئيسية لتصنيف خطورة الأشياء، ربما تكون مسببة للسرطان مثل استخدام الهاتف المحمول ومنتجات الصبار وهي أشياء يستخدمها معظمنا بانتظام”.

 

 

 

هل يجب أن نقلق؟

 

إلى ذلك أشار إلى أنه لا يوجد أي سبب للقلق حول ما ينشر، لافتاً إلى أن “الوكالة الدولية لبحوث السرطان ليست وكالة تنظيمية للأغذية … كل ما تفعله هو النظر في إمكانية وجود خطر (مثل السرطان)؛ ولا تنظر في الخطر، وهو احتمال حدوث الخطر، وفي هذه الحالة إنهم ليسوا متأكدين تماماً من وجود خطر لأنهم استخدموا ثاني أقل فئة خطورة”.

وأعطى مثالاً على ذلك، “كقيادة السيارة فالخطر هو أنك قد تتعرض لحادث وتتأذى أو تموت، لكن الخطر منخفض بما يكفي بحيث لا يعتقد معظمنا أنها ستكون مشكلة”.

 

 

يذكر أن مصادر قالت لرويترز إن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) وهي ذراع أبحاث السرطان في منظمة الصحة العالمية، من المقرر أن تدرج الأسبارتام على أنه “من المحتمل أن يكون مادة مسرطنة للإنسان” للمرة الأولى في يوليو/تموز الجاري.

يأتي ذلك بينما تقوم لجنة منفصلة تابعة لمنظمة الصحة العالمية، ولجنة الخبراء المشتركة بين منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة بشأن المضافات الغذائية (JECFA)، بمراجعة المحلي الصناعي.

حذار من تناول الكربوهيدرات المكررة بين الوجبات.. يؤثر في إدراكنا

 

تحتوي الأطعمة الصناعية غالباً على تركيزات عالية من الكربوهيدرات المكررة، مثل السكروز الأولي والنشويات الجيلاتينية المستنفدة للألياف وشراب الذرة عالي السكر

 

توصلت دراسة جديدة في فرنسا إلى أن الاستهلاك المزمن للكربوهيدرات المكررة بين الوجبات كان مرتبطًا بسوء الأداء الإدراكي لدى كل من الرجال والنساء.

بحسب ما نشره موقع “Psypost” نقلًا عن دورية “Personality and Individual Differences”، استمر التأثير السلبي لتناول الكربوهيدرات المكررة حتى بعدما تم التحكم في استهلاك الطاقة وعدد من العوامل الأخرى.

الأطعمة المصنعة

تتكيف كل الكائنات الحية مع نظام غذائي محدد. تميل عمليات الهضمية إلى التخصص لهضم نوع معين من الطعام بشكل فعال. لذلك، فإنه عندما يتغير نظامها الغذائي فجأة، يؤدي عادةً إلى مشاكل صحية لأن الجهاز الهضمي لا يتكيف مع أنواع الطعام الجديدة.

وقد حدث تغيير كبير في النظام الغذائي في النصف الثاني من القرن العشرين، بعدما أصبحت الأطعمة الصناعية شائعة، وهي تحتوي غالبًا على تركيزات عالية من الكربوهيدرات المكررة، مثل السكروز الأولي والنشويات الجيلاتينية المستنفدة للألياف وشراب الذرة عالي السكر، وغيرها.

زيادة في أمراض خطيرة

ارتبط التغيير في النظام الغذائي بزيادة حدوث السمنة ومرض السكري من النوع الثاني وأمراض القلب والأوعية الدموية وتسوس الأسنان وارتفاع ضغط الدم والعديد من الأمراض الأخرى. يُعتقد الآن أن الآليات الفسيولوجية التي ينطوي عليها تطور هذه الأمراض تنطوي على تركيزات مفرطة متكررة من الغلوكوز (ارتفاع السكر في الدم) والأنسولين (فرط أنسولين الدم) في مجرى الدم مصحوبة بأن الخلايا تصبح أقل استجابة لتأثيرات الأنسولين (مقاومة الأنسولين). إن الغلوكوز هو سكر بسيط يمثل المصدر الأساسي للطاقة في أجسامنا، بينما الأنسولين هو هرمون يسهل امتصاص الغلوكوز في الخلايا.

 

 

الآثار طويلة المدى

أراد الباحث الرئيسي في الدراسة ليونارد جيلو وزملاؤه في جامعة مونبلييه، استكشاف ما إذا كان استهلاك الكربوهيدرات المكررة يؤثر على الإدراك لدى البالغين الأصحاء. وأشاروا إلى أن دراسات الآثار طويلة المدى لاستهلاك الكربوهيدرات حتى الآن أجريت في الغالب على كبار السن وفي سياق أمراض معينة. لا توجد بيانات عن آثار الاستهلاك المزمن للكربوهيدرات المكررة على الشباب والبالغين الأصحاء.

فشل متكرر لعلاجات طبية

أظهرت النتائج وجود ارتباط بين ارتفاع استهلاك الكربوهيدرات المكررة بين الوجبات وزيادة السعرات الحرارية في وجبة خفيفة بعد الظهر بسوء الأداء الإدراكي. ولوحظ أن ارتفاع قيم مؤشر كتلة الجسم يصاحبها أداء أسوأ في التقييمات المعرفية.

وخلص الباحثون إلى أنه بالنظر إلى العدد المتزايد للأشخاص المصابين بهذه الأمراض والفشل المتكرر للعديد من العلاجات الطبية، فإن نتائج الدراسة تعزز الاعتقاد بأن أكثر الأبحاث الواعدة يجب أن تركز على الوقاية لدى الأشخاص الأصحاء.

مساهمة قيمة

تقدم الدراسة مساهمة قيمة في المعرفة العلمية حول الروابط بين الاختيار الغذائي والأداء المعرفي. ولكن تجدر الإشارة إلى أن تصميم الدراسة لا يسمح بأي استنتاجات بشأن السبب والنتيجة. فمن المحتمل أن يؤدي الاستهلاك العالي للكربوهيدرات المكررة بين الوجبات إلى انخفاض الأداء الإدراكي، فيما يمكن أن يكون السبب أيضًا هو أن الأشخاص الذين يكون أداؤهم المعرفي أسوأ يميلون إلى تناول الكثير من الكربوهيدرات المكررة بين الوجبات، من بين الكثير من الأسباب المُحتملة.

لماذا تتساعد نساء من أصول أفريقية للهجرة من أميركا

ستيفاني بيري

استقالت ستيفاني بيري من عملها كفنية صيدلة بدوام ليلي في 2015 لتمضي عاماً تتنقل في دول جنوب شرق آسيا وأستراليا وأجزاء من أوروبا.

قالت بيري، وهي أربعينية أصولها أفريقية: “تملكني شعور بأن حياتي تتمحور حول عملي، لكن السفر حول العالم جعلني أدرك أن هناك طرقاً أخرى للاستمتاع، إذ يمكنك عيش حياة كاملة لا نعيشها بالضرورة في الولايات المتحدة في بلدان أخرى”.

لم تكن بيري وحدها من اعتقدت ذلك. كانت عوامل مثل تفشي “كوفيد-19” وتزايد الاضطرابات الاجتماعية في أميركا خلال السنوات الثلاث الماضية قد تسببت بنزوح أعداد قليلة لكن مؤثرة من نساء عاملات من السود إلى خارج الولايات المتحدة بحثاً عن نوعية حياة أفضل. ما كان عليهن سوى حزم أمتعتهن، وربما اصطحاب أطفالهن، ليبدأن أعمالاً تجارية في الخارج دون أن ينظرن إلى ما تركن خلفهن.

قالت ميشيل ويديربيرن،

وهي الآن في عقدها الخامس، إنها غادرت فلوريدا إلى مدينة سان ميغيل دي أليندي في المكسيك بصحبة ابنها في 2018. أرادت ويديربيرن أن تربي ابنها، الذي بلغ عمره 10 سنوات، بحيث يكون ملماً بلغتين في المقام الأول، لكن هذا لم يكن دافعها الوحيد.

كانت ويديربيرن قلقة أيضاً بشأن حوادث إطلاق النار في مدارس الولايات المتحدة، فضلاً عن سهولة الحصول على المخدرات في جنوب فلوريدا. قالت ويديربيرن: “أردت أن تشبه طفولته زماناً كانت الحياة فيه أبسط. المكسيك توفر لنا هذا”.

آشلي كليفلاند

 

تلقت آشلي كليفلاند، وهي متخصصة تقنية كانت تتقاضى راتباً كبيراً أثناء إقامتها في أتلانتا، ثالث مذكرة إنهاء خدمة خلال خمس سنوات في يناير 2020. خضعت كليفلاند، التي كانت تعمل 60 ساعة أسبوعياً، لعلاج من استنزاف واكتئاب شديدين.

ثم أدركت اختصاصية التقنية، التي كان عمرها آنذاك 36 عاماً، أنها بحاجة لتغيير البيئة التي تعيش فيها. قالت كليفلاند: “كنت أعيش في مجتمع لا يعبأ بالصحة العقلية أو الجسدية للنساء من السود.” لذلك انتقلت إلى تنزانيا بصحبة ابنتيها، 2 و11 عاماً، قبل أن تستقر في جنوب أفريقيا منذ شهر.

نزوح مواهب

شاركت بيري في إطلاق قمة “إكسودوس ساميت” (ExodUS Summit) في سبتمبر 2020، وهي منصة رقمية تساعد النساء على تحديد كيفية هجرتهن من الولايات المتحدة. شهدت القمة مناقشات حول التخطيط للسفر على المدى البعيد، وإيجاد فرص عمل في الخارج، وتحويل الخبرة إلى عمل تجاري عبر الإنترنت.

اعتقدت بيري أن قلة من النساء قد يشتركن في المنصة لحضور القمة، لكن عدد المشتركات تجاوز ثلاثة آلاف امرأة. ثم استضافت القمة الإلكترونية الثالثة، التي عقدت في 2022، أكثر من 4500 مشتركة. تضم صفحة المنصة على منصة “فيسبوك” الآن ما يقرب من تسعة آلاف عضوة يتشاركن النصائح حول الانتقال إلى بلاد أخرى، واستضافة اللقاءات في الولايات المتحدة وخارجها.

كما تشكلت مجموعات أخرى منذ 2020، مثل “بلاكزيت غلوبال” (Blaxit Global).

قالت بيري: “إنه حراك للحصول على حياة أفضل خارج الولايات المتحدة. أعتقد أن النساء داكنات البشرة قد اكتشفن أن الحلم الأميركي لن يتحقق بالضرورة في أميركا”.

أظهر استطلاع رأي للحاضرات في قمة 2020 أن دخل ما بين ربعهن وثلثهن تجاوز 200 ألف دولار سنوياً، فضلاً عن حيازتهن درجات علمية تتراوح بين الدراسات العليا والشهادات المهنية المتخصصة. كما كان معظمهن من الجيل بين 1946 و1964.

بيّنت بيري أن الموجة الأولى من ذوات البشرة السمراء اللائي هجرن الولايات المتحدة كان بإمكانهن تحمل الانتقال للعيش في بلد آخر دون الحاجة للعمل. بينما تبحث الموجة الثانية من النساء العاملات حالياً عن طرق مختلفة لكسب المال أو العثور على وظائف عن بعد.

تقدم بيري وشريكتها في العمل روشيدا داو، المحامية السابقة التي تقاعدت مبكراً في مكسيكو سيتي لدى بلوغها 39 عاماً، تدريبات للنساء الراغبات في الانتقال على كيفية تحويل أفكارهن إلى أعمال تجارية عبر الإنترنت والحصول على تصاريح الإقامة.

كما يجلبن نساء لتعليم الراغبات بترك الولايات المتحدة مهارات العمل الحر المختلفة، وتوضيح كيفية تحقيقهن لدخل من العمل في قطاعي العقارات والاستثمار.

محفزات الهجرة

تشمل وجهات إعادة التوطين الشائعة بين الأميركيات السودوات المكسيك والبرتغال ومنطقة البحر الكاريبي، بينما استقر بعضهن في أماكن بعيدة مثل بانكوك. قالت بيري: “أتوقع أن نتذكر هجرتنا يوماً ما ونقول لقد كانت هجرة عظيمة أخرى”.

ينطوي الانتقال للإقامة في عديد من هذه الوجهات على تكلفة معيشية أقل، وبالطبع لا تخلو تلك الوجهات الخارجية من مواجهات عنصرية، غير أنه يمكنك عيش حياة أسهل بفضل الامتيازات التي تأتي مع كونهن مواطنات أميركيات.

قالت داو: “غالباً ما يغلب المال معاداة سواد البشرة خارج الولايات المتحدة” رغم إدراكها أن الأمر محفوف بالمخاطر. ربما نتطرق لمناقشة ما إذا كان المهاجرون الأثرى يتسببون بإزاحة سكان محليين في مقال آخر.

تفاقم التفاوت في الثروة بين الأميركيين ذوي البشرة السوداء وذوي البشرة البيضاء خلال العقود الأخيرة. على سبيل المثال، كشفت مقارنة بين طرفي المجتمع الأميركي عن أن ثروات ذوي البشرة السمراء تبلغ سدس ثروات ذوي البشرة البيضاء.

كما يقول أكثر من نصف الأمريكيين ذوي البشرة الداكنة إن حل مشكلة تفاوت الثروة هو صراع بغض النظر عن مدى اجتهادهم، وفقاً لمسح أجرته مجموعة “بنسون ستراتيجي غروب” لاستشارات وأبحاث السوق تحت عنوان “بلس أوف بلاك أميركا”. كما أظهر التقرير تزايد المخاوف بشأن تفاوت الرعاية الصحية وحقوق التصويت بين المشاركين في الاستطلاع.

دعم منظم

تحصل ويديربيرن رزقها عبر تقديم استشارات حول كيفية الانتقال للإقامة بدولة أخرى وبيع “جولات للراغبات في إعادة التوطين” تشمل استضافتهن لمدة أسبوع بغية التكيف مع مدينة سان ميغيل دي إليندي.

يتضمن برنامج الإقامة رحلات استكشافية ومعاينة أحياء المدينة برفقة وكيل عقارات والاستماع إلى عروض خبراء التأمين الطبي والهجرة. كما افتتحت ويديربيرن دار ضيافة سمتها “كازا إي ال ام” في 2022.

بيّنت ويديربيرن أنها تتمتع بمساحة معيشة أكبر من التي كانت لديها في فلوريدا، فيما يداني إيجار منزلها الذي يضم ثلاثة غرف نوم وهو من 3 طوابق 600 دولار شهرياً.

بعد تدقيق بشأن المساواة العرقية في “فيسبوك”… لورا مورفي على وشك الانشغال بعملاء آخرين

أما كليفلاند، فقد بلغت تكلفة معيشتها في جورجيا نحو عشرة آلاف دولار شهرياً. بينما لم تتجاوز ميزانيتها في تنزانيا برفقة ابنتيها ومساعدة منزلية بدوام كامل وسائق بما يشمل البقالة والإجازات 2500 دولار شهرياً.

قالت اختصاصية التقنية إن شراء أصحاب البشرة السمراء في أميركا لمنازل “غير مستدام لأنه لا يقيهم من العنصرية ومن قناعات تفوق العرق الأبيض”. قالت كليفلاند، مستشهدةً بمزاعم تمييز ضد زوجين من ذوي البشرة السمراء اشتريا مزرعة “فريدوم إيكرز” في ريف كولورادو: “فلنحاول أن نفعل شيئاً مغايراً. هذا حقاً كل ما فعلوه”.

تساعد شركة “براند أب غلوبال”، التي تملكها كليفلاند، الأميركيين على توسيع نطاق أعمالهم في أفريقيا والاستثمار في القارة السمراء.

استقرت بيري في مدينة سان خوسيه، عاصمة كوستاريكا، لمدة خمس سنوات على الأقل. لكنها ترفض الحجة القائلة بأن أصحاب البشرة الداكنة من النساء يتخلين عن بلد عملن بجد لبنائه. قالت فنية الصيدلة: “هناك أشخاص يتوقعون تحقيق المساواة في الولايات المتحدة بطريقة سحرية، وهي غاية لم يتمكنوا من تحقيقها حتى الآن، ولم يحققها آباؤهم أبداً ولا أجداد أجدادهم. إن كنتِ تريدين حياةً يسودها السلام والأمن والبهجة، فيجب أن تحصلي عليها. تحقيق ذلك في بلدان أخرى أسهل بكثير على السمراوات”.

هل يستطيع الإنسان كسب أكثر من 150 صديقًا؟

نشر موقع «لايف ساينس» مقالًا للصحافي جو فيلان يقول إنَّه على مر التاريخ البشري، كان أسلافنا راضين بالعيش في مجتمعات مكتفية ذاتيًّا إلى حد كبير، ولم يكن منتشرًا حينها العيش والعمل مع الغرباء، كما هو الحال اليوم في المدن والدول. كان الجميع يعرفون جيرانهم، ودورهم لضمان تماسك المجتمع. ووفقًا لنظرية لعالم الأنثروبولوجيا روبن دنبار، التي نشرها عام 1993؛ يمكن للمرء الحفاظ على علاقات اجتماعية مفيدة مع 150 صديقًا فقط.

هل لا تزال النظرية صامدة؟

يتساءل فيلان في مقاله عن هل لا تزال نظرية دنبار صامدة أمام الواقع. فبعد عقود من نشرها، لا يزال دنبار متمسكًا بها، مع دعمٍ من أبحاث أخرى. وفي هذا الصدد صرح دنبار لموقع «لايف ساينس»: «لم يطرأ أي تغيير على عدد العلاقات». ومع ذلك، فإن بعض الدراسات والخبراء يشككون في ذلك.

وقال صامويل روبرتس، أستاذ علم النفس في جامعة «جون مورس» البريطانية، للموقع: «هناك الكثير من الاختلاف في حجم الشبكات الاجتماعية للأشخاص. وكما هو الحال مع أي نظرية، يوجد نقد للعدد الذي حدده دنبار».

ومن جانبها، تعتقد سارة جونز، طالبة الأنثروبولوجيا التطورية في جامعة «كنت البريطانية»، أنه على الرغم من أن رقم دنبار دقيق على نطاق واسع، فإنه يحمل في طياته العديد من التحذيرات.

وصرحت سارة للموقع: «لن أقول إن الرقم ثابت في كل الظروف، فمن المرجح أن تؤدي كلمة (قريبة وذات مغزى) إلى عدد أقل بكثير، ولكن هذا يمكن أن يعتمد أيضًا على عوامل فردية، مثل الانفتاح على المجتمع والانطوائية. ومع ذلك، فإن رقم دنبار مدعوم على نطاق واسع».

لماذا 150 صديقًا؟

ينقل فيلان عن دنبار: «الحد (150 صديقًا) مرتبط بالإدراك إلى حد كبير»، وأضاف أن هناك رابطًا بين حجم المجموعة الاجتماعية وحجم القشرة الدماغ الحديثة

(Neocortex)

 وهو الجزء من الدماغ المشارك في الوظائف عالية المستوى، مثل الإدراك الحسي، والعاطفة، واللغة، المرتبطة بالسلوك الاجتماعي لدى الرئيسيات

(Primates).

تتفق سارة على أن عدد الأشخاص الذين يمكننا تكوين علاقات معهم هو إلى حد كبير نتيجة للكيفية التي أُجبر بها جنسنا البشري على العمل منذ فترة طويلة. قالت سارة: «يبدو أن هذا هو ما يمكن للبشر التعامل معه معرفيًّا. بالإضافة إلى رقم 150، فأنت بحاجة إلى المزيد من القواعد واللوائح الاجتماعية للحفاظ على العلاقات. ويتعين على البشر الموازنة بين القيام بأمورهم الخاصة للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، ولكن أيضًا لمعرفة ما ينوي الآخرون فعله، ومن قد يساعدنا، ومن سيشارك الطعام معنا. 150 هو العدد المتوقع للأشخاص الذين يمكننا تتبعهم باستمرار والحصول على معلومات محدثة عنهم».

وفقًا لروبرتس، هناك أيضًا شيء آخر يجب مراعاته عندما يتعلق الأمر بقدرتنا على الحفاظ على علاقات تتجاوز حدودنا الإدراكية: الوقت والجهد اللازمين للقيام بذلك. وقال روبرتس: «إذا أخبرك شخص أن لديه 50 صديقًا مقربًا حقًّا، فمن المحتمل ألا تصدقه، لأن هناك شعورًا بديهيًا بأن الحفاظ على هؤلاء الأصدقاء المقربين يتطلب درجة من الجهد في التواصل والاجتماع وقدرًا كبيرًا من الوقت».

ومع ذلك هناك نظريات أخرى لا تتوافق مع نظريات دنبار، حيث يقترح البعض أن الرقم أعلى بكثير. وخلصت ورقة بحثية نُشرت في عام 1978 من قبل علماء أنثروبولوجيا إلى أن الرقم يقترب من 290. في حين حددت مقالة عام 2001 تقارن بين طريقتين مختلفتين؛ تُعرفان باسم «طريقة التوسع» و«طريقة الجمع» على عدد 291

 

وينوه فيلان إلى دراسة نشرت في مجلة «Biology Letters» عام 2001 تتساءل حول دقة رقم دنبار. ووفقًا للدراسة، أيدت بعض الدراسات التجريبية هذا العدد، في حين أبلغت دراسات أخرى عن أعداد مختلفة. وقال أندرياس وارتيل، الباحث في مركز التطور الثقافي في جامعة ستوكهولم والمؤلف المشارك للدراسة في بيان: «ليس من الممكن إجراء تقدير دقيق باستخدام الأساليب والبيانات المتاحة».

ومع ذلك، يحرص دنبار على تأكيد أن الرقم 150 هو متوسط عدد وليس حدًّا صارمًا، للعلاقات التي يمكن للفرد الحفاظ عليها. ويقترح أن هذه العلاقات الـ150 ليست متساوية في الأهمية أو درجة العلاقة الحميمة. قال: «من المهم أن نقدر أن العدد 150 هو ببساطة واحد من سلسلة كسورية من الطبقات في دوائر صداقتنا».

وأكد أن هذه الطبقات تُحدَّد من خلال «الكثافة العاطفية للعلاقة»، وكذلك الوقت الذي نميل إلى استثماره مع كل شخص، والأكثر من ذلك، وفقًا لجونز، أن العلاقة «الهادفة» ليست بالضرورة علاقة مبنية على الحب أو حتى الولاء.

قالت جونز: «قد لا نحب حقًّا الـ150 فردًا، لكننا نحافظ على العلاقة لأنها تساعدنا بطريقة ما، أو لأننا بحاجة إلى مواصلة التفاعل معهم. إنه ليس حدًّا له قيمة مرتبطة به، إنه مجرد سمة من سمات التطور البشري».

الانفجار السكاني

ظهر الإنسان الحديث منذ 300 ألف عام على الأقل، وفي معظم ذلك الوقت، لم تكن هناك مدن وبلدات كبيرة. وتعد «تشاتال هويوك»، التي تقع أطلالها في تركيا الحديثة، واحدة من أولى المدن في التاريخ، حيث يقترح الخبراء أنها بنيت منذ نحو 9 آلاف عام.

ووفقًا للمؤرخ إيان موريس، الذي كتب كثيرًا عن النمو السكاني العالمي في كتابه «لماذا يتفوق الغربي حتى الآن؟»، كانت تشاتال هويوك أكبر مستوطنة على هذا الكوكب لما يقرب من ألفي عام، مع عدد سكان نادرًا ما يتجاوز 3 آلاف نسمة.

ويضيف فيلان أنَّه منذ ذلك الحين توسع سكان العالم بسرعة، وأنشأوا مراكز حضرية ضخمة وكثيفة. وفي السنة الأخيرة قبل الميلاد، كانت هناك مدينة واحدة فقط في العالم يتجاوز عدد سكانها المليون، وهي روما.

في المقابل، وبحلول عام 2030 سيحتوي كوكبنا على 662 مدينة يزيد عدد سكانها على مليون نسمة، وفقًا للأمم المتحدة. ومن ثم فإن قدرتنا الحديثة على التواصل مع المزيد من الأشخاص، باتت أكبر من أي وقت مضى، فكل شخص في العالم تقريبًا لديه القدرة على أن يكوِّن صداقة.

ولكن هل غيَّر المجتمع الحديث والتكنولوجيا عدد الصداقات التي يمكننا الحفاظ عليها؟ يقول دنبار: «لم يتغير أي شيء، لا يقتصر الحد فقط على تذكر من هم الأصدقاء، ولكن القدرة على فهم جودة العلاقة، وتوظيف تلك المعلومات عند التفاعل معهم».

ويختم فيلان مقاله بالقول إنَّ روبرتس أقل اقتناعًا قليلاً فيما يتعلق بتأثير الإنترنت. قال: «تتركز إحدى القضايا النظرية الرئيسية التي لم تُحل حول ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي، وخدمات الرسائل، ستغير هذه القيود بشكل أساسي من خلال تسهيل البقاء على اتصال مع الناس». لدى سارة وجهة نظر مماثلة. إذ قالت: «من الواضح أن التكنولوجيا الجديدة قد تزيد من عدد الأشخاص الذين نتفاعل معهم يوميًّا».

ما هي أكبر المخاطر الاقتصادية المقبلة؟

 

عبر مجموعة من الخبراء عن آرائهم حول أكبر التهديدات التي تترصد بالاقتصاد. وفيما يلي، أهم النقاط التي تطرقوا إليها.

لورانس بون؛ وزير خارجية فرنسا للشؤون الأوروبية:

أكبر المخاطر الاقتصادية التي تواجه العالم وخاصة أوروبا اليوم هي أزمة الطاقة والغذاء. أولًا؛ يساهم الارتفاع الهائل في الأسعار في ارتفاع تكلفة المعيشة بالنسبة لكثير من الناس، ليس فقط الفقراء ولكن أيضًا الطبقة الوسطى الدنيا، وثانيًا؛ زيادة خطر المجاعة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ونقص موارد الطاقة ليس فقط هذا الشتاء ولكن الشتاء المقبل.

وهذا يزيد من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية في أوروبا؛ فلقد شهدنا الربيع العربي منذ حوالي 10 سنوات في الشرق الأوسط وأفريقيا، ونعرف جيدًا كيف أدى ذلك إلى إثارة الكثير من الاضطرابات السياسية والاجتماعية.

رافائيل بوستيك، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا:

يتمثل الخطر الاقتصادي الأكبر في أن المستهلكين الأمريكيين يبدأون في توقع استمرار ارتفاع الأسعار، ويبدأون في اتخاذ قرارات الإنفاق بناءً على هذا الافتراض، وعلى الرغم من أن التوقعات أصبحت غير راسخة، فإن هذا الخطر يزداد كلما طال ارتفاع مستويات التضخم. يبذل الاحتياطي الفيدرالي كل ما في وسعه لمنع ترسخ الأسعار المرتفعة.

موريس أوبستفيلد، أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وكبير الاقتصاديين الأسبق في صندوق النقد الدولي:

يواجه المجتمع العالمي تدهورًا بيئيًا واسع النطاق ومتسارعًا، والذي يشمل تهديدات مترابطة تتراوح بين تغير المناخ إلى فقدان التنوع البيولوجي وإزالة الغابات وانتشار الجسيمات البلاستيكية في المحيطات ومياه الشرب.

إن تفاقم التهديدات الممرضة ليس سوى عرض واحد من أعراض اصطدام البشرية بحدود الكوكب. وفي غضون ذلك؛ يبدو أن أنظمتنا السياسية المحلية وآليات الحوكمة العالمية لدينا غير قادرة بشكل متزايد على مواجهة المخاطر الوجودية التي نواجهها.

لا يوجد مكان يوضح العقبات التي تحول دون اتخاذ إجراء أفضل من الولايات المتحدة، حيث يؤدي تشديد السيطرة على الحكومة من قبل أقلية سياسية تتطلع إلى الشؤون الداخلية والخارجية إلى تقويض أي أمل في أن السياسة المحلية أو القيادة العالمية سترتقي إلى مستوى تحديات الحداثة.

تيجاني ثيام؛ الرئيس التنفيذي لشركة شركة “فريدوم أكويزيشن” والرئيس التنفيذي السابق لبنك كريدي سويس:

الخطر الأكبر في هذه المرحلة من الدورة هو مخاطر الأخطاء السياسية، وستكون مهمة حساسة أن يتم العثور على المزيج الصحيح من السياسات التي من شأنها خفض معدل التضخم دون التسبب في ركود عميق وطويل الأمد، وجعل سلاسل التوريد على مستوى العالم أكثر مرونة دون التضحية بالفوائد الرئيسية التي حصلنا عليها من العولمة والتجارة الحرة.

فريدريك نيومان؛ رئيس آسيا الاقتصادي في بنك “إتش إس بي سي”:

يتمثّل الخطر الاقتصادي الأكبر في “التضخم المصحوب بالركود” من النوع الحاد؛ حيث ترتفع الأسعار باستمرار وبوتيرة سريعة، ومع ذلك يقف العالم على شفا ركود عميق. وفي إطار هذا السيناريو؛ ستكون البنوك المركزية مقيدة وغير قادرة على التخفيف من النمو المتعثر، وبالتالي تتفاقم الضغوط المالية مع ارتفاع أسعار الفائدة.

نحن لسنا قريبين من هذا السيناريو؛ لكن مثل هذه النتيجة أصبحت على الأقل ممكنة، وعلى هذا النحو يبدو أن المستثمرين “معصوبي الأعين” عن مثل هذه المخاطرة التي بدأت في الظهور.

ويليام مالوني، الخبير الاقتصادي لمنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي بالبنك الدولي:

لدينا ميل للنظر إلى الأمور من المدى القصير، ولكن عندما ننظر إلى معدلات نمو منخفضة نسبيًا في المستقبل، فإننا نواجه مشكلة أطول. أنا أشعر بقلق أكبر بكثير بشأن الخسائر التي طالت قطاع التعليم خلال الوباء؛ حيث إن المنطقة بأسرها ليست مهيأة تعليميًا لهذا النوع من التقنيات القادمة.

يستوفي ثلث الطلاب في المنطقة الحد الأدنى من المعايير في العلوم والتكنولوجيا، فمن أين سيأتي رواد الأعمال أصحاب التقنية العالية هؤلاء؟ لدينا حوالي 30 بالمئة من الشركات التي تقول إنها لا تستطيع الحصول على القوة العاملة التي تحتاجها، وهذا بالمقارنة مع نسبة 20 بالمئة في العالم.

إرنستو ريفيلا؛ كبير الاقتصاديين لأمريكا اللاتينية في شركة “سيتي غروب”:

على المدى القصير؛ أنا قلق بشأن الاحتياطي الفيدرالي. في غضون 12 إلى 18 شهرًا القادمة، وسيكون منبع الكثير من المخاطر في لاتام، وأنا قلق من أن يكون لدينا معدل نمو أقل وتضخم أعلى.

وعلى المدى المتوسط؛ أشعر بالقلق بشأن ما إذا كانت المنطقة قادرة على تحقيق النمو من جديد. نحن نتجه إلى عالم يشهد سيناريو خارجي أكثر تحديًا، وتراجع نفوذ الصين والعولمة بشكل عام. إذًا ما الذي سيدفع النمو في أمريكا اللاتينية؟

آنا غيفتي أوبوكو أجيمان: المؤسس المشارك لمنظمة “سادي كولكتيف”، وهي منظمة غير ربحية تعالج نقص تمثيل النساء السود في الاقتصاد والتمويل والسياسة:

بالنسبة لي، ما يزال أحد أكبر المخاطر الاقتصادية المقبلة يتمثل في عدم مراعاة الأشخاص ذوي البشرة السوداء والبنية في عملية صنع القرار بشأن السياسة الاقتصادية.

إن الفشل في الاعتراف بكيفية تعامل هذه الفئات الضعيفة مع الحقائق الاقتصادية التي تلوح في الأفق والقائمة بالفعل (ارتفاع التضخم والركود الوشيك)؛ سيكون مكلفًا في النهاية للجميع بينما يزيد من تفاقم التفاوتات الحالية التي ستزيد من تقويض أي تقدم نحرزه.

لقد شهدنا هذا مرة أخرى في سنة 2009، عندما استبعدت جهود التعافي الاقتصادي النساء ذوات البشرة السوداء، اللواتي ارتفع معدل البطالة في صفوفهن؛ آمل ألا نرتكب الخطأ ذاته مرة أخرى.

بول كروغمان؛ حائز على جائزة نوبل وأستاذ الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك:

على المدى الطويل؛ هناك دائمًا أشياء مروعة مثل تغير المناخ والحرب وما إلى ذلك. لكن على المدى القصير؛ أعتقد أن الخطر الأكبر هو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي سوف يبالغ في تقديره وهذا ما سيدفعه لتشديد سياسته النقدية أكثر.

أوغستين كارستنس؛ المدير العام لمجموعة بنك التسويات الدولية:

تتمثل القضية الرئيسية في حالة عدم اليقين السائدة على المشهد العالمي والسيناريو الجيوسياسي؛ ستجعل الصدمة النفطية الأطول الانتعاش الاقتصادي أكثر صعوبة لا سيما الانتقال إلى وضع يتم فيه السيطرة على التضخم ولكن بتكلفة أكبر. على المدى المتوسط​​؛ يتمثل التحدي في البدء في مناقشة العوامل التي ستدفع محرك نمو الاقتصادات تنمو مرة أخرى، ونحن عالقون في وضعية كان فيه الكثير من الاعتماد على الظروف المالية المواتية، بما في ذلك السياسات المالية والنقدية، والتي تعد جيدة طالما يمكن مواصلة اتباعها وعلى الرغم من أنها لا تساهم في تعزيز النمو المستدام. لكننا نحن بحاجة إلى تعزيز النقاش حول بعض القضايا الهيكلية.

تريفون لوغان؛ أستاذ الاقتصاد بجامعة ولاية أوهايو:

تعد أكبر المخاطر الاقتصادية التي يواجهها العالم هو التضخم. أولًا؛ بالنسبة للجميع، يؤثر ارتفاع الأسعار على قدرتنا الشرائية، وهذا يضر المستهلكين ويمكن أن يعيق النمو جراء تقلص الاستهلاك، ويتمثل الخطر الثاني في الاستجابة النقدية النموذجية للتضخم، وزيادة معدل الأموال الفيدرالية/تشديد السياسة النقدية، والتي من شأنها خفض الطلب وزيادة البطالة. ويرتبط الخطر الثالث بشكل وثيق بالخطرين الأولين؛ فالاقتصاد مختلف تمامًا عما كان عليه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وما نحن غير واثقين منه الآن هو كيف ستعمل السياسة النقدية المتشددة في هذا الاقتصاد: هل ستؤدي إلى انخفاض الطلب بطريقة تقضي على التضخم؟ أعتقد أن الإجابة هي نعم، لكن المجهول هو كيف ستبدو معالم هذه السياسة بالتفصيل، وإلى أي مدى يمكن أن ترتفع معدلات الفائدة على الأموال الفيدرالية؛ على ضوء زيادة تركيز السوق وزيادة الأدلة على احتكار الشراء في سوق العمل؟ في الحقيقة؛ يعاني السوق من الكثير من المخاطر السياسية، والتي قد تكون هادئة للغاية أو عدوانية للغاية، لكن من شأن ارتكاب أي أخطاء كبيرة في أي من الاتجاهين أن يكون له تأثير كبير على الرفاهية المادية للأسر العاملة.

موغور إيسارسكو؛ محافظ البنك الوطني الروماني، وصاحب أطول خدمة كرئيس لبنك مركزي في العالم:

يعتبر الركود التضخمي هو أكبر المخاطر الاقتصادية. في السبعينيات؛ كنتُ باحثًا اقتصاديًّا شابًا، وأتذكر جيدًا فترة الركود التضخمي تلك، والتي استمرت في ذلك الوقت لـ 10 سنوات. وأعتقد أن الأزمة كانت أكبر قليلاً في ذلك الوقت، فبعد أن كان سعر النفط يبلغ 1 دولار للبرميل؛ قفزنا إلى 10 دولارات في نهاية سنة 1972، ومن وجهة نظر النظريات الاقتصادية والمالية والنقدية، لا يمكنك بسهولة التغلب على الصدمة التي تسبب التضخم والركود، فنحن جميعًا نحاول إيجاد حلول، لكن رفع أسعار الفائدة بسرعة من 16 بالمائة إلى 20 بالمائة لا يعد حلًّا جذريًّا، ولا حتى خفض معدلات الفائدة عندما يرتفع التضخم، كما يفعل بعض جيراننا في الجنوب، فمن المحتمل أن تؤدي معايرة السياسة المالية الصحيحة مع التدابير الهيكلية هذه إلى وضع تتوافق فيه معدلات الفائدة مع معدلات التضخم، لكن تجنب الوقوع في فخ الركود سيكون صعبًا للغاية على المستوى العالمي.

كارين وارد، إستراتيجية السوق لأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا في إدارة أصول جي بي مورغان والمستشار الاقتصادي السابق لوزير المالية البريطاني:

من مخاطر الركود الواضحة هو أن تباطؤ النشاط الاقتصادي لن يبطئ التضخم، فطالما أن ضعف الطلب سيؤدي إلى تخفيف أسعار المستهلكين وتضخم الأجور، فلن تضطر البنوك المركزية إلى تشديد سياستها النقدية ويمكنها أن تحاول البحث عن حل سهل. ومع ذلك؛ إذا ظل التضخم ثابتًا، فينبغي أن يكون الركود أكثر أهمية واستدامة لتقليص التضخم. ويكمن الخطر في هذا السيناريو في أن هذا سيخلق صراعًا بين الحكومات والبنوك المركزية، ويتمثل أكبر مخاطر التضخم في الجمع بين أسواق العمل الضيقة وتحديات قطاع الطاقة الذي يطلق العنان لزيادة هائلة في الاستثمار، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى انتعاش الإنتاجية.

نغوزي أوكونجو إيويالا؛ المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية:

يتمثل الخطر الاقتصادي الأكبر في المستقبل في استمرار الحرب في أوكرانيا.

دانا بيترسون، الخبيرة الاقتصادية بمجلس المؤتمرات:

يتمثل أكبر تهديد للاقتصاد الأمريكي في الركود الناجم عن تشديد بنك الاحتياطي الفيدرالي سياسته النقدية استجابة لارتفاع التضخم، ويتوقع مجلس المؤتمرات الآن حدوث ركود قصير ولكنه سطحي في الولايات المتحدة أواخر هذه السنة، ويرتكز هذا على فترات من التضخم المصحوب بالركود – الذي يتسم بنمو منخفض ولكن تضخم مرتفع، وتعكس التوقعات مزيدًا من التشديد الفيدرالي، بما في ذلك الزيادات الأكبر والمتسارعة في أسعار الفائدة إلى منطقة محددة – أي أعلى من 3 بالمائة – هذه السنة.

المصدر: فاينانشال بوست

شاب هندي.. من عامل نظافة إلى مليونير

إعداد: مصطفى الزعبي

أصبح المليونير الهندي الشاب الذي لم يتجاوز عمره ال33 عاماً، وأسس شركة تبلغ قيمتها مليوني دولار، يعمل بها 100 موظف حتى الآن، عنواناً لقصة نجاح، أو طريقة يمكن محاكاتها، أو تكرارها، للوصول إلى النتيجة نفسها، بشرط الشغف بتفاصيل الرحلة، والإصرار على بلوغ المرحلة التي بلغها عامر قطب الذي نشأ في بلدة صغيرة في الهند تُعرف باسم سهارنبور، وانتقل إلى أستراليا قبل عشر سنوات لدراسة ماجستير في إدارة الأعمال.. وبدأ رحلة النجاح من هناك.

تفاصيل الرحلة مملوءة بالتعب والإخفاق، لكنها خلت من اليأس، رغم أنه قدم 300 طلب عمل، لكنه لم يحظ بأي فرصة لإجراء مقابلة توظيف واحدة؛ لكنه الآن يقدم نصائح لرواد الأعمال الشباب، بتدوين إخفاقاتهم ودراستها جيداً، حتى يكون تجنب الأخطاء سهلاً.

يقول عامر قطب: «كان الانتقال إلى أستراليا مخيفاً للغاية، لأن كل شيء كان جديداً أمامي، ولم تكن لغتي الإنجليزية جيدة لتساعدني على التواصل مع الأشخاص، وكان من الصعب العثور على وظائف من دون خبرة، ولم أكن أملك في الهند أي خبرة، فما زلت شاباً».

وتابع: «قررت أن أمارس العديد من المهن، منها عامل نظافة في مطار أفالون في فيكتوريا، وأمضيت ستة أشهر، لكنني غادرت، لأحاول بدء مشروع البرمجيات الخاص بي بعد إنهاء مسيرتي الجامعية». وفي حديثه إلى صحيفة ال«ديل ميل»، أشار إلى أنه كان يسافر ثلاث ساعات للوصول إلى الجامعة، ويمضي اليوم في الدراسة هناك، وبعد الظهر من الساعة 2 صباحاً حتى 7 صباحاً كان يعمل في تعبئة الصحف وإعادة توزيعها، وأنه في سنته الدراسية الأخيرة، حصل على تدريب داخلي في شركة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جيلونج، وفي غضون 15 يوماً تمت ترقيته إلى مدير العمليات، وحبه في العمل جعله يعمل عن كثب مع المدير العام للشركة، وعندما أصبح منصب المدير العام شاغراً بعد أقل من عامين بقليل، أصبح المدير العام المؤقت.

وأضاف: «بعد تعييني الرئيس المباشر للشركة، زادت إيراداتها بنسبة 300%»؛ لكنه قرر أن يبذل كل جهوده لإطلاق شركته الخاصة.

وأمضى الشاب الهندي الغريب في استراليا أياماً يوزع النشرات في محطات الحافلات والقطارات على أمل أن يمنحه شخص ما فرصة، إلى أن التقى رجلاً في قطار كان يدير شركته الصغيرة الخاصة، فأنشأ قطب تطبيقاً ذكياً وفر10 آلاف دولار من أعمال الرجل شهرياً.

ما دفع قطب إلى أن ينشئ شركته باسم Enterprise Monkey Proprietor Ltd عام 2014 بألفي دولار فقط، حيث نفذ العمل في البداية من مرآب شقيق زوجته. وقال قطب: «التحدي الأكبر كان العثور على عملاء، لقد كنت جديداً في البلاد، ولم أكن أعرف كيفية القيام بأعمال تجارية، والآن فريقي أصبح 100 موظف، 80 منهم يعملون عن بعد في الهند، لإنشاء تطبيقات تساعد الشركات على توفير المال وزيادة الإيرادات، أردت أن أكون ناجحاً، وأردت متابعة ما أحببته، وكان لدي هذا الإيمان بنفسي». وأضاف: «أراد والدي أن أعود إلى الهند، لأعمل في وظيفة حكومية، حيث يتعلق الأمر كله بالمؤهلات التي لديك في الهند، ولكن في أستراليا لا يتعلق الأمر بالتعليم، بل يتعلق بمجموعة المهارات، لذا فضلت الاستقرار في أستراليا».

وأكد رجل الأعمال الشاب، صاحب قصة النجاح اللافتة أن «كوفيد-19»، لم يؤثر في عمله، إذ قرر إنشاء تطبيق يسمى Angel Next Door والذي سمح للجيران بطلب المساعدة في أشياء مثل البقالة أو الأدوية عندما كانوا في عزلة، واستطاع في فترة قصيرة أن يكون لديه 100 ألف مشترك، مشيراً إلى أنه يشجع رواد الأعمال الطموحين على مواصلة الرحلة، مقدماً لهم النصحية بأنه لا داعي للقلق بشأن الوصول، استمتعوا بالرحلة، مهما واجهتكم من إخفاقات.

ماذا ينتظر أطفالنا في المستقبل؟ هذه الوظائف الأعلى أجرًا في عام 2040

يبدو أن معظم الوظائف التي نعرفها حاليًا ستصل إلى نهايتها في غضونِ عقدين من الزمن، كيف يمكن لنا أن نوجّه أطفالنا إذًا نحو مستقبلٍ مهنيّ ناجح ومضمون؟ هذا ما يجيب عليه تقرير صحيفة «تليجراف» البريطانية مع قائمةٍ من الوظائف المتوقع لها أن تكون الأهمّ والأعلى أجرًا عام 2040.

ما هي الوظائف الأعلى أجرًا في المستقبل؟

يبدأ التقرير بالتعريف بنيكولاس بادمينتون الذي سيعتمد على تنبؤاته للوظائف المستقبلية الأعلى أجرًا في غضون عقدين من الآن. طوّر بادمينتون المختصّ بعلوم الكمبيوتر اهتمامًا مكثفًا بمجال المستقبليّات، ولذلك يقضي ساعاتٍ يومية من القراءة عن التطورات التكنولوجية الجديدة في جميع القطاعات لمعرفة الأنماط المُمكنة من التنبؤ بما يخبّئه لنا المستقبل، وكلّ ما يخصّ أساس الحياة المعاصرة.

يتقاضى بادمينتون أجره المهنيّ ليشارك رؤيته المستقبلية عن توجهات التطور التكنولوجي مع منظمات وشركات كبرى مثل «جوجل»، و«ميكروسوفت»، وناسا، والأمم المتحدة، كما سينُشر كتابه «مواجهة مستقبلنا» المعنيّ بالموضوع ذاته في هذا العام. إذًا ما الذي ينتظر الأطفال الذين يولدون اليوم؟ كيف سيبدو مكان العمل عندما يصلون لعمر الثامنة عشر في عام 2040؟ هل ستبقى الجامعات موجودة؟ هل ستقوم الروبوتات بعملنا؟

يقول بادمينتون أن السؤال ليس أيّ من الوظائف ستصبح آلية، بل متى ستصبح كذلك؟ مؤكدًا أن كل جزءٍ من الاقتصاد سيتأثر بأتمتةِ الوظائف: «من المتوقع أن تكون الآلات أفضل منا في ترجمة اللغات بحلول عام 2024، كتابة المقالات المدرسيّة عام 2026، قيادة الشاحنة عام 2027، العمل في البيع بالتجزئة عام 2031، تأليف كتاب من الأكثر مبيعًا عام 2049، إجراء العمليات الجراحية عام 2053. في الواقع ستجري أتمتة جميع الوظائف البشرية في غضون الـ120 عامًا القادمة».

قد يهيمن الذكاء الاصطناعي قريبًا على الكثير من المجالات، بما في ذلك القيادة، وتوصيل البضائع، والصرافة، والبيع بالتجزئة، والتسويق، وخدمات العملاء، وحتى الوظائف التي ستبقى موجودة – مثل الطب، والمحاماة، والبناء، والقانون – ستغدو مختلفةً تمامًا مع الانتقال للأتمتة.

لكن مع اختفاء كل هذه الوظائف، فإن الأمر يُبشّر بخيرٍ وفقًا لبادمينتون: «رغم التحول الذي سيدفع نحو الأتمتة، أعتقد أنا سنعيش في عالمٍ يعمل به الإنسان والآلة في وئام»، مضيفًا أن ذلك سيعني تحرّرنا من الأعمال الرتيبة لفعل أشياءٍ ذات طبيعةٍ إبداعية أقوى، ويطلق بادمينتون لقب «اقتصاد الحكمة» على الأمر.

 

ويؤكد بادمينتون أن القيادة ستبقى للبشر، لأن الذكاء الاصطناعي سيبقى لوقتٍ طويلٍ قاصراً عن إظهار فعالية جيدة في حلّ المشكلات الإبداعيّ، ولا التفكير التعاطفي، أو النقاش الفلسفي، وما يختص بديناميكات التعاون البشري. وبالتالي سيصبح التواصل البشري العميق، والتعاطف، والفضول – وما ماثل ذلك من أمور إنسانية جدًا – أمرًا أساسيًا وحيويًا للغاية.

مجالات التصميم

الراتب: +100 ألف جنيه إسترليني (مُقدرة لعام 2040، مع مراعاة عامل التضخم)

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: مصممو الأنظمة، مهندسو البرمجيات، أساتذة الأخلاقيات، علماء النفس، الفلاسفة.

التعليم المطلوب: أي شيء له علاقة بعلوم الكمبيوتر، والفلسفة، وعلم النفس، والتصميم، والأخلاقيات.

يلفت التقرير إلى الشروط والأحكام المتعلقة بالتقنيات الحديثة التي نستخدمها في حياتنا اليومية الآن، فعندما تُسجّل في «فيسبوك» و«تويتر» مثلًا تُطلب موافقتك على الشروط والأحكام الخاصة بالتطبيق. وبمقابل الصور التي ننشرها لأطفالنا أو يوميّاتنا نُسلّم الكثير من البيانات لهذه الشركات. لكن هذا سيتغيّر مُستقبلًا وُفقًا لبادمينتون.

سيتغيّر تصميم التكنولوجيا لتُصبح الأولوية بها لاستخدام الإنسان وليس للشركة، وكما ينتقل التقرير عن بادمينتون: «سيقلب التصميم المتمحور حول الإنسان الموازين بالنسبة لكل شيء. دعنا نضع حقوق المُستخدم للنظام قبل حقوق الشركة، لنرى كيف يمكن أن نعمل معهم على نحوٍ أخلاقياتيّ»، وسيكون السؤال حينها وفقًا لبادمينتون: «ما الذي سيكون سليمًا ومُنصفًا للفرد البشري؟».

يقول التقرير إن «تويتر» يدير عمله بهذه الطريقة منذ الآن، ولكن سيكون هناك حاجة للمزيد من الأفراد المؤهلين لنشر هذا النهج ضمن الشركات الأخرى المعنية بالتكنولوجيا.

علماء ووسطاء البيانات

الراتب: +75 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: مطورو البرمجيات، محللو البيانات والأعمال، مسؤولو قواعد البيانات، المدرّبون والمهندسون بتخصص الذكاء الاصطناعي.

التعليم المطلوب: علوم الكمبيوتر، تحليل البيانات، علم النفس، الإحصاء، الاقتصاد، علوم البيانات.

وُفقًا لبادمينتون، ستُنشئ البيانات بمعدّل أكثر من 200 بيتابايت في العام بحلول 2040 (تساوي البيتابايت 1000 تريليون وحدة من المعلومات أو النصوص)، مع أكثر من 8 آلاف تفاعل رقميّ بياني لكل شخص يوميًا. سيترافق ذلك مع بروز مهنةٍ جديدة: وسطاء البيانات (أو سماسرة البيانات)، ويعمل بها الأشخاص الذين يبيعون بياناتك بالنيابة عنك.

 

ستحتاج كل شركة إلى فرق من علماء البيانات المدربين لمساعدتهم على استكشاف الفرص في البيانات المتوفرة لديها وتمكين موظفيهم وعملائهم. يُشير بادمينتون إلى فكرة «كرامة البيانات»، التي تقول بحق المستخدم في امتلاك بياناته التي يُنتجها. فمثلًا في بيانات «فيسبوك»، يجب أن يكون لديك حقك في الحفاظ على خصوصيتك أو بيع بياناتك به لأشخاصٍ أو جهاتٍ معينة، بحيث ينتج في النهاية اقتصاد للبيانات الشخصية يمكن لك أن تكسب المال منه. وهنا تأتي مهنة سماسرة البيانات، ممن يتوسطون ليبيعوا بياناتك بالنيابة عنك.

معالجو الروبوتات

الراتب: +250 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: علماء وأخصائيو النفس.

التعليم المطلوب: علم النفس، إلى جانب تخصصات أخرى مثل الحوسبة، وعلوم اللغويات العصبية، ومجالات الخدمة الاجتماعية، والأخلاقيات.

قد يكون لديك اطّلاع على «إنترنت الأشياء»، ويتمّ به توصيل الأشياء بالشبكة لتتمكن من محادثتنا والتواصل مع بعضها البعض أيضًا. المثال الشائع الآن الثلاجة الذكية التي يُفترض لها أن تراسلك وتُعلمك بانتهاء صلاحية الحليب الذي بداخلها أو نقصان مادة ما. أو ربط المنبه بجهاز التحميص ليكون خبزك جاهزًا فور وصولك إلى المطبخ.

لذلك يقول التقرير أن المراهقين الشغوفين بمجال التكنولوجيا سيتخصصون بمشاريع الروبوتات في المستقبل وحلّ مشاكلها. ماذا لو توقفت عن استخدام جهاز تحميص الخبز مثلًا؟ كيف سيشعر الجهاز حيال ذلك؟ هذا ما يؤكده التقرير، سيكون للآلات مشاعر.

يقول بادمينتون: «سينتشر التعلم الآلي والأجهزة الذكية والروبوتات في المجتمع لدرجة أنها ستصبح واعية وتبدأ في الشعور كما نفعل»، مضيفًا أن علماء النفس المحترفين سيصقلون من مهاراتهم ليفهموا المعاني والفروق الدقيقة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وتعلم الآلات: «قد تحتاج أجهزة التحميص لدينا إلى المساعدة وسنكون بالقرب لأجلهم».

مُترجمو الذكاء الاصطناعي والروبوتات

الراتب: +50 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: علماء اللغويات والمترجمون.

التعليم المطلوب: اللغات واللغويات.

ينتقل التقرير عن متخصص المستقبليّات ماثيو جريفين قوله: «تحدثتُ مع طالبٍ في الصف الثالث عشر هذا الأسبوع وأخبرني أنه يريد أن يصير متخصصًا باللغويات، ولكن إن كان يعني هذا سابقًا أنه ربما يترجم الصينية أو الإيطالية يمكن أن يترجم الذكاء الاصطناعي الآن».

ويعتقد البعض حاليًا بوجوب تدريس برمجة الذكاء الاصطناعي في المدارس بنفس الطريقة التي نُعلّم بها الفرنسية مثلًا: البرمجة لغة أجهزة الكمبيوتر مثلما الفرنسية لغة الفرنسيين. ووفقًا لجريفين، اكتشفت «جوجل» و«فيسبوك» مؤخرًا أن بوتّات الذكاء الاصطناعي اخترعت لغاتها الخاصة فيما بينها – وإن كانت مصممة أساسًا للتحدث مع بعضها بالإنجليزية – وبالتالي، ستتركز مهارات مترجمي الذكاء الاصطناعي في محاولة فهم اللغات المختلفة التي يُنشئها الذكاء الاصطناعي لنفسه ومن ابتكاره الخاص.

مُهندسو المواد الغذائية

الراتب: +75 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: المزارعون.

التعليم المطلوب: الكيمياء الحيوية والهندسة.

يُذكّر ماثيو جريفين بقدرتنا اليوم على إنتاج الطعام بالطباعة ثلاثية الأبعاد وكذلك إنماء أنواعٍ مختلفة من الطعام في المفاعلات الحيوية الخاصة – تأخذ خلية من حيوان وتضعها في مفاعلٍ حيوي لتنتج رطلًا من ذلك اللحم – ولذا يقول جريفين بالحاجة إلى مهندس الغذاء: «الشخص القادر على هندسة أطعمةٍ مختلفة على المستوى الجزيئي».

معماريّو ميتاڤيرس وبناة العوالم الافتراضية

الراتب: +100 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: المهندسون المعماريون، مصممو ألعاب الفيديو، فنانو التأثيرات والتقنيات البصرية، الفنانون، مهندسو الصوت، مصممو الأزياء، خبراء البيع بالتجزئة.

التعليم المطلوب: مجالات المؤثرات البصرية المصممة حاسوبيًا، البرمجة، تصميم الأجهزة.

ارتدِ سماعة رأس لتجربة الواقع الافتراضي وستنقلك إلى عالمٍ آخر، تعتمد فكرة الميتاڤيرس على هذا الأمر، أن يصبح الواقع الافتراضي جزءًا طبيعيًا من حياتنا، حاله حال الإنترنت أو ألعاب الكمبيوتر. يتنبّأ التقرير بأن يعمل المراهقون الشغوفون بالتقنية اليوم في المشاريع المعنية بالروبوتات في المستقبل، وكما يوضح بادمينتون: «سنعيش في عالم من الواقع المختلط، قد أرتدي نظارات ذات مظهر طبيعي وأنظر للعالم من حولي بها، وستكون معززة بالمعلومات حول الأشياء». ويضيف كاتب التقرير أن شركة «فيسبوك» أنفقت المليارات على هذا المفهوم، فضلًا عن استثمارات «جوجل» و«ميكروسوفت» بالموضوع أيضًا.

 

ويطرح التقرير أمثلة على استخدامات الواقع الافتراضي، فقد نلتقي في مساحاته عام 2040 عوضًا عن اجتماعات الزوم التي نجريها اليوم، يُعقّب بادمينتون مُفصّلًا: «ستلتقي نسخنا الافتراضية في غرف اجتماعاتٍ افتراضية، مجهزّة بأثاثٍ وفنّ افتراضي»، ولك أن تتخيل الفرق الضخمة التي سيحتاجها بناء وإعداد هذه العوالم الافتراضية.

الفنانون والمبدعون الحركيون

الراتب: +75 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: الفنانون، والكتاب، وصناع البرامج التلفزيونية.

التعليم المطلوب: الفن، الموسيقى، تصميم الرقص.

يتنبأ بادمينتون بأن التلفزيون كما نعرفه اليوم سيتوقف بحلول عام 2040. من الشائع في عالمنا الحالي الاعتماد على صناعة الترفيه ليتلقاه الجمهور ويشاهده، لكن سيُتبدل ذلك بأشكال أكثر تفاعليّة من التلفزيون، والموسيقى، والفيديو، والفن.

كما يعتقد بادمينتون بأن المسرح الحيّ والأداء في الشوارع سيعود إلى الواجهة، وسيحمل ذلك معان أكثر من مجرد الترفيه: «سيربط المجتمع معًا، ويخلق هدفًا وراء الحياة ويواجه الحكومات والشركات الكبرى على حدّ سواء».

رواد الأعمال المحليّون

الراتب: +50 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: رواد الأعمال.

التعليم المطلوب: متعدد.

بدأت هذه الظاهرة بالفعل، يذكر التقرير مثالًا حالة رواد الأعمال في المملكة المتحدة ممن يبيعون خدماتهم ومنتجاتهم عبر الإنترنت لتصل إلى نطاقٍ عالمي، وذلك بمساعدة العاملين المستقلين المحليين والدوليين ممن يساهمون في بناء هذه الأعمال. سيفتح المستقبل الطريق أمام بدء الأعمال التجارية الخاصة للملايين من الأشخاص.

وكما يوضح بادمينتون، ستختلف أنواع الأعمال بما في ذلك المتصّل منها بالإنترنت أو خارجه، وقد يتضمن ذلك الخدمات التقليدية التي يطلبها الناس، مثلًا قد يريد أحدهم سندويشةً من صنع بشري بدلًا عن منتجات الروبوت.

خبراء الأمن السيبراني والترويج الإعلامي

الراتب: +100 ألف جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: مطورو البرمجيات، محللو البيانات، محللو الأعمال، المسؤولون عن قواعد البيانات، مدربو الذكاء الاصطناعي، مهندسو الذكاء الاصطناعي، خبراء الأمن السيبراني.

التعليم المطلوب: علوم الكمبيوتر، نظرية المعلومات.

يوضح التقرير حاجتنا المستقبلية إلى رجال شرطة للإنترنت للردّ على الهجمات السيرانية وضمان الخصوصية والأمن والسلامة للجميع. سنحتاج أيضًا إلى أشخاصٍ يتقصّون وراء المعلومات المضللة، ويحموننا من انتشارها.

يقول بادمينتون أن هناك تجمعات هائلة لمتصيدي الإنترنت (trolls) ممن يضخّون المعلومات المضللة في منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ومع تعقيد التكنولوجيا المتزايد نحتاج إلى أشخاص مدرّبين لفهم المزيّف وطرق إيقافه. وفقًا لبادمينتون ستكون هذه من بين الوظائف الأعلى أجرًا في المنظمات في أواخر 2030 وخلال عقد 2040.

متخصصو الرعاية الصحية والمخترقون البيولوجيون

الراتب: +75 ألف إلى مليون جنيه إسترليني

العاملون المعنيّون بهذه المجالات اليوم: الأطباء، الممرضون، الجراحون، أخصائيو العلاج الطبيعي، أخصائيو التغذية.

التعليم المطلوب: الطب التقليدي، إلى جانب مجموعة من التخصصات الأخرى مثل التغذية والتكنولوجيا.

بدو أن طول العمر (التعمير) سيكون واحدًا من الأهداف الرئيسية للأثرياء، وقد يرتفع متوسط عمر من تزيد أرباحهم عن 10 ملايين جنيه إسترليني إلى ما يقارب 130 عامًا وفقًا لما يذكره التقرير. يتنبأ بادمينتون بأن تظهر مستشفيات متخصصة تتضمن أطباء وممرضات وجراحين يعملون على تطوير الأبحاث المتخصصة بكل ما يضمن حياةً أطول للقادرين على تحمل تكاليفها، بما في ذلك العناية بتقنيات الزرع، والعقاقير، والنظام الغذائي، والمكمّلات والإجراءات الطبية، وحقن الخلايا الجذعية، وخلافه.

تكمن فكرة الاختراق البيولوجي (Biohacking) بتطبيق الممارسات السابق ذكرها لإطالة عقود حياة الإنسان إلى ما بعد النطاق المعهود الحالي، ويعتقد بادمينتون أن تحقيق ذلك سيكون ممكنًا في المستقبل لبالغي الثراء، كما ستترافق شيخوخة السكان مع ارتفاع الطلب على مقدمي الرعاية وخدمات التمريض.

ماذا عن التعليم التقليدي؟

يتوقع المدرب الوظيفي مارك أندرسون ارتفاع الطلب على أنواع التدريب المهني، قد يلجأ الطلاب للأعمال المأجورة بجانب دراستهم. قد تظهر أيضًا الشهادات المصغرة أو الجزئية عبر التدرّب بكورسات محددة تساهم في اكتساب الدرجات العلمية، مع مزج الدورات التعليمية عبر الإنترنت، وما إلى ذلك من أمورٍ بدأت تُطبق في فترة الجائحة، وسيستمر سوق الوظائف في التطور مستقبلًا؛ ما يعني أن الناس سيحتاجون إلى إعادة صقل مهاراتهم باستمرار ومتابعة التعلم على مدى الحياة.

ينصح أندرسون الشباب بإلقاء نظرة على قائمة أهداف التنمية العالمية السبعة عشر التي نشرتها الأمم المتحدة؛ لأن هذه مشاكل العالم التي ستتطلب حلولًا، بما في ذلك الجوع والتلوث وتأمين المياه النظيفة والتعليم: «سيساعدك هذا في العثور على المجال الذي يُهمّك». ويعتقد بادمينتون أن طبيعة البحث عن الوظائف ستتغير في المستقبل لتُركّز على دافع البحث عن الهدف، ولن يبقى مفهوم الوظائف مدى الحياة، بدلًا عن ذلك سيعمل الناس على مشاريع متعددة في حيواتهم.

يعتبر بادمينتون هذا الأمر مؤشرًا للتفاؤل، سيجد الشباب الصغار أنفسهم أمام عالمٍ مفتوح بالاحتماليات، وفي وفرةٍ من الخدمات الآلية المتنوعة ما يجنّبهم قضاء الوقت بالأعمال التقليدية المحدودة: «يمكن للأطفال اليوم ابتكار عملٍ على هاتفهم، إنه أمر هائل. إذا كانت لديك المهارات، وتعمل بجدّ كافٍ، يمكنك تحقيق شيءٍ مذهل للغاية».

من بين 8 مليار نسمة.. كم منهم سينجون إذا اختفى الوقود الأحفوري؟

نما عدد سكان العالم من مليار إلى 8 مليارات بعد اكتشاف الوقود الأحفوري (الفحم والغاز الطبيعي والنفط الخام).

نشر موقع «أوراسيا ريفيو» مقال رأي لـ«رونالد شتاين»، مؤسس وسفير الطاقة والبنية التحتية لشركة «بي تي إس أدفانس (PTS Advance)»، وهي شركة توظيف في مجال النفط والطاقة مقرها مدينة إيرفين بولاية كاليفورنيا، حول الدعوات الآخذة في التزايد للتخلي على الوقود الأحفوري، ويرى الكاتب أن الوقود الأحفوري أحدث ثورةً في العالم منذ بدء استخدامه في كل شيء، وأن الاستغناء عنه يمكن أن يقضي على مليارات من البشر.

ويستهل شتاين مقاله بالقول: لقد غيرت التطورات الاقتصادية والتكنولوجية على مدى المئتي عامٍ الماضية طريقة إنتاجنا للطاقة واستهلاكها، ومنذ القرن التاسع عشر، أصبح الوقود الأحفوري من الفحم والنفط والغاز الطبيعي يدعمون الآن أكثر من 80% من إمدادات الطاقة في العالم لتلبية متطلبات سكان العالم من أكثر من 6 آلاف منتج في حياتنا اليومية، مصنوعة من المشتقات النفطية المصنعة من النفط الخام، التي لم تكن موجودة قبل القرن العشرين، وأنواع الوقود لنقل الاحتياجات الثقيلة وبعيدة المدى لأكثر من 50 ألف طائرة، وأكثر من 50 ألف سفينة تجارية، والبرامج العسكرية والفضائية، وفي الشكل أدناه، يوجد تاريخ مصور لتحولات الطاقة هذه على مر السنين.

احتياجات الطاقة العالمية في ارتفاع

ترسم التوقعات الأخيرة التي نشرتها وكالة الطاقة الدولية (IEA) وإدارة معلومات الطاقة (EIA) صورةً واضحة بأن احتياجات الطاقة العالمية سترتفع ارتفاعًا كبيرًا في العقود القادمة، مما يعكس النمو السكاني، وخروج المزيد من الدول من دائرة الفقر، والتوسع في أنظمة النقل والتكنولوجيا في جميع أنحاء العالم، وستستمر المنتجات المشتقة من النفط الخام في تلبية حصة كبيرة من هذا الطلب المتزايد.

وكما هو متوقع، خلال الاحتفال مؤخرًا بيوم الأرض، طالب نجوم هوليوود ليوناردو دي كابريو وجين فوندا ومات ديمون وعديد من كبار المشاهير الذين يقودون الهجوم على تغير المناخ، بتخليص المجتمع من النفط الخام، وقد يظن المرء أن نجوم السينما هؤلاء لديهم الذكاء لمعرفة أن النفط الخام عديم الفائدة فعليًّا ما لم يتم تصنيعه إلى شيء قابل للاستخدام، لتلبية مطالبهم الشخصية ومتطلبات المجتمع، عبر المصافي، وتتمتع صناعة معالجة الهيدروكربونات، أي تلك المصافي، بتاريخ غني من الاكتشافات والتحديات والاختراقات والتجربة والخطأ والتعاون والنجاح.

وإذا نظرنا إلى الوراء لما يزيد قليلًا عن 100 عام، فمن السهل أن نرى كيف استفادت الحضارة من أكثر من 250 تقنية تكرير مرخَّصة ومتقدمة لمعالجة الهيدروكربونات تستخدمها أكثر من 700 مصفاة في جميع أنحاء العالم والتي توفر المنتجات النفطية لتلبية متطلبات 8 مليارات من البشر الذين يعيشون على الأرض مع أكثر من ستة آلاف منتج مصنوع من المشتقات النفطية المصنعة من النفط الخام في المصافي، ولم يكن أيٌّ من هذه المنتجات والبنى التحتية اللاحقة متاحًا للمجتمع قبل عام 1900.

توربينات الرياح والألواح الشمسية ليست مثل النفط

ويمضي شتاين إلى أن توربينات الرياح والألواح الشمسية قد تكون قادرةً على توليد كهرباء متقطعة من نسمات الريح وأشعة الشمس، لكنها لا تستطيع تصنيع أي شيء؛ وبالمناسبة، جميع المنتجات اللازمة لصنع قطع غيار المركبات وتوربينات الرياح والألواح الشمسية والطائرات والسفن والمستلزمات الطبية وإطارات السيارات والأسفلت والأسمدة مصنوعة من مشتقات النفط المصنعة من النفط الخام، والتخلص من النفط الخام سيقضي فعليًّا على كل شيء في حياتنا اليومية واقتصاداتنا.

وبعد الفحم والنفط والغاز الطبيعي، أنشأنا طرقًا مختلفة للنقل، وصناعةً طبية، وأنظمةً إلكترونية واتصالات، وقلَّل النفط معدل وفيات الرضَّع، وزاد من طول العمر الافتراضي للإنسان من أكثر من 40 إلى أكثر من 80 عامًا، ومنح الجمهور القدرة على التحرك في أي مكان في العالم من خلال الطائرات والقطارات والسفن والمركبات، كما أنه قضي فعليًّا على الوفيات الناجمة عن معظم الأمراض وعن جميع الأشكال في حالة الطقس، ويمكن أن يُعزى كل هذا «التقدم» الواضح إلى استخدام الفحم والنفط والغاز الطبيعي في المجتمع.

وقادة العالم وحركة البيئة والمجتمع والحوكمة (ESG) التي تضع سياسات لتخليص العالم من الوقود الأحفوري، لديهم ذكريات قصيرة عن كون المنتجات البتروكيماوية والبراعة البشرية هي الأسباب في زيادة سكان العالم من مليار إلى 8 مليار نسمة في أقل من مئتي عام.

إن المناخ يتغير، كما كان عليه الحال منذ 4 مليارات سنة، وسيستمر في التغير؛ نعم ستكون هناك وفيات من التغيرات المناخية القادمة، لكن تلك الوفيات ستكون صغيرةً مقارنةً بعالم خالٍ من الوقود الأحفوري، والذي سيرجع إلى وضعه الخالي من الكربون في أوائل القرن التاسع عشر وما قبله.

250 ألف حالة وفاة إضافية كل عام

ويوضح الكاتب أنه من المتوقع أن يتسبب تغير المناخ في حدوث ما يقرب من 250 ألف حالة وفاة إضافية سنويًّا، بين عامي 2030 و2050، بسبب سوء التغذية والملاريا والإسهال والضغط الحراري، لكن الجهود المبذولة لوقف استخدام النفط الخام يمكن أن تكون أكبر تهديدًا للثمانية مليارات نسمة الذين يعيشون في هذه الحضارة، وقد ينتج عن ذلك مليارات، وليس ملايين، الوفيات الناجمة عن الأمراض وسوء التغذية والوفيات المرتبطة بالطقس في محاولة للعيش من دون الوقود الأحفوري الذي يفيد المجتمع.

وقبل بضع مئات من السنين، قبل النفط، كان العالم غير ملوث، منزوع الكربون، وتهيمن عليه الطبيعة الأم ومملكة الحيوانات البرية، ولم تكن هناك محطات طاقة تعمل بالفحم، ولا محطات لتوليد الطاقة بالغاز الطبيعي، وكان هناك عدد أقل من البشر الذين يتنافسون مع الحيوانات بسبب قدرة البشرية المحدودة على البقاء على قيد الحياة بما تقدمه الطبيعة الأم،ط وقبل النفط، كانت الحياة صعبة وملوثة، مع عديد من الوفيات المرتبطة بالطقس والأمراض.

ويخلص الكاتب إلى أنه يوجد الآن ثمانية مليارات منَّا، ويعيش معظم الناس حياةً أطول بكثير وأكثر ازدهارًا من مليار شخص كانوا موجودين عندما بدأ استخدام الوقود الأحفوري بعد منتصف القرن التاسع عشر؛ وعلاوةً على ذلك، كلما زاد ثراؤنا، أصبحت معظم أجزاء الكوكب أكثر اخضرارًا.

وسيناقش المفكرون ومؤرخو المستقبل تأثير الأعمار الأطول لعقود قادمة، وزاد عدد سكان العالم زيادة كبيرة بعد استخدام الوقود الأحفوري وأصبح السكان يعتمدون على الوقود الأحفوري نفسه لإطعام العالم عن طريق نقل المواد الغذائية والمنتجات في جميع أنحاء العالم لإطعام هؤلاء الثمانية مليارات على هذه الأرض التي يزداد الضغط عل مواردها الشحيحة ويتزايد ازدحامها بالبشر.

ولفهم العالم «البِكر» قبل استخدام النفط، يمكننا بسهولة مراقبة أفقر دول العالم لنرى كيف تبدو أنماط الحياة مع وجود الطبيعة الأم ومملكة الحيوانات التي يجب مواجهتها، وهذه البلدان النامية تعيش في بيئة خالية من الكربون ولم تدخل بعد إلى مرحلة ثورة صناعية.

واليوم، لمواصلة دعم الثمانية مليارات على وجه الأرض، نحتاج إلى أكثر من 53 ألف سفينة تجارية تنقل ستة آلاف منتج في جميع أنحاء العالم، و50 ألف طائرة تنقل الآن أربعة مليارات شخص حول العالم.

ويختتم شتاين مقاله بالقول: ومع عدم وجود خطة احتياطية لاستبدال المنتجات المصنعة من النفط، فإن جهود ليوناردو دي كابريو وجين فوندا ومات ديمون والرئيس جو بايدن لوقف استخدام النفط الخام قد تكون أكبر تهديد للحضارة، وليس تغير المناخ، وتخليص العالم من الوقود الأحفوري، يمكن أن يؤدي إلى مليارات الوفيات بسبب الأمراض وسوء التغذية والوفيات المرتبطة بالطقس، تخيل البرد والبؤس وفقدان الأرواح في ظل سيناريو يحاول فيه ثمانية مليارات، هم سكان اليوم، العيش في عالم منزوع الكربون في أوائل القرن التاسع عشر من دون منتجات ووقود وسائل النقل المتاحة اليوم؟